(54) الوصية في حالة الصِّحّة وكونها من الحَزم وفعل أولي العَزم
الحمد لله العفو الغفور، الرؤوف الشكور، الذي وفق من أراد هدايته لمحاسن الأمور، ومكاسب الأجور، فعملوا بحياتهم أعمالاً صالحة لوفاتهم، يرجون بها تجارة لن تبور، وأشهد أن لا إله إلا الله بيده مواقيت الأعمار، ومقادير الأمور، وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله، الداعي إلى كل عمل مبرور، اللهم صل على نبيك ورسولك، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن الله سبحانه خلق الناس، وخلق لهم الدنيا بما فيها من الخيرات، والفواكه والثمرات، ليتمتعوا بها إلى ما هو خير منها، ابتلاء وامتحانًا، ليبلوهم أيهم أحسن عملا. كلوا من رزق ربكم واعبدوه، واشكروا له، إليه ترجعون.
كتب سبحانه على الدنيا الفناء، وعلى الآخرة البقاء، ولا بقاء لما كتب عليه الفناء ﴿يَٰقَوۡمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا مَتَٰعٞ وَإِنَّ ٱلۡأٓخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلۡقَرَارِ ٣٩ مَنۡ عَمِلَ سَيِّئَةٗ فَلَا يُجۡزَىٰٓ إِلَّا مِثۡلَهَاۖ وَمَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ يُرۡزَقُونَ فِيهَا بِغَيۡرِ حِسَابٖ ٤٠﴾ [غافر: 39-40].
فسمى الله الدنيا دار متاع. والمتاع ما يتمتع به صاحبه برهة ثم ينقطع عنه، مأخوذ من متاع المسافر. ﴿أَرَضِيتُم بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا مِنَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [التوبة: 38]. وقال: ﴿وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ﴾ [الحديد: 20].
وقد جعل الله الدنيا مزرعة للآخرة، تزرع فيها الأعمال الصالحة والأعمال السيئة، فمن زرع خيرًا حصد خيرًا، ومن زرع شرًّا حصد شرًّا، ولكل زارع ما زرع.
غدًا توفى النفوس ما عملت
ويحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم
وإن أساؤوا فبئس ما صنعوا
فما عيبت الدنيا بأكثر من ذكر فنائها، وتقلب أحوالها، وهو أدل دليل على زوالها، فتتبدل صحة الإنسان فيها بالسقم، ونعيمه بالبؤس، وحياته بالموت، وعماره فيها بالخراب، والاجتماع فيها بفرقة الأحباب، وكل ما فوق التراب تراب.
فلا تصفو لأحد بحال، محفوفة بالأنكاد والأكدار، وبالشرور والأضرار، وبالهموم والغموم والأحزان، فلا يهذبها ويصفيها سوى الدين، وطاعة رب العالمين.
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا
وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
إن المؤمنين يعلمون بطريق اليقين أنهم في الدنيا بمثابة الغرباء المسافرين، وأن لهم دارًا غير دار الدنيا، هي دار الآخرة دار البقاء، فهم يتزودون للنقلة إليها، لعلمهم أن الدنيا دار فناء، وأن الآخرة هي دار القرار، فهم يتزودون من الدنيا للفوز بالآخرة. ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰ﴾ [البقرة: 197].
قد نادت الدنيا على نفسها
لو كان في العالم من يسمع
كم واثق بالعمر أفنيته
وجامع بددت ما يجمع
لها في كل حين قتيل من الناس، فمنهم من يموت بالحرق، ومنهم من يموت بالغرق، ومنهم من يموت بالصدم، ومنهم من يموت بانقلاب السيارة، ومنهم من يموت فجأة بداء السكتة، تنوعت الأسباب والموت واحد. ومع هذا كله، قد انخدع أكثر الناس فيها بطول الأمل عن تصحيح العمل، والتأهب للأجل.
وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ، وَيَشِبُّ مَعَهُ اثْنَتاَنِ: الْحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا، وَطُولُ الأَمَلِ»[116]. فالحرص على الدنيا المذموم، كونه يتناول المال عن طريق الحرام، وكونه يشغله ماله عن عبادة ربه وعن أداء واجباته، من صلاته وزكاته، كما أن طول الأمل المذموم هو الذي يمنع صاحبه عن تصحيح عمله، وتحسين خاتمة عمره، فتراه يندفع إلى فعل الأمر المحظور عليه، ويقول: سأعمل ثم أتوب، وقد يفاجئه الأجل قبل التوبة.
فالمسلم العاقل؛ يجب عليه أن يأخذ بالحزم، وفعل أولي العزم، من التوثق في أمور حياته لما بعد وفاته؛ لما في الصحيح من حديث ابن عمر أن النبي ﷺ قال: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ»[117]. وكان العقلاء من السلف الصالح يتأهبون بكتابة وصاياهم، وتخليدها في حالة صحتهم، عملاً بوصية رسول الله ﷺ لهم، وأخذًا بالحزم في حياتهم.
وتتأكد الوصية في حق من عليه حقوق الناس. وأحق شيء يوصي به الشخص هو الخروج من المظالم، وأداء الديون، وحقوق الناس؛ لأن هذه من الأمور التي لا يترك الله منها شيئًا.
وفي الحديث أن النبي ﷺ قال «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ»[118]. ولما ضمن أبو الدرداء دين الميت قال له رسول الله ﷺ: «هل أديت دين الميت؟» قال: نعم. قال: «الآن بردت عنه جلدته»[119]. فعلمنا من هذا الحديث أن الميت لا يبرأ بضمان الحي لدينه، وإنما يبرأ بأداء الدين إلى صاحبه.
ويجب أن يراعي العدل، ويجتنب الحيف في وصيته، فلا يفضل بعض ورثته على بعض، لا في العطية، ويكل أمرهم إلى ربهم ﴿إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَا﴾ [النساء: 135].
فالمبرور بالطريق الجنف مضرور. كما أن المحروم من حقه مرحوم، أي تسبق له الرحمة من الله، ثم إنه قد شاع بين الناس من عوائدهم الوصية بالثلث، كأنه من الأمر الواجب على كل أحد، سواء كان غنيًّا أو فقيرًا، وهذا خطأ. فإن الوصية بالثلث ليست مستحبة لكل أحد. فالمقل من المال الذي ليس عنده مال كثير، وقد يكون له عيال صغار كثيرون فإن ترك الوصية في حقه أفضل من الوصية بالثلث؛ لأن ما يخلفه من المال لعياله وورثته فإنه بمثابة الصدقة منه عليهم، كما في الصحيح أن النبي ﷺ قال: «إِنَّكَ إِنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ. وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا آجَرَكَ اللهُ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِيِّ امْرَأَتِكَ»[120]. ولأن الوصية بالثلث، يحرج عياله ببيع بيتهم الذي يسكنون فيه في حياتهم لأن بيعه من لوازم تصفية الثلث، فترك الوصية للمقل من المال خير من الوصية.
ومثله الوصية بالأضحية؛ فإن الأضحية إنما شرعت في حق الحي شكرًا لبلوغ عيد الإسلام، أما الميت فلا أضحية له. فمن أراد أن يضحي عن والديه الميتين فإن الصدقة أفضل في حقهما.
أما الغني المكثر من المال، الذي له عقارات، وأسهم في الشركات وفي البنوك، له ديون عند الناس وقد يكون عليه حقوق للناس. فالوصية بالثلث جائزة في حقه. لكن فيها نوع حرج ومشقة على الوصي، وعلى الورثة لصعوبة التخلص من الثلث الذي يشمل كل شيء، والذي ننصح به وندعو إليه هو: أن يوصي بشيء معلوم من المال، ثم ينظر إلى أرحامه وجيرانه وفقراء بلده، فيوصي لكل واحد منهم بشيء معلوم، يأخذه قبل أن يأخذ الوارث حقه.
وإن أراد أن يوصي لبعض أرحامه بشراء بيت فعل، أو بناء مسجد وبيت يسكنه إمام المسجد فعل، فإن هذا طريق الوصية الصحيحة، وإن أوصى بوقف عقار في عمل البر والخير فحسن، وهي أسهل في حق الوصي والورثة. فما نفع الإنسان مثل اكتسابه لنفسه، دون أن يتكل في تنفيذ وصيته على غيره، ولا ينسى فعل الخير في حالة حياته وصحته.
