(52) تفسير سورة «سَبِّح اسمَ ربِّكَ الأعلَى»
الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، ونصلي ونسلم على رسول الله الصادق الأمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.
أما بعد:
فقد قال الله تعالى - أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم-: ﴿سَبِّحِ ٱسۡمَ رَبِّكَ ٱلۡأَعۡلَى ١ ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ ٢ وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ٣﴾ [الأعلى: 1-3].
كان من هدي النبي ﷺ أنه يستحب قراءة المسبحات، وخاصة هذه السورة، فكان يقرأ بها في المجامع العظام، كيوم الجمعة، ويوم العيد، لفضل ما اشتملت عليه من الأحكام، والمواعظ العظام. ولما نزلت ﴿سَبِّحِ ٱسۡمَ رَبِّكَ ٱلۡأَعۡلَى ١﴾ [الأعلى: 1] قال النبي ﷺ: «اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ». ولما نزل قوله: ﴿فَسَبِّحۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلۡعَظِيمِ ٧٤﴾ [الواقعة: 74]، قال: «اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ»[92].
بدأ هذه السورة بالأمر بالتسبيح. إذ معنى التسبيح: التنزيه والتقديس لله، وفيه فضل عظيم، وقد أعاد سبحانه وأبدى من ذكره، تارة بلفظ الأمر، كقوله: ﴿سَبِّحِ ٱسۡمَ رَبِّكَ ٱلۡأَعۡلَى ١﴾ [الأعلى: 1] ﴿وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ [الطور: 48]. وتارة بلفظ الماضي كقوله: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾ [الحشر: 1، الصف: 1] وتارة بلفظ المضارع كقوله: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ﴾ [الجمعة: 1 و التغابن: 1] وتارة بلفظ المصدر كقوله: ﴿فَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ حِينَ تُمۡسُونَ وَحِينَ تُصۡبِحُونَ ١٧﴾ [الروم: 17].
وأخبر النبي ﷺ: بأن التسبيح، والتحميد، يقوم مقام الصدقة بالمال؛ وخاصة الفقراء الذين لا مال لهم، فقال: «إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً»[93].
ثم إن التسبيح والتحميد عند النوم يخفف الآلام، ويلطف المشاق العظام. كما أرشد النبي ﷺ عليًّا وابنته فاطمة، وقال: «هُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ»[94]. ثم قال: ﴿ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ ٢﴾ أي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً. فلا تظنوا أن شيئًا أحسن من الإنسان، لا الظباء ولا الخيل ولا النعام.
﴿وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ٣﴾ أي خلقه. فخلق كل شيء بمقادير مضبوطة، فهدى إلى ما قدر من هذا التقدير، كون بعض الدواب، كالظباء وغيرها، تلد في البر ثم يقوم ولدها ويهتدي لرضاع ثديها.
﴿وَٱلَّذِيٓ أَخۡرَجَ ٱلۡمَرۡعَىٰ ٤ فَجَعَلَهُۥ غُثَآءً أَحۡوَىٰ ٥﴾ أي بينما العشب خضرًا نضرًا، فإذا هو هشيم يابس، وكذلك حالة الإنسان، بينما يكون شابًّا ثم كهلاً، فإذا هو شيخ كبير ضئيل. وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادًا بعد ما هو ساطع ﴿سَنُقۡرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ ٦﴾ وهذه معجزة عظمى، وذلك أن رسول الله ﷺ كان يتيمًا، أميًّا لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، كحاله أكثر قريش، كصفة الأعراب المتنقلة، ويسمون بالأميين، ووصف الله نبيه بالأمي، في قوله تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٥٧﴾ [الأعراف: 157].
فالأمية: هي معجزة خاصة للرسول ﷺ لئلا تتطرق إليه الظنون الكاذبة، فيقولون: كتبه من كتاب كذا، أو تعلمه من كتاب كذا، يقول الله: ﴿وَمَا كُنتَ تَتۡلُواْ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذٗا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ ٤٨﴾ [العنكبوت: 48] فالأمية من معجزات نبوته، وليست من سنته، بل حاربها حيث نشر العلم، وتعلم الكتابة بين أصحابه، وكان أول ما أنزل الله عليه من القرآن سورة القلم.
