(63) الأيمان والنّذور
الحمد لله الولي الحميد، المبدئ المعيد. وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة أرجو بها من فضله المزيد. وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله سيد الأحرار والعبيد. اللهم صل على نبيك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِيٓ أَيۡمَٰنِكُمۡ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلۡأَيۡمَٰنَۖ فَكَفَّٰرَتُهُۥٓ إِطۡعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ مِنۡ أَوۡسَطِ مَا تُطۡعِمُونَ أَهۡلِيكُمۡ أَوۡ كِسۡوَتُهُمۡ أَوۡ تَحۡرِيرُ رَقَبَةٖۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٖۚ ذَٰلِكَ كَفَّٰرَةُ أَيۡمَٰنِكُمۡ إِذَا حَلَفۡتُمۡۚ وَٱحۡفَظُوٓاْ أَيۡمَٰنَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٨٩﴾ [المائدة: 89].
شرع الله سبحانه اليمين التي هي عنوان تعظيم أمر الله، لحفظ حقوق عباده: دمائهم وأموالهم، ولقطع النزاع من بينهم. فمن حلف بالله، فليصدق، ومن حُلِف له بالله، فليرض، ومن لم يرض، فليس من الله.
ومن رحمته سبحانه، أنه عندما يحلف أحدهم على فعل الشيء أو تركه، كأن يقول لصاحبه على سبيل الإكرام: والله لتدخلن بيتي، أو والله لتأكلن ذبيحتي. فيقول له صاحبه: لا والله لا أدخل بيتك، أو لا والله لا آكل ذبيحتك. فإن هذا من لغو اليمين الذي لا كفارة فيها؛ لقول الله سبحانه: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِيٓ أَيۡمَٰنِكُمۡ﴾ . ومثله لو قال: والله إن شاء الله لأفعلن كذا، ثم لا يفعله، فإنها لا تنعقد يمينه.
أما اليمين التي يقتطع بها مال امرئ مسلم، أو يستحل بها دمه، فهي اليمين الغموس الفاجرة، سميت غموسًا، لكونها تغمس صاحبها في الإثم، ثم تغمسه في النار، عياذًا بالله من ذلك.
وفي الحديث: أن النبي ﷺ قال ««مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ». قالوا: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: «وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ»» متفق عليه[206].
واليمين الغموس التي يحلف بها على مال أخيه المسلم، هي من أكبر الكبائر عند الله، كما في البخاري أن النبي ﷺ قال: «الْكَبَائِرُ: الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ»[207]. فقرن اليمين الغموس بالإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله قتلها.
فالذي يحلف على مال أخيه المسلم عامدًا متعمدًا، يعتبر بأنه قد باع نصيبه من الآخرة، بهذا القدر الزهيد الذي حلف عليه. يقول الله سبحانه: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشۡتَرُونَ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ وَأَيۡمَٰنِهِمۡ ثَمَنٗا قَلِيلًا أُوْلَٰٓئِكَ لَا خَلَٰقَ لَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيۡهِمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ ٧٧﴾ [آلعمران: 77] وأخسر الناس من باع آخرته بدنياه، وأخسر منه من باع آخرته بدنيا غيره. والنبي ﷺ خطب الناس فقال: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضٍ أَوْ مِنْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، مِنْ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ»[208]. وقال «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا أَقْضِي عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ، فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ، فَلْيُقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ». متفق عليه من حديت أم سلمة.
فهذه اليمين التي يحلف بها على مال أخيه المسلم، لا تنحل بالكفارة أبدًا، فلا كفارة لها، وإنما تنحل بالتوبة إلى الله، والإقلاع عن الذنب، ورد المظلمة التي حلف عليها إلى صاحبها، لا كفارة لها إلا ذلك. أما كفارة اليمين فكما أخبر الله عنها؛ بأنها إطعام عشرة مساكين من قوت البلد، لكل مسكين مُد من البر أو الأرز. وإن عشى عشرة مساكين من طعامه الذي يأكله، أجزأه ذلك، فإن الله سبحانه ذكر الإطعام ولم يشترط التملك.
وقد أجاز الإمام أبو حنيفة إخراج القيمة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، إذا كان أنفع للفقراء. وتقدر القيمة الكافية في الإطعام في هذا الزمان، بستة ريالات لكل مسكين[209]، أو يكسو عشرة فقراء، رجالاً ونساءً الكسوة المعتادة، بأن يكسو المرأة ما يجزيها لصلاتها، أو عتق رقبة. فمن لم يجد ما يكفر به عن يمينه، فإنه يصوم ثلاثة أيام متتابعة. فهذه كفارة أيمانكم إذا حلفتم.
