(56) فضل الصّدَقة والنفقة في وجوه البّر والخَير
الحمد لله الذي عمت نعمه جميع مخلوقاته، فأبى أكثر الناس إلا كفورًا. أنزل الآيات المحكمات الدالة على فضل الصلاة وأداء الزكاة وبسط اليد بالصدقات، فعميت بصائر الأكثرين، فما زادتهم إلا نفورًا. وأشهد أن لا إله إلا الله، المتفضل بالإحسان والإنعام منًّا منه وتيسيرًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرًا ونذيرًا. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله وأطيعوه، وامتثلوا أمر ربكم ولا تعصوه، فإن أطعتموه لم يصل إليكم شيء تكرهونه، وإن عصيتموه عاقبكم بما لا تطيقونه. واعلموا رحمكم الله - أن من عرف الله معرفة صحيحة عبده عبادة صحيحة، ومن شرح الله صدره للإسلام، ونور قلبه بالإيمان، قبل الوعظ والنصيحة. ومن أَمِن مكر الله، وترك فرائض الله، وتجرأ على معاصي الله، أذاقه الله لباس الجوع والخوف والفضيحة، وعلى قدر جهل العبد بربه، وتقصيره بأداء واجب حقه، تصدر عنه أعماله القبيحة، وإن الله يقول: ﴿مَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَنُحۡيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةٗ طَيِّبَةٗۖ وَلَنَجۡزِيَنَّهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٩٧﴾ [النحل: 97] فَوَعَد الله - ووَعْدُه حقٌّ وصدق- كل من عمل صالحًا من صلاة وزكاة وصيام وصدقة وإحسان إلى الفقراء والمساكين والأيتام، فمن عمل هذه الأعمال وهو مؤمن وسعى سعيه لكسب المال الحلال، أحياه الله حياة سعيدة طيبة، يجد لذتها في قلبه، وتسري بالصحة والسرور على سائر جسمه، ويكون سعيدًا في حياته، سعيدًا بعد وفاته، ويكون من أولياء الله المقربين، وحزبه المفلحين.
وإن من حكمة أحكم الحاكمين، أن الله خلق الناس متفاوتين، فمنهم الغني ومنهم الفقير، ومنهم السخي ومنهم البخيل، ومنهم العاصي ومنهم المطيع، فأوجب في مال الغني حقًّا واجبًا لأخيه المعْوِز الفقير، ليمتحن بذلك صحة إيمان المدعين، وَجُود الأسخياء المتصدقين، وشح البخلاء النذلاء الهلعين.
وليعلم الكل علم اليقين: أن الله خلق الدنيا فجعلها منحة لأقوام، ومحنة على آخرين؛ لأن كسب المال من حله ثم الجود بأداء واجب حقه، يعد من مفاخر الدنيا، وإنه لنعم الذخر للأخرى، فقد ذهب أهل الدثور بالأجور، والدرجات العلى. فإنفاق المال في سبيل الصدقات، وسائر وجوه الخيرات، هو منجاة من الفقر، وتجارة رابحة في الأجر، وهو من أسباب الوفر والإكثار فما نقصت الصدقة مالاً بل تزيده ﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ﴾ [سبأ: 39] فلو جربتم لعرفتم، فقد قيل: من ذاق عرف، ومن حُرم انحرف، «وَمَا طَلَعَتْ شَمْسٌ يوم إِلَّا وَمَلَكَانِ يُنَادِيَانِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ، فَإِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى، اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلْفًا، وَأَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا»[144]. وفي الأثر: «إِنَّ اللهَ يَقُوْلُ: يَا ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ»[145]. وقال النبي ﷺ لأسماء بنت أبي بكر «أَعْطِي وَلَا تُوْكِي فَيُوْكِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ»[146]، يقول الله: ﴿وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسۡتَخۡلَفِينَ فِيهِۖ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَأَنفَقُواْ لَهُمۡ أَجۡرٞ كَبِيرٞ﴾ [الحديد: 7].
وقد ضرب الله لكم مثلاً فاستمعوه واتبعوه، يقول الله سبحانه: ﴿مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنۢبَتَتۡ سَبۡعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنۢبُلَةٖ مِّاْئَةُ حَبَّةٖۗ وَٱللَّهُ يُضَٰعِفُ لِمَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ ٢٦١﴾ [البقرة: 261] فهذا مثل ضربه الله للذين ينفقون أموالهم في طاعة الله، وإن الدرهم الواحد بسبعمائة درهم. وهذه المضاعفة الفاخرة حاصلة للمتصدق في الدنيا قبل الآخرة. ففى الدنيا يدرك المتصدق سعة الرزق وبسطته، ونزول البركة فيه، حتى في يد ذريته من بعده ﴿وَمَن يَبۡخَلۡ فَإِنَّمَا يَبۡخَلُ عَن نَّفۡسِهِۦ﴾ [محمد: 38] أي يبخل بالفضل والبركة في حياته، ويبخل بالأجر المدخر له في آخرته بسبب صدقته.
وصدق الله العظيم ﴿ٱلشَّيۡطَٰنُ يَعِدُكُمُ ٱلۡفَقۡرَ وَيَأۡمُرُكُم بِٱلۡفَحۡشَآءِ﴾ - أي البخل فسمى الله البخل فاحشة - ﴿وَٱللَّهُ يَعِدُكُم مَّغۡفِرَةٗ مِّنۡهُ﴾ - لذنوبكم- أي بصدقتكم- ﴿وَفَضۡلٗا﴾ - أي سعة وبركة في أموالكم - ﴿وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ﴾ [البقرة: 268] وقال: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾ [الحشر: 9].
إن الله سبحانه ذكر الإنفاق في كتابه المبين، بأساليب كلها تحفز الهمم، وتنشط الأمم، وتبسط الأكف بالكرم، كقوله: ﴿مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗ﴾ [البقرة: 245] وهذه المضاعفة الفاخرة حاصلة للمتصدق في الدنيا قبل الآخرة، بحيث يزداد ماله نموًا وبركة، وكقوله: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتۡلُونَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ يَرۡجُونَ تِجَٰرَةٗ لَّن تَبُورَ ٢٩ لِيُوَفِّيَهُمۡ أُجُورَهُمۡ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضۡلِهِۦ﴾ [فاطر: 29-30] أي يزيد من فضل الدنيا وسعتها، والبركة فيها ﴿وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقۡنَٰكُم مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنِيٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ١٠﴾ [المنافقون: 10]. فالقرآن مملوء بذكر الحث على الصدقة والإحسان.
فهذه الآيات وأمثالها، هي بمثابة الهزة والزلزال لقلوب الرجال، فقلب لا يلين لها، ولا يندفع للبذل في سبيلها، هو قلب خال من الإيمان، لم تمسه نفحة من نفحات الرحمن، قلب خال من الخير، فائض بالبخل والخبث والشر، جبار السماوات والأرض يتودد إلى عباده الموسرين، بأن يعطوا ويتصدقوا بفضل ما أوتوا على إخوانهم المعوزين من الفقراء والمساكين؛ لأن الله أوجب في أموال الأغنياء حقًّا معلومًا للسائل والمحروم، يقول الله سبحانه: ﴿وَءَاتِ ذَا ٱلۡقُرۡبَىٰ حَقَّهُۥ وَٱلۡمِسۡكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرۡ تَبۡذِيرًا ٢٦﴾ [الإسراء: 26] والصحابة الكرام لما سمعوا داعي القرآن يدعوهم إلى الصدقة والإحسان ساحت أيديهم بالندى، كما سمحت نفوسهم بالفداء، حتى إنهم يحاملون على ظهورهم، ويتصدقون. كما في البخاري: عن أبي مسعود البدري، قال: حث النبي ﷺ على الصدقة، ولم يكن عندنا مال، فكنا نحامل على ظهورنا ونتصدق. لأنه ليس للإنسان من ماله إلا ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدق فأبقى. وأنه ما أنفق أحد نفقة في سبيل الحق؛ من زكاة وصدقة وصلة إلا عوضه الله عنها ما هو أكثر منها. وما بخل أحد بنفقة واجبة من زكاة وصدقة وصلة، إلا أتلف الله عليه ما هو أكثر منها، فمن رزقه الله من هذا المال رزقًا حسنًا فليبادر بأداء زكاته، وبالصدقة منه، سرًّا وعلنًا، حتى يكون أسعد الناس بماله، فإن مال الإنسان ما قدم، ومال الوارث ما خلف. ﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ﴾ [سبأ: 39] ﴿وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾ [التغابن: 16].
إن الأمة أو القبيلة المتصفة بالسخاء بالمال، ويقومون بالتعاون على الأعمال فيكفل غنيها فقيرها، ويعول قويها ضعيفها، فإنه لا بد أن تتسع تجارتها، وأن تتوفر سعادتها، وأن يدوم على أفرادها النعمة إذا استقاموا على هذه الخلة.
ومن العار أن تنعم ورَحِمُك بائس، وأن تشبع وجارك جائع، وَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّدَقَةِ أَنْ تَتَصَدَّقَ، وَأَنْتَ صَحِيح شَحِيح، تَأْمُلُ الْغِنَى، وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الرُّوحُ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلاَنٍ كَذَا، وَلفُلاَنٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ[147]. وقد حذركم الله عن هذا الندم قبل الوقوع فيه فقال: ﴿وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقۡنَٰكُم مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنِيٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ١٠﴾ [المنافقون: 10].
أما الأمة التي غمرها الله بنعمته، وفضلها بالغنى على كثير من خلقه، ثم يجمد قلب أحدهم على حب ماله، وتنقبض يده عن أداء زكاته والصدقة منه، والصلة لأقاربه، والنفقة في وجوه البر والخير الذي خلق المال لأجله، إنه لرجل سوء وتاجر فاجر، قد بدل نعمة الله كفرًا، وأحل بغناه دار البوار، فلا خير في مال بعده النار:
خلقوا وما خلقوا لمكرمة
فكأنهم خلقوا وما خلقوا
رزقوا وما رزقوا سماح يد
فكأنهم رزقوا وما رزقوا
فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
[144] أخرجه ابن حبان من حديث أبي الدرداء. [145] أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي هريرة. [146] أخرجه الإمام أحمد من حديث أسماء بنت أبي بكر. [147] متفق عليه من حديث أبي هريرة.