(65) تفسير سورة الطلاق وبيان الطّلاق الشرعي والبدعي والإحداد
الحمد لله رب العالمين وبه نستعين. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن همزات الشياطين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فقد كانت عامة مجالس النبي ﷺ مع أصحابه؛ إنما هي مجالس وعظ وتذكير بالله، إما بتلاوة القرآن، أو بما آتاه الله من الحكمة والموعظة الحسنة، كما أمره الله بأن يقص ويعظ ويذكر، وأن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة.
وكان يخطب أحيانًا بالسورة من القرآن، ويفسرها لهم، كما قالت أم هشام بنت حارثة: ما أخذت (ق والقرآن المجيد) إلا عن لسان رسول الله ﷺ كان يخطب الناس بها على المنبر؛ لأن الله يقول: ﴿فَذَكِّرۡ بِٱلۡقُرۡءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق: 45] اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك، ويرجو موعودك.
وقد قال ابن مسعود: كنا إذا تعلمنا عشر آيات لم نتجاوزهن حتى نتعلم معانيهن، والعمل بهن[236]. وهذا هو الذي أنزل القرآن لأجله، وإننا الآن نطلب من المستمعين الإصغاء للتذكر بما اشتملت عليه سورة (النساء القصرى)، المسماة بسورة (الطلاق)؛ لأن كثيرًا من العوام قد جهلوا ما اشتملت عليه من الأحكام الزوجية، والحدود الشرعية، فكانوا يقرؤونها مع جهلهم ومخالفتهم لأمرها ونهيها، وحلالها وحرامها، وإنما نزل القرآن للعمل به. ومن المعلوم أن العلم أمانة، يجب إبلاغه وبيانه، ويحرم كتمانه.
يقول الله: بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَ﴾ [الطلاق: 1] وقبل أن نتكلم في الطلاق، نبدأ بالكلام في النكاح، الذي ينجم عنه الفراق فنقول: إن النكاح من سنة الدين، وضرورة من ضروريات حياة الآدميين، وإنما سمي الإنسان إنسانًا من أجل أنسه بغيره، فهو اجتماعي بالطبع، وأحسن من يأنس به هي زوجته التي يحبها وتحبه، والتي خلقها الله كرامة ونعمة للرجل، تجلب إليه الأنس والسرور، والغبطة والحبور، وتقاسمه الهموم والغموم، ويكون بوجودها بمثابة الملك المخدوم، والسيد المحشوم؛ لأنه متى كان للإنسان زوجة تكرمه، وبيت يملكه، وخادم يخدمه، وعنده كفاءة لمعيشته، فإنه معدود من الملوك.
وقد امتن الله على عباده بتذكيرهم بهذه الكرامة والنعمة، قال: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحۡمَةً﴾ [الروم: 21]، وفي الحديث، أن النبي ﷺ قال: «الدُّنْيَا كُلُّهَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ»[237] التي إذا نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله. وقال: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَأَمَانَتَهُ فَزَوِّجُوهُ إِنْ لَا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ»[238].
والعزاب هم أراذل الأحياء وشرار الأموات.
فقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَ﴾ [الطلاق: 1]. وجه الله النداء بهذا الخطاب لنبيه محمد ﷺ، وهو شامل لأمته؛ لأنه المبلغ عن الله وحيه أمره ونهيه.
فالشارع الحكيم يحث على الوفاق بين الزوجين ويكره الطلاق، ويقول الرسول ﷺ فيما رواه مسلم: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً - أي: لا يبغض مؤمن مؤمنة -، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ»[239]، فما استقصى كريم قط، والكمال من رجل وامرأة متعذر، فما من أحد إلا وفيه شيء من النقص، ولكن الناس يتعاشرون بالشرف والمعروف. فكم من امرأة يوجد فيها شيء من النقص؛ إما في الجمال أو الحال أو عدم التدبير، لكن قد تكون ناصيتها ميمونة على زوجها، فتنجب له أولادًا كرامًا، يقومون بنفعه، وينشرون شرف ذكره، ﴿فَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡٔٗا وَيَجۡعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيۡرٗا كَثِيرٗا﴾ [النساء: 19].
فمتى تيسر قران الشخص بامرأة ذات حسب ودين، فليعلم أنه قد تحصل على سعادة عاجلة، وكرامة وافرة، فمن واجب شكر هذه النعمة، معاشرة هذه الزوجة بالإكرام والاحترام، وبحسن الأخلاق وطيب الوفاق. ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ»[240]. وقال: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي»[241].