﴿وَٱحۡفَظُوٓاْ أَيۡمَٰنَكُمۡ﴾. فحفظ اليمين هو أن تكون محترمة في نفس المؤمن، معظمة في اعتقاده، لا يحلف بالله إلا وهو صادق. وإذا حلف وحنث، كفر عن يمينه، وليحذر الكذب في اليمين، فإنها تقطع الأصل والنسل، وتذر الدار خلاء من أهلها. وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «مَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ فَلْيَصْدُقْ، وَمَنْ حُلِفَ لَهُ بِاللَّهِ فَلْيَرْضَ، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِاللَّهِ، فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ»[210].
وكثرة الحلف الكاذب في البيع منفقة للسلعة، لكنها تمحق الكسب. نسمع من بعض الناس يقولون: الله يكره اليمين صادقة أو كاذبة. فإن الصادقة غير مكروهة ولا مذمومة، ولا يلام عليها من حلف بها. فإن اليمين شرعها الرب الحكيم لقطع النزاع والخصام، ولحفظ الدماء والأموال، كما شرع الله الصلاة والصيام. فالمؤمن يُخلص بها حقه من خصمه الجاحد لحقه، ويحق بها كلمة العذاب على الكاذب. وقد حلف عثمان بن عفان على مال له. وحلف ابن عمر، وحلف أشخاص من الصحابة على حقوق لهم مالية. ولما قيل لبعضهم، كيف تحلف على مال؟ قال: كيف لا أحلف على حقي والله سبحانه قد أمر نبيه في كتابه بأن يحلف على إثبات الحق؟ وقد حلف النبي ﷺ في بضعة وثمانين موضعًا. فمتى كان للإنسان حق في نفسه، وقد جحده خصمه فتوجهت اليمين عليه فيه، فإنه يحلف ليتحصل على ماله بيمينه، وينقذ خصمه من ظلمه. كما حكم النبي ﷺ بالبينة على المدعي، واليمين على من أنكر، وحكم باليمين مع الشاهد.
أما اليمين المبتدعة، التي يجب اجتنابها فهي اليمين بالطلاق، الذي هو يمين الفُسّاق. تجد بعض الناس إذا حلف له خصمه بالله، قال له: ما أرضى حتى تحلف بالطلاق. واليمين بالله أعظم حرمة من اليمين بالطلاق؛ لأن اليمين بالطلاق معدودة من البدع، وحيث إنه كثر الوقوع من الناس فيه، فإنه لابد أن نتكلم عن الحكم فيه، فنقول: من حلف بالطلاق على إنسان أن يدخل بيته، أو أن يأكل ذبيحته، فأصر المحلوف عليه على الامتناع، فلم يدخل البيت، ولم يأكل الذبيحة، فإنه لا ينعقد يمينه، وليس عليه كفارة لاعتبار أنه من لغو اليمين الذي لا كفارة فيه؛ لأن من شرط وجوب الكفارة كونه يحنث مختارًا، وهذا قد حنث مكرهًا، فلا كفارة عليه.
ولو حلف إنسان بالطلاق على فعل شيء أو منعه، بأن قال: عليّ الطلاق أني لا آكل من طعامك. فأكل منه، أو قال: عليّ الطلاق أن لا آكل من ذبيحة تذبح لي فأكل منها، أو قال: عليّ الطلاق أن أعطيك هذا الشيء فلم يعطه، أو قال: علي الطلاق أن لا تخرج زوجتي من بيتي فخرجت بإذنه، ونحو ذلك من الكلام. فمتى حلف على ذلك فحنث في يمينه، فنحن نفتي بأنها لا تطلق امرأته، وإنما عليه كفارة يمين، لإلحاقها بالإيمان المكفرة.
كما حكى ابن القيم إجماع الصحابة على ذلك، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأن هذا الحالف لم يقصد طلاق زوجته، وإنما أراد تأكيد ما حلف عليه من منع زوجته لا غير، أو لا يأكل من ذبيحة تذبح له رفقًا بصاحبه. فهو إنما يريد إكرام صاحبه وعدم تكليفه، فمتى ذبح الذبيحة وأكل منها، فإن عليه كفارة اليمين لا غير، وأكله من هذه الذبيحة أفضل من إصراره على الامتناع؛ لما فيه من إدخال السرور على أخيه المسلم. ولا تَطْلقُ زوجته.
