(64) فضل حُسن الجوَار
وكونه ينحصر في بَذل النّدَى وتحَمّل الأذى
الحمد لله الكريم الودود، ونشكره ونسأله من فضله الممدود، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة إخلاصها للدين عمود، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المخصوص بالمقام المحمود.
أما بعد:
فإن من حقوق الإسلام الإحسان إلى المساكين والأيتام والجيران. وفي الصحيح أن النبي ﷺ قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ»[224]، وقال: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»[225]. وفي حديث ابن مسعود، أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ، كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللهُ الدِّينَ، فَقَدْ أَحَبَّهُ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يُسْلِمُ عَبْدٌ حَتَّى يُسْلِمَ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ، وَلَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ، وَلَا يَكْتَسِبُ عَبْدٌ مَالًا مِنْ حَرَامٍ، فَيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ، أَوْ يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُتَقَبَّلَ مِنْهُ، أو يَخْلُفُهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلَّا كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ، إِنَّ اللهَ لَا يَمْحُو السَّيِّئَ بِالسَّيِّئِ، وَلَكِنْ يَمْحُو السَّيِّئَ بِالْحَسَنِ، إِنَّ الْخَبِيثَ لَا يَمْحُو الْخَبِيثَ»[226]، وكان النبي ﷺ يحث النساء المسلمات على الإحسان إلى الجيران، ويقول: «يَا مَعْشَرَ نِسَاءِ الْمُسْلِمَاتِ، لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ»[227]. وقال لأبي ذر: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ»[228]. لأن جود الإنسان من موجوده، فإذا لم يقدر على الكثير، لم يبخل بالقليل، ولكل مقام مقال. وقد سبق درهم من فقير مائة درهم من غني.
وكان الصحابة يحملون على ظهورهم، ويتصدقون بأجرتهم، وأفضل الصدقة جهد المقل، وأخبر النبي ﷺ بأن خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره، وحسن الجوار يكون ببذل الندى، ويكون بتحمل الأذى. وكان العرب في جاهليتهم يفتخرون بحسن الجوار، والتفاني في حماية الجار، كما قيل: عَف الإزار ينال جارة بيته إرفادهُ ويجانب الأرْفَاثا فهذا الشاعر يخبر عن كرم هذا الشخص، وحسن أخلاقه، من إحسانه وإحصانه، واحترامه لحرمة جاره، وأنه ينيل جارة بيته أرفاده. أي كرمه ومعروفه.
والنبي ﷺ قال: ««وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ»،قيل: من يا رسول الله؟ قال: «مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»»[229]. ومعنى بوائقه غشمه، وشره، وخيانته. فالذي لا يطمئن منه جاره، ولا يأمنه على بيته وأهله، في حال غيبته وحضرته، ليس بمؤمن؛ لأن المؤمن هو من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم ونسائهم، وخطب النبي ﷺ يومًا فقال: «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لَا تُؤْذُوا المُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ المُسْلِمِ، تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ»[230].
لا تلتمس من مساوي الناس ما ستروا
فيكشف الله سترًا من مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذُكروا
ولا تَعِبْ أحدًا منهم بما فيكا
إن الناس متفاوتون في الأخلاق والأعمال، وفي حسن الجوار، والإضرار بالجار؛ لأن منهم التقي، ومنهم الفاسق، ومنهم الصالح، ومنهم الفاسد، ولهذا يقال: الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق. وأنشدوا:
يقولون قبل الدار جار موافق
وقبل الطريق النهج أنس رفيق
وكان النبي ﷺ يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ جَارِ السُّوءِ فِي دَارِ الْإِقَامَةِ، فَإِنَّ جَارَ الْبَادِي يَتَحَوَّلُ»[231]. وأخبر أن من سعادة الدنيا الجار الصالح، والمرأة الصالحة، والمسكن الواسع، ومن شقاوة الدنيا الجار السوء، والمرأة السوء، والمسكن الضيق.