غير أنه لا يخفى على عاقل، أنه قد يبتلى الرجل الفاضل بنكاح امرأة خرقاء، أو حمقاء، سيئة الطباع بذيئة اللسان، لا توافق طباعه وقد تفسد أوضاعه، كما قد تبتلى المرأة الحسيبة الأديبة، المهذبة العاقلة، فتبتلى بزواج رجل أحمق، سيء الطباع، فاسد الأوضاع، فيسوسها سياسة سيئة بوجه عابس، وكف يابس، فعند ذلك يقع بينهما الشقاق وعدم الوفاق.
لهذا شرع الله الطلاق، وما أحسن الفراق إذا لم تتلاءم الأخلاق، وهذا الطلاق بما أنه مباح ومشروع، لكنه بغيض عند الله، كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «أَبْغَضُ الْحَلاَلِ إِلَى اللهِ الطَّلاَقُ»[242]. لأنه يحدث العداوة والبغضاء بين الأصهار، ويقطع النسل المطلوب في الشرع تكثيره، فمتى دعت الحاجة إليه، وجب أن يراعى فيه حسن الأدب بامتثال أمر الله، واجتناب نهيه، لقوله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَ﴾ [الطلاق: 1]. فينبغي أن يطلقها طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، فهذه العدة التي أمر الله أن تطلق فيها النساء. أما جمع الثلاث بلفظ واحد، فهو بدعة. فقد طلق رجل امرأته ثلاثًا جميعًا، فقام رسول الله ﷺ غضبان فقال: «أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟»[243]. ومن وكل في طلاق امرأة، فإنه لا يملك - أي الوكيل- إلا واحدة، وكذلك الطلاق في طهر قد جامعها فيه، فإنه حرام أيضًا، فالطلاق الشرعي أن يطلقها طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، أو وهي حامل، ثم هو مخير قبل طهرها من عدة الطلاق بين أن يراجعها بلا عقد ولا رضاها، وبين أن يمضي الطلاق. وما دامت في العدة؛ فإنها بمثابة الزوجة، يجب عليه نفقتها وسكناها. يقول الله: ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ إِلَّآ أَن يَأۡتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖ﴾ [الطلاق: 1] فلو مات الزوج قبل أن تخرج من العدة ورثته، لكون الرجعية زوجية، أو ماتت هي في أثناء عدتها ورثها زوجها.
والعدة ثلاث حيض ممن تحيض، أو وضع الحمل إذا كانت حاملاً، وإن كانت آيسة قد انقطع عنها الحيض لكبرها فعدتها ثلاثة أشهر.
ثم قال سبحانه ﴿وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُ﴾ [الطلاق: 1] وحدود الله محرمات، وسمي حدًّا لأنه فصل ما بين الحلال والحرام، كما في الحديث، أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوْهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوْهَا»[244].
إن المسلم متى عمل بأدب الشرع في الطلاق، فطلقها طلقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه، فإنه لا يندم. ويؤجر في عمله بحكم الله، وقد يزول عنه الغضب وسكرته، وتعاوده حسن الفكرة والندم، فيكون زمام امرأته بيده، بحيث يراجعها. وهذا معنى قوله: ﴿لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا﴾ [الطلاق: 1].
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
إن أكثر ما أوقع العوام في الطلاق بالثلاث جميعًا، حتى كأنهم لا يعرفون غيره، عدم تنبيه العلماء لهم على إساءة فعلهم، وكذا الذين يكتبون صكوك الطلاق، أكثرهم من العوام، لا يعرفون سنة الله في الطلاق، والعامي مشتق من العمى، والله يقول: ﴿فَسَۡٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٤٣ بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِ﴾ [النحل: 43-44].
لهذا ذهب بعض العلماء المحققين إلى جعل الثلاث الواقعة بلفظ واحد عن طلقة واحدة، فيجوز للزوج مراجعتها في عدتها، وتبقى معه كحالته السابقة بدون عقد على ما بقي له من سنة الطلاق. وإذا خرجت من العدة قد بانت منه، وحلت لزوج تريده، ويجوز للزوج أن يتزوجها بعقد جديد.
ثم قال: ﴿فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ فَارِقُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖ وَأَشۡهِدُواْ ذَوَيۡ عَدۡلٖ مِّنكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ لِلَّهِ﴾ [الطلاق: 2] فهذا من سنته سبحانه في أدب الوفاق والطلاق، وأنه متى كان للزوج رغبة ومحبة لزوجته، والتزم أن يعاشرها بالمعروف والإحسان، فإن الأمر بيده ما دامت في عدته. أما إذا كان قصده الإضرار بها، أو استدامة بقائها في عصمته، وهو منصرف عنها برغبته، وعدم محبته، وربما قطع عنها نفقته؛ فهذا حرام في شرع الله، وهو من انتهاك حدوده، ومحرماته، ومن ضار، ضار الله به، ومن شاق، شق الله عليه.
ولهذا قال سبحانه: ﴿ذَٰلِكُمۡ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا ٢ وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2-3].
ثم قال: ﴿وَٱلَّٰٓـِٔي يَئِسۡنَ مِنَ ٱلۡمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمۡ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَٰثَةُ أَشۡهُرٖ وَٱلَّٰٓـِٔي لَمۡ يَحِضۡنَۚ وَأُوْلَٰتُ ٱلۡأَحۡمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ يُسۡرٗا ٤ ذَٰلِكَ أَمۡرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُۥٓ إِلَيۡكُمۡۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرۡ عَنۡهُ سَئَِّاتِهِۦ وَيُعۡظِمۡ لَهُۥٓ أَجۡرًا ٥﴾ [الطلاق: 4-5].
إنه لا أبلغ في الوعظ والزجر من هذه الآيات المحكمات، التي تحدد عدد النساء، كل امرأة بحسبها، الآيسة كبيرة السن بثلاثة أشهر، وكذا الصغيرة التي لم تحض، والحامل بوضع حملها ﴿ذَٰلِكَ أَمۡرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُۥٓ إِلَيۡكُمۡ﴾ [الطلاق: 5] للعمل به، وامتثال أمره، واجتناب نهيه.
ثم قال سبحانه: ﴿أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمۡ وَلَا تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيۡهِنَّ﴾ [الطلاق: 6] فأوجب الله سبحانه سكنى المطلقة في البيت الذي تسكن فيه عند زوجها، ما دامت باقية في عدته، حتى لو طال مكثها. وحرام على المرأة أن تخرج من هذا البيت؛ لأن النبي ﷺ قال: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ»[245] أي حتى تتم العدة، وما يقوله بعض العوام من أن المرأة متى طلقت، فإنه حرام أن تبقى عند زوجها في بيته؛ فهذا خطأ، بل يجب عليها أن تبقى في بيت مطلقها ما دامت في عدته، ويجوز لها أن تتزين له، ويجوز أن ينظر إلى وجهها لعل الله يحدث في قلبه محبتها، والرغبة في مراجعتها، إذ الرجعية زوجية، فما دامت في العدة، فحكمها حكم الزوجة، إلا في حالة الجماع، فإنه متى جامعها فقد راجعها على ما بقي له من سنة الطلاق، ومن واجبه أن يشهد على رجعتها، كما أشهد على طلاقها.
ثم قال سبحانه: ﴿وَإِن كُنَّ أُوْلَٰتِ حَمۡلٖ فَأَنفِقُواْ عَلَيۡهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ فَإِنۡ أَرۡضَعۡنَ لَكُمۡ فََٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأۡتَمِرُواْ بَيۡنَكُم بِمَعۡرُوفٖۖ وَإِن تَعَاسَرۡتُمۡ فَسَتُرۡضِعُ لَهُۥٓ أُخۡرَىٰ﴾ [الطلاق: 6].