أما اليمين المنعقدة التي يجب لها الكفارة؛ فهي اليمين التي يؤكدها صاحبها على نفسه، بأن يحلف بأن لا يدخل دار فلان ثم يدخلها، أو يحلف بأن لا يأكل طعام فلان ثم يأكله، أو يحلف بأن لا يأكل من ذبيحة تذبح له ثم يأكلها. فهذه هي اليمين المنعقدة. فمتى حلف عليها ثم حنث فيها لزمته الكفارة. على أن المؤمن لا ينبغي له أن تمنعه يمينه عن فعل البر والخير والصلة والأفعال الحسنة مع رحمه أو جاره، بأن يحلف أن لا يسلم على رحمه أو على جاره، أو لا يأكل من طعامه، أو لا يدخل داره، ونحو ذلك مما يمتنع من فعله بيمينه فلا ينبغي للمسلم أن يصر على هذه اليمين، حتى إذا قيل له: لِم لم تسلم على قريبك أو جارك؟ قال: علي يمين أن لا أكلمه، ولا أسلم عليه. يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَجۡعَلُواْ ٱللَّهَ عُرۡضَةٗ لِّأَيۡمَٰنِكُمۡ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصۡلِحُواْ بَيۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٞ ٢٢٤﴾ [البقرة: 224]. أي لا تجعلوا أيمانكم بمثابة العرضة التي تردكم عن فعل البر والخير والصلة.
وفي الحديث أن النبي ﷺ قال لعبد الرحمن بن سمرة: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ»[211].
وفي البخاري عن أبي موسى الأشعري قال: «أتينا معشر الأشعريين إلى رسول الله ﷺ نسأله رواحل نتحمل عليها إلى الجهاد في سبيل الله، فصادفنا عنده خلقًا من الناس يسألونه الحملان، فقال: «والله لا حملتكم، والله لا حملتكم» ثم انصرفنا إلى بيوتنا، ولم نشعر إلا بمنادي رسول الله ﷺ يدعونا، فآتيناه، فقال: «إني قد أمرت لكم برواحل» قلنا: يا رسول الله، لعلك نسيت أنك قد حلفت أن لا تحملنا. قال: «نعم إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها، إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني»».
إن ثمرة الاستماع الاتباع، فكل من كان بينه وبين رحمه أو جاره شيء من الهجران والتقاطع، أو حلف بأن لا يكلمه، أو لا يسلم عليه، أو لا يأكل من طعامه، فإنه يجب عليه أن يعفو ويصفح احتسابًا للثواب، وخوفًا من العقاب، وأن يسلم عليه، ويجيب دعوته، ويأكل طعامه، ويكفر عن يمينه، حتى يسلم له دينه.
ففي الحديث، أن النبي ﷺ قال: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الْحَسَدُ، وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ: الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ»[212].
ومن الأيمان المبتدعة، الحلف بغير الله، كأن يحلف برأسه، أو برأس ولده، وحتى الحلف بالرسول لا يجوز، لحديث: «مَنْ كَانَ حَالِفاً، فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ»[213]. وقال: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ، أَوْ أَشْرَكَ»[214]. وقال: «مَنْ حَلَفَ بِالْأَمَانَةِ فَلَيْسَ مِنَّا»[215]. لأن الحلف بالله داخل في عموم العبادة التي لا تنبغي إلا لله، ففي الحديث «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ، وَلَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ» ومثله قول بعضهم أنا يهودي إن فعلت كذا، أو أنا نصراني إن لم أفعل كذا، فهذه أيضًا من الأيمان المنكرة.
ففي البخاري أن النبي ﷺ قال: «مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ»[216]. «وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ»[217]، وفي الحديث الآخر قال: «من قال أنا يهودي أو أنا نصراني إن فعلت كذا، فإن كان كاذبًا فهو كما قال، وإن كان صادقًا فلن يرجع إلى الإسلام سالما»[218]. نعوذ بالله من منكرات الأخلاق والأقوال والأعمال.
أما حكم النذر المشروع والممنوع: فلنعلم أن النذر ليس بمستحب، لكونه يوجب على نفسه شيئًا لم يوجبه الله عليه. وقد قال النبي ﷺ: «النَّذْرُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ»[219]. فمتى نذر نذرًا مباحًا لزمه ما التزمه.
وهو إما نذر طاعة أو نذر معصية. فنذر الطاعة هو: أن يقول لله علي نذر إن شفى الله مريضي أو تزوج ولدي، أو رجع فلان من سفره، أن أصوم لله كذا، أو أتصدق بكذا، أو أصلي كذا وكذا. فهذا نذر طاعة يجب الوفاء به، وقد مدح الله الذين يوفون بالنذر.