«جاء رجل إلى النبي ﷺ يشكو جاره، فأمره أن يصبر على أذاه، ثم جاءه مرة ثانية. فأمره أن يصبر، ثم جاءه مرة ثالثة. فقال: «اطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ»، فطرحه. فكان كل من مر به وسأل عنه، سبه ولعنه، فجاء إلى النبي ﷺ يعتذر من سوء فعله، فقال: «إِنَّ اللهَ قَدْ لَعَنَكَ قَبْلَ أَنْ يَلْعَنَكَ النَّاسُ»»[232].
وقيل للنبي ﷺ:«إِنَّ فُلَانَةَ تُذْكَرُ مِنْ صَلَاتِهَا، وَصِيَامِهَا، إِلَّا أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: «هِيَ فِي النَّارِ»»[233]. ولهذا يقول الفقهاء: إن جار السوء عيب تُرَدُّ به الدار شرعًا، وقد اضطر كثير من الناس إلى بيع دورهم الغالية في نفوسهم، من أجل إضرار جيرانهم، وأنشد بعضهم:
يلومونني إذ بعت بالرخص منزلي
وما علموا جارًا هناك ينغص
فقلت لهم كفوا الملامة إنها
بجيرانها تغلو الديار وترخص
نعم إنها بجيرانها تغلو الديار وترخص، فشر الجيران من يتتبع العثرات ويتطلع على العورات، إن رأى حسنة سترها، أو رأى سيئة نشرها، والقرآن والسنة يحثان على التوادد والتواصل بين الجيران، فبدل الناس قولاً غير الذي قيل لهم، فكانوا يتعاملون بالإساءة والقطيعة والهجران، فالرجل لا يسلم على جاره، والمرأة لا تسلم على جارتها، ولعل هذا التقاطع والهجران على أثر نزاع بين النساء والصبيان، ومن الجفاء وعدم الوفاء أن تهجر جارك من السلام، بسبب أمر ليس له شان، فلا يجوز لمسلم أن يهجر جاره فوق ثلاث ليال، يلتقيان، فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام. فمن حق الجار على الجار: إذا لقيه أن يسلم عليه، وإذا دعاه إلى طعام أجاب دعوته، ويعوده إذا مرض، ويقضي حاجته من السوق إذا لم يستطع قضاءها؛ كشيخ كبير، وكامرأة أرملة، ونحوها ليكتسب بذلك الثناء الجميل، والأجر الجزيل.
وكان أبو بكر يحلب غنم جيرانه، حتى إذا ولي الخلافة وجاء ليحلبها منعوه من حلبها، استبقاء له عن المشقة، ثم إن الجيران إذا تزاوروا وتقاربوا، تعاطفوا وتواصلوا، وإذا تباعدوا تنافروا وتقاطعوا، على حد ما قيل:
وإن تدن مني تدن منك مودتي
وإن تنأ عني تلقني عنك نائيًا
كلانا غني عن أخيه حياته
ونحن إذا متنا أشد تغانيا
وفي الحديث «تَهَادَوْا تَحَابُّوا، فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تَسُلُّ السَّخِيمَةَ، وَتُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ»[234]. والجيران ثلاثة، جار له حق، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق؛ فأما الجار الذي له حق، فهو الجار الكافر له حق الجوار، أن تحسن مجاورته، وأن تنيله من معروفك وإحسانك، ولا تقل هذا كافر ليس فيه صدقة، فإن في كل كبد رطبة صدقة، وإذا خرجت الصدقة بنية خالصة، فإنها تقع موقعها في الصحة، والإجزاء:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس
وقد سأل الصحابة النبي ﷺ عن الصدقة على أقاربهم المشركين، فأنزل الله ﴿لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلِأَنفُسِكُمۡۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ ٱللَّهِۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ ٢٧٢﴾ [البقرة: 272] فأمروا بالصدقة عليهم؛ لأن دين الإسلام دين التسامح والتساهل، فهو يوجب للكفار حق الجوار. وكان ابن عمر يقول لأهله: هلا أهديتم إلى جارتنا اليهودية.
وأما الجار الذي له حقان: فالجار المسلم له حق الجوار، وحق الإسلام. وأما الجار الذي له ثلاثة حقوق: فالجار المسلم الرحم.
وإذا اجتمع داعيان من الجيران كل واحد منهما يدعوك إلى الطعام فأجب الذي سبق، وسألت عائشة النبي ﷺ وقالت: «إنه يكون عندي الطعام وأريد أن أهدي منه فعلى من أهدي؟ قال: «على من هو أقرب منك بابًا»»[235].
وورد أن الجار يتعلق بجاره يوم القيامة ويقول: إن جاري ظلمني، فيقول: يا رب، إني لم أظلمه في أهل ولا مال، فيقول: نعم، صدق يا رب، ولكنه رآني أترك الطاعة فلم يأمرني، ورآني أرتكب المعصية، فلم ينهني.
فصار على الجار الساكت عن جاره بحيث لم يأمره بالخير، ولم ينهه عن الشر، جريمة من ذنب جاره؛ لأن المحسن شريك للمسيء إذا لم ينهه، فإذا رأيت الجار يترك الصلاة، وجب عليك أن تنصحه عن ترك الصلاة، وتقول: إن الصلاة عمود دين العبد، وأمانة الرب، وهي تكفر الخطايا، وتعين على الكسب، وعلى سعة الرزق، أو رأيته مصراًّ على شيء من المنكرات، وجب عليك أن تنصحه وتنهاه. ولا يقولن أحدكم: إنه لن يرضى بنصيحتي، أو إنه سينقمني على نصيحته، فإن من التمس رضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه، وأرضى عنه الناس، والمحب النافع، هو من يجرع صديقه المر ليقيه من الوقوع في الضر، ولا نجاة للإنسان من تبعة ذنب جاره أو ولده، إلا بأمره ونهيه، فإذا أمره ونهاه ولم يمتثل، فعند ذلك لا يضره ضلاله ولا معصيته، ويكون ذنبه على جنبه. وهذا معنى قوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَيۡتُمۡ﴾ [المائدة: 105] فالاهتداء المشروط للنجاة، هو أن تأمر بالخير، وتنهى عن الشر. وبعده لا يضرك من ضل، إن الله سبحانه في كتابه، وعلى لسان نبيه، شرع الصلاة جماعة لمصلحة التعارف، والتآلف بين المسلمين، والتقارب بين قلوبهم، بحيث إذا صلى معك جارك في المسجد كل يوم وليلة خمس مرات بحيث تسلم عليه إذا لقيته، ويسلم عليك، وتسأل عنه إذا فقدته، ويسأل عنك، فإن هذا مدعاة للتوادد والتآخي، وإزالة الإحن والشحناء عن الجيران؛ لهذا رأينا الذين تركوا هذه الفريضة، فلم يصلوا مع الجماعة، رأيناهم يمكثون السنة والسنتين متجاورين ولا يعرف أحدهم الآخر، فمن الخطأ كون المسلم إذا وقع بينه وبين جاره شيء من النزاع أو الخلاف، هجر المسجد الذي يصلي فيه الجار، بغضًا للجار. وهذا لا ينبغي أن يفعله؛ لأن المسجد لله، وأفضل ما يصلي الإنسان في المسجد المجاور لبيته؛ لأن صلاته فيه بمثابة عمارته، وإنما يعمر مساجد الله من آمن بالله.
فأفيقوا من رقدتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
[224] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [225] متفق عليه من حديث عائشة. [226] رواه الإمام أحمد وغيره. [227] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [228] رواه مسلم من حديث أبي ذر. [229] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [230] رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه بلفظ: «يفضحه ولو في جوف رحله». [231] رواه ابن حبان في صحيحه من حديث سعد بن أبي وقاص. [232] رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. [233] رواه الإمام أحمد والحاكم من حديث أبي هريرة. [234] البخاري في الأدب المفرد وأبو يعلى بإسناد حسن وعن أنس ورد بمعناه بلفظ: «تَهَادَوْا، فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تَسُلُّ السَّخِيمَةَ» رواه البزار بإسناد ضعيف. [235] أخرجه مالك في الموطأ من حديث عائشة.