فهذا حكمه سبحانه في المرأة الحامل، متى طلقها زوجها، فإنه يجب عليه أن ينفق عليها النفقة التامة، ومن لوازمها السكنى والكسوة، وكذا كل مطلقة، فمتى وضعت حملها انقطعت نفقة الزوجية، وابتدأت نفقة الرضاع، فيجب أن يبذل لها أجرة إرضاعها على قدر قدرته، وعلى حسب قلة ماله أو سعته، وهذا معنى قوله: ﴿لِيُنفِقۡ ذُو سَعَةٖ مِّن سَعَتِهِۦ﴾ - وهو الغني المكثر، يجب أن تكون نفقته أكثر - ﴿وَمَن قُدِرَ عَلَيۡهِ رِزۡقُهُۥ﴾ - أي ضيق عليه في رزقه، وهو الفقير المقل - ﴿فَلۡيُنفِقۡ مِمَّآ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ﴾ [الطلاق: 7] على قدر حالته ومعيشته، وفي آية البقرة ﴿لَا تُضَآرَّ وَٰلِدَةُۢ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوۡلُودٞ لَّهُۥ بِوَلَدِهِۦ﴾ [البقرة: 223] يعني أنه متى طلقها، فلا يجوز له أن يضارها بانتزاع ولدها أو ابنتها منها، فإنها أحق بحضانته منه؛ لأنها أعطف وألطف، وأصبر على التربية، وقد جاءت امرأة إلى النبي ﷺ بابن لها فقالت: يا رسول الله: هذا ابني كان بطني له وعاء، وثدي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني. فقال رسول الله: «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي» رواه أحمد، وأبو داود، وصححه الحاكم من حديث عبد الله بن عمرو.
وبقي عدة المتوفى عنها زوجها، فقد ذكرها سبحانه في سورة البقرة قال: ﴿وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗا﴾ [البقرة: 234] فهذا عدة المرأة الخلية من الحمل، فإنها تعتد أربعة أشهر وعشرًا. أما إذا كانت حاملاً، فإن عدتها وضع حملها، حتى لو طال مكثها أو قصر، يقول الله: ﴿وَأُوْلَٰتُ ٱلۡأَحۡمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّ﴾ [الطلاق: 4].
ومن لوازم هذه العدة: التزام الإحداد على الزوج، وهو اجتناب الزينة من الطيب والحناء والكحل والثياب الجميلة المصبوغة للجمال أو الملونة بالنقش، لحديث أم عطية أن رسول الله ﷺ قال: «لَا تَلْبَسُ الْمَرْأَةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلَا تَكْتَحِلُ، وَلَا تَمَسُّ طِيبًا، وَلَا تَخْتَضِبُ»[246] - أي بالطيب. فهذا هو الإحداد. والأحسن أن تحد في الثوب الأسود، أو الأخضر، ولا بأس أن تبدله بغيره من جنسه، ولا بأس أن تغتسل وتتنظف كل وقت، وإن اغتسلت بالسدر فإنه أحسن، ويعمل عمل الصابون. ويجوز أن تغتسل بالصابون الذي ليس له رائحة. ويجوز أن تخرج لنخلها أو حرثها، متى كان لها زرع أو نخل. كما يجوز أن تخرج إلى بيت جارتها لحاجتها لذلك، فقد أمر النبي ﷺ نساء الشهداء بأن يجتمعن في بيت امرأة منهن، فمتى آواهن المبيت ذهبت كل امرأة إلى بيتها. ويجوز أن تذهب للمستشفى لحاجة العلاج، وتكلم الطبيب ويكلمها. فما يفعله بعض النساء المسلمات من التشديد عليها، وكونها تمكث في دار لا تخرج منها، أو لا تكلم أحدًا ولا يكلمها أحد، أو لا تتنظف؛ فكل هذا التشديد خارج عن حدود الشرع، لم يثبت عن رسول الله ﷺ الأمر به، بل تفعل في إحدادها كما تفعل قبل وفاة زوجها، ما عدا أنها تجتنب الطيب والزينة من الحليّ وغيره، وتجتنب الخضاب والكحل، وتستعمل الثياب السود، أو الخضر التي ليس فيها نقش. فهذا هو الإحداد الشرعي لكل امرأة كبيرة السن، أو صغيرة، فهما في الحكم سواء.
[236] أخرجه الحاكم في المستدرك، والبيهقي في الشعب، وعبد الرزاق في مصنفه من حديث عبد الله بن مسعود. [237] أخرجه أحمد ومسلم عن عبد الله بن عمرو. [238] أخرجه الترمذي عن أبي هريرة. [239] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [240] أخرجه الترمذي وابن حبان عن أبي هريرة. [241] أخرجه الترمذي والدارمي عن عائشة رضي الله عنها. [242] رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم عن ابن عمر بن الخطاب وروي مرسلاً ورجح على المسند. [243] أخرجه النسائي من حديث محمود بن لبيد. [244]أخرجه الدارقطني وغيره عن أبي ثعلبة الخشني. [245] أخرجه أصحاب السنن من حديث فريعة بنت مالك. [246] أخرجه ابن ماجه من حديث أم عطية.