وفي الحديث: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ، فَلْيُطِعْهُ»[220] ومثله من نذر أن يذبح ذبيحة أو ذبيحتين فإنه يجب الوفاء به. ومن عجز عن وفاء ما نذره من الصيام أو الحج وغيره، لكبر أو مرض ونحوه، أو عدم استطاعة، فإن عليه كفارة يمين، كما في الحديث: أن رجلاً يكنى أبا إسرائيل نذر أن يحج حافيًا، وأن لا يستظل، فأمره النبي ﷺ بأن يركب ويستظل، ويكفر عن يمينه.
ومن مات وعليه نذر من صلاة أو صيام أو صدقة استحب لوليه أن يقضي نذره عنه، فقد جاءت امرأة إلى النبي ﷺ، فقالت: يا رسول الله، إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت. أفأحج عنها؟. قال: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ». رواه البخاري من حديث ابن عباس. وقال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ». متفق عليه من حديث عائشة. وفسره الإمام أحمد بصوم النذر، فإنه الذي يجب قضاؤه. أما نذر المعصية فهو كمن نذر أن لا يكلم رحمه، أو لا يسلم عليه، ولا على جاره، أو لا يدخل بيته، أو لا يأكل طعامه، أو نذر أن لا يزوج ابنته إلا بشخص لا ترغب البنت نكاحه، فلا يجوز الوفاء به لحديث: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ، فَلاَ يَعْصِهِ»[221].
ومثله ما يفعله أهل فارس، من كون أحدهم ينذر ماله لشخص معين، لقصد الفرار به من الوارث. فهذا نذر مبتدع غير مشروع، فلا يجوز الوفاء به؛ لأن فيه إبطالاً لفرائض الله. والله قد أعطى كل ذي حق حقه، والنبي ﷺ قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ»[222].
فهذا نذر معصية وفي الحديث «مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَمْ يُسَمِّهِ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ»[223] ومن نذر نذرًا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا في معصية فكفارته كفارة يمين.
والنذر هو بمثابة العهد الذي يعاهد الإنسان عليه ربه أن يفعله. وفي القرآن ما يدل على ذم عدم الوفاء به. قال سبحانه: ﴿وَمِنۡهُم مَّنۡ عَٰهَدَ ٱللَّهَ لَئِنۡ ءَاتَىٰنَا مِن فَضۡلِهِۦ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ٧٥ فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُم مِّن فَضۡلِهِۦ بَخِلُواْ بِهِۦ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعۡرِضُونَ ٧٦ فَأَعۡقَبَهُمۡ نِفَاقٗا فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ يَلۡقَوۡنَهُۥ بِمَآ أَخۡلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ ٧٧﴾ [التوبة: 75-77].
وفي الصحيحين عن عمران بن حصين أن النبي ﷺ قال: «خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، - لَا أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ مرتين أو ثلاثة - ثم يجيء قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ»[224].
فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنم مؤمنين.
[206] من حديث أبي أمامة. [207] متفق عليه من حديث أنس. [208] رواه البخاري والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه. [209] يتم تقدير قيمة الفطرة كل سنة بحسب قيمة مكوناتها في السوق عن طريق الجهة المختصة في كل بلد. [210] رواه ابن ماجه بإسناد حسن عن ابن عمر رضي الله عنهما، وله رواية من حديث بريدة رضي الله عنه. [211] متفق عليه عن عبد الرحمن بن سمرة. [212] رواه الإمام أحمد في مسنده ومسلم والترمذي والضياء. [213] متفق عليه من حديث ابن عمر. [214] رواه الترمذي وحسنه وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرطهما. [215] رواه أبو داود من حديث بريدة بن الحصيب. [216] رواه البخاري من حديث ثابت بن الضحاك. [217] متفق عليه من حديث ثابت بن الضحاك. [218] متفق عليه من حديث ثابت بن الضحاك. [219] متفق عليه من حديث ثابت بن الضحاك. [220] رواه البخاري عن عائشة. [221] رواه الإمام أحمد في مسنده والبخاري وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه عن عائشة. [222] رواه مسلم من حديث عائشة. [223] رواه ابن ماجه وإسناده حسن من حديث عقبة بن عامر الجهني. [224] متفق عليه ورواه أبو داود والترمذي والنسائي عن عمران بن حصين.