نشأ النبي ﷺ يتيمًا في حجر عمه أبي طالب، كأحد أولاد قريش، ورعى الغنم في صغره كما في الحديث: أن النبي ﷺ قال: ««مَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا وَقَدْ رَعَى الْغَنَمَ». قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: «وَأَنَا رَعَيْتُهَا بِقَرَارِيطٍ لِأَهْلِ مَكَّةَ»»[95].
وليس في مكة مدارس، ولا كتب. وبقي على حالته حتى بلغ أربعين سنة من عمره.
ثم فاجأه الحق، ونزل عليه الوحي بغار حراء. والله أعلم حيث يجعل رسالته، وأخذ القرآن ينزل عليه تدريجيًّا بدون أن ينسى شيئًا منه، وحتى نزلت عليه سورة الأنعام جملة واحدة على طولها، وهي جزء كامل، بدون أن ينسى شيئًا منها؛ لأن الله يقول: ﴿سَنُقۡرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ ٦﴾ [الأعلى: 6]. ونحن في حفظنا للقرآن، مكثنا مع سورة الأنعام فوق الشهر لإتقان حفظها، نتغالب معها، أحيانًا نذكر، وأحيانًا ننسى، وفي البخاري عن ابن عباس: أن النبي ﷺ كان إذا نزل عليه الوحي، يحرك شفتيه، خشية أن ينساه. فأنزل الله عليه قوله: ﴿لَا تُحَرِّكۡ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعۡجَلَ بِهِۦٓ ١٦ إِنَّ عَلَيۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ ١٧ فَإِذَا قَرَأۡنَٰهُ فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ ١٨ ثُمَّ إِنَّ عَلَيۡنَا بَيَانَهُۥ ١٩﴾ [القيامة: 16-19] أي علينا أن نجمعه لك في صدرك، ثم تقرأه بدون أن تنسى شيئًا منه.
فكان رسول الله ﷺ إذا نزل عليه الوحي سكت، وإذا أقلع عنه قرأه كما كان يقرؤه. وقوله: ﴿إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۚ إِنَّهُۥ يَعۡلَمُ ٱلۡجَهۡرَ وَمَا يَخۡفَىٰ ٧﴾ فهذا الاستثناء قيل للمنسوخ من القرآن، وقيل للتأكيد.
﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلۡيُسۡرَىٰ ٨﴾ أي للشريعة السمحة السهلة، ليست بشاقة. من ذلك أن النبي ﷺ قال: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، وَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ، وَإِلَّا فَأَوْمِ إِيمَاءً»[96] ورأى رجلاً يصلي على وسادة قد رفعت له فرمى بها، وقال: «صَلِّ عَلَى الْأَرْضِ إِنِ اسْتَطَعْتَ وَإِلَّا فَأَوْمِ إِيمَاءً»[97]. وقال في الصيام ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ﴾ [البقرة: 185]. ورخص للشيخ الكبير في أن يفطر؛ ويطعم عن كل يوم مسكينًا. وهذا كله من التيسير وعدم التعسير ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖ﴾ [الحج: 78] فقولهم: إن شرائع الإسلام تكاليف شاقة خطأ. فإنها قرة العين، ولذة للروح في حق من اعتادها وتمرن على فعلها، ورسخ في قلبه محبتها، وقد «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ اللَّهَ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا رَسُولًا».
ثم قال: ﴿فَذَكِّرۡ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكۡرَىٰ ٩ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخۡشَىٰ ١٠﴾ . فأمر الله نبيه بأن يذكر الناس، إن نفعت الذكرى أي ما دامت قلوبهم مقبلة على الاستماع، للاتباع والانتفاع، كما قال: ﴿فَذَكِّرۡ بِٱلۡقُرۡءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق: 45]. وقال: ﴿فَذَكِّرۡ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٞ ٢١ لَّسۡتَ عَلَيۡهِم بِمُصَيۡطِرٍ ٢٢﴾ [الغاشية: 21-22] أي ليست بمسلط على إدخال الهداية قلوبهم ﴿إِنۡ عَلَيۡكَ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ﴾ [الشورى: 48] وأفضل الأعمال: إيقاظ الراقدين، وتنبيه الغافلين، لأن الله يقول: ﴿وَذَكِّرۡ فَإِنَّ ٱلذِّكۡرَىٰ تَنفَعُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٥٥﴾ [الذاريات: 55] فالتذكير بمثابة الصقال للقلوب عن الصدأ، ومن الصدقة: كلمة حكمة، تدل بها على الهدى، وتردع بها عن السفاه والردى.