ففي الصحيحين: جاء رجل إلى النبي ﷺ، فقال: يا رسول الله، أي الصدقات أعظم أجرًا؟ قال: «أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحيحٌ، تَأْمُلُ الْغِنَى، وَتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلَا تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الرُّوْحُ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلاَنٍ كَذَا، وَلِفُلاَنٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ كَذَا»[121]. وروى أبو داود عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ: «لَأَنْ يَتَصَدَّقَ المَرْءُ في حَيَاتِهِ بِدِرْهَمٍ خَيْرٌ لهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمائَةٍ عِنْدَ مَوْتِهِ».
فالوصية بالمعروف مشروعة بالكتاب والسنة، وفي الصحيح أن النبي ﷺ قال: «إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقةٍ جَاريَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»[122].
والوصية الواقعة موقعها من الصحة، هي من قبيل الصدقة الجارية، التي يجري أجرها لصاحبها بعد موته. والنبي ﷺ قال: «أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مَفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ وَعِزَّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ»[123].
ثم إن هذا الموت الذي يفزع الناس منه، والذي أفسد على أهل النعيم نعيمهم في الدنيا، ليس هو فناء أبدًا. لكنه انتقال من دار إلى دار أخرى ليجزي فيها الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
فلا يجزع من الموت إلا الذي لم يقدم لآخرته خيرًا، فهو يكره الموت لكراهته لقاء ربه من أجل ما قدمه من سوء عمله، أما المؤمن الذي قدم لآخرته عملاً صالحًا، فإنه لا يكره الموت حين نزوله به، لفرحه بلقاء ربه وثواب عمله. فإن من قدم خيرًا أحب القدوم عليه؛ ولأن «صنائع الإحسان تقي مصارع السوء». والنبي ﷺ قال في الحديث الصحيح: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ».
قال بعض من سمعه من الصحابة كلنا يكره الموت يا رسول الله. فقال: «إنه ليس الأمر كذلك، ولكن الإنسان إذا كان في انقطاع من الدنيا وأقبل على الآخرة، فإن كان من أهل الخير بشر بالخير، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه. وإن كان من أهل الشر بشر بالشر، فكره لقاء الله وكره الله لقاءه»[124].
لهذا يقال للمؤمن عند الاحتضار: ﴿يَٰٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ ٢٧ ٱرۡجِعِيٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةٗ مَّرۡضِيَّةٗ ٢٨ فَٱدۡخُلِي فِي عِبَٰدِي ٢٩ وَٱدۡخُلِي جَنَّتِي ٣٠﴾ [الفجر: 27-30]. كما يقال للفاجر: يا أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب. وهكذا حال الناس لا يخرجون عن هذين الوصفين، فواجب العاقل أن ينظر في أي الفريقين هو.
وكان النبي ﷺ إذا رأى شيئًا من زهرة الدنيا وزينتها فأعجبه قال: «اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَهْ»[125]. يشير بهذا إلى أن عيش الإنسان في الدنيا زائل ومنقطع لا محالة وأن العيش الدائم الصافي هو ما يتحصل عليه المؤمن بعد موته، حين ينتقل من حياة الدنيا إلى حياة الآخرة، وإذا دخل أهل الجنة الجنة، وذاقوا حلاوة نعيمها وما أعد الله لهم فيها، فعند ذلك يتذكرون حالتهم في الدنيا وما أصابهم من الأنكاد والأكدار، والهموم والأحزان، فيقولون: ﴿وَقَالُواْ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَذۡهَبَ عَنَّا ٱلۡحَزَنَۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٞ شَكُورٌ ٣٤ ٱلَّذِيٓ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلۡمُقَامَةِ مِن فَضۡلِهِۦ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٞ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٞ ٣٥﴾ [فاطر: 34-35].
إنه ما بين أن يثاب الإنسان على الطاعة والإحسان، أو يعاقب على الإساءة والعصيان، إلا أن يقال: فلان قد مات، وما أقرب الحياة من الممات، وكل ما هو آت آت؛ فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
[116] رواه مسلم من حديث أنس. [117] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر. [118] رواه أحمد والترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة. [119] رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث جابر. [120] متفق عليه من حديث سعد بن أبي وقاص. [121] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [122] رواه مسلم من حديث أبي هريرة. [123] رواه الشيرازي في كتاب الألقاب والكني، والحاكم في الرقائق، والبيهقي في الشعب، كلهم عن سهل بن سعد بن مالك الخزرجي الساعدي. [124] متفق عليه من حديث عبادة بن الصامت. [125] متفق عليه ورواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن أنس بن مالك.