وكانت عامة مجالس النبي ﷺ مع أصحابه، إنما هي مجالس وعظ وتذكير بالله. إما بتلاوة القرآن، أو بما آتاه الله من الحكمة والموعظة الحسنة، كما أمر الله في كتابه بأن يقص ويعظ ويذكر ويدعو إلى دينه وإلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة. وسماه الله بشيرًا ونذيرًا.
ولهذا شرعت الخطبتان في الجمعة، لتذكير الناس بما ينفعهم في أمر دينهم ودنياهم. وحث النبي ﷺ على الإصغاء والاستماع لهما، وعدم الاشتغال بالكلام، وقال: «من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا، ومن قال لصاحبه أنصت، قد لغا، ومن لغا، فلا جمعة له»[98].
وأخبر النبي ﷺ عن تفاوت الناس في الاستماع والانتفاع. ففي الصحيحين عن أبي موسى، أن النبي ﷺ قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير - أي مطر وابل - أصاب أرضًا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فهذا مثل من استمع وانتفع بما سمع ودعا الناس إليه، فكان من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وكانت منها أجادب، أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا - أي من هذا الماء، الذي أمسكته. فهذا مثل من يستمع الحكمة فيحفظها ويؤديها كما سمعها، لكنه مقصر في العمل بما سمع، فهو عليم اللسان - ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به»[99]. فهذا يعد من شر المستمعين الذين إذا ذكروا لا يذكرون ولهذا قال: ﴿يَذَّكَّرُ مَن يَخۡشَىٰ ١٠﴾ أي أن من يخشى الله ويتقيه، فإنه ينتفع بما سمع، ورأس العلم خشية الله. وكفى بخشية الله علمًا، وبالاغترار به جهلاً.
﴿وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلۡأَشۡقَى ١١﴾ أي يتجنب سماع التذكير والانتفاع به. الشقي هو الذي استحكم الشقاء على قلبه، فهو قاسي القلب، وما ضرب الله عبدًا بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وإن أبعد القلوب من الله، القلب القاسي.
وشكى رجل إلى الحسن البصري قساوة قلبه، فقال: ادْنُهْ من مجلس الذكر.
وفي البخاري عن طارق بن شهاب، أن النبي ﷺ كان جالسًا في حلقة من أصحابه، فدخل ثلاثة نفر، فأما أحدهم، فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الثاني فاستحيا وجلس خلف الحلقة، وأما الثالث فأعرض وخرج. فقال النبي ﷺ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ، فَأَعْرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ»[100].
فجعل المعرض عن التذكير، معرضًا عن الله، يقول الله تعالى: ﴿وَإِنَّهُمۡ لَيَصُدُّونَهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُم مُّهۡتَدُونَ ٣٧ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يَٰلَيۡتَ بَيۡنِي وَبَيۡنَكَ بُعۡدَ ٱلۡمَشۡرِقَيۡنِ فَبِئۡسَ ٱلۡقَرِينُ ٣٨﴾ [الزخرف: 37-38].
ومعنى قوله: ﴿وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلۡأَشۡقَى ١١ ٱلَّذِي يَصۡلَى ٱلنَّارَ ٱلۡكُبۡرَىٰ ١٢ ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحۡيَىٰ ١٣﴾ [الأعلى: 11-13] لأن أهل النار يتمنون الموت ليستريحوا به من العذاب ﴿وَنَادَوۡاْ يَٰمَٰلِكُ لِيَقۡضِ عَلَيۡنَا رَبُّكَۖ قَالَ إِنَّكُم مَّٰكِثُونَ ٧٧ لَقَدۡ جِئۡنَٰكُم بِٱلۡحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَكُمۡ لِلۡحَقِّ كَٰرِهُونَ ٧٨﴾ [الزخرف: 77-78].
ثم قال: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ١٤﴾.
والله يحقق الفلاح، وهو الفوز والنجاح لمن تزكى أي أدى زكاة ماله، طيبة بها نفسه، يغتنمها مغنمًا له عند ربه، يعلم بطريق اليقين أن ما أنفقه فإن الله سيخلفه. وسميت زكاة، لكونها تزكي المال أي تنميه وتطهره، وتنزل البركة فيه، كما تزكي إيمان مخرجها من مسمى الشح والبخل وتطهره، يقول الله تعالى: ﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ [التوبة: 103].
ومنها: التزكية بالمحافظة على الفرائض والفضائل، والتنزه عن منكرات الأخلاق والرذائل، لأن هذه هي التي تزكي النفوس وتشرفها، وتنشر في العالمين فخرها ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ٩ وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا ١٠﴾ [الشمس: 9-10].
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى
فكن طالبا للنفس أعلى المراتب
ثم قال: ﴿وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ ١٥﴾ [الأعلى: 15] فدائمًا يقرن سبحانه الصلاة بالزكاة في كثير من الآيات، وقيل: نزلت هذه الآية في صلاة العيد، وفي زكاة الفطر.
﴿بَلۡ تُؤۡثِرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا ١٦ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰٓ ١٧﴾ [الأعلى: 16-17] إن الله سبحانه أخبر عن الناس بأنهم يحبون الحياة، ويؤثرون العمل لها على العمل لآخرتهم، ويحبون المال حبًّا جمًّا، لكون النفوس، مولعة بحب العاجل، ﴿إِنَّ هَٰٓؤُلَآءِ يُحِبُّونَ ٱلۡعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمۡ يَوۡمٗا ثَقِيلٗا ٢٧﴾ [الإنسان: 27]. فمحبة الحياة، ومحبة المال، هي من الأشياء التي جبل البشر عليها، وقد وصف الله الإنسان، بأنه لحب الخير لشديد، والخير هو المال الكثير، فلا عيب في محبة الإنسان للحياة أو المال، إذا لم تخرج به محبته عن حد الاعتدال، كما قيل:
دع الذم للدنيا فكم من موفق
يقول وقد لاقى النعيم بجنتي
حياتي لو امتدت لزادت سعادتي
فياليت أيامي أطيلت ومدتي
فمحبة الدنيا ليس مذمومًا على الإطلاق، وإنما يذم إذا خرج بصاحبه عن حد الاعتدال، بأن أشغل صاحبه عن عبادة ربه، أو بخل بما أتاه الله من فضلة؛ لأن البر وفعل الخير هو همة التقي، ولا يضره لو تعلقت جميع جوارحه بحب الدنيا، وقد مدح الله التجار الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار. فهؤلاء يشتغلون في الدنيا بجوارحهم، وقلوبهم متعلقة بالعمل لآخرتهم، فحصلوا الحسنتين، وفازوا بالسعادتين، فكانت أعمالهم بارة، وأرزاق الله عليهم دارة.
ثم قال: ﴿وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰٓ ١٧﴾ [الأعلى: 17].
لما بين سبحانه محبة الناس للعاجلة، استدعاهم إلى العمل للآخرة، فإنها خير من الدنيا وما فيها، ولأن العمل للآخرة، هو أكبر ما يستعان به على الدنيا وبركتها، والسعادة فيها، لكون الدنيا محفوفة بالأنكاد والأكدار، وبالهموم والغموم والأحزان، ولا يهذبها ويصفيها سوى الدين، وطاعة رب العالمين.
وفي الأثر: إن الله يقول: ابن آدم، أنت إلى نصيبك من الآخرة، أحوج منك إلى نصيبك من الدنيا، فإن بدأت بنصيبك من الدنيا، فاتك نصيبك من الآخرة، وإن بدأت بنصيبك من الآخرة، مر على نصيبك من الدنيا، فانتظمه انتظامًا[101]. ويدل لذلك ما رواه ابن ماجه والترمذي، من حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ابْنَ آدَمَ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلأْ قَلْبَكَ غِنًى، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِنْ لَا تَفْعَلْ مَلأْتُ قَلْبَكَ شُغْلاً، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ»[102].
ثم قال: ﴿إِنَّ هَٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلۡأُولَىٰ ١٨ صُحُفِ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ ١٩﴾ [الأعلى: 18-19] يشير إلى أن هذه الموعظة من آخر السورة المبدوءة بقوله: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ١٤﴾ [الأعلى: 14] إنها في صحف إبراهيم وموسى سواء كانت مذكورة في صحف إبراهيم بلفظها أو بمعناها، وكلاهما محتمل.
اللهم اجعلنا ممن اتبع القرآن فقاده إلى رضوانك والجنة، ولا تجعلنا ممن اتبع القرآن فزج في قفاه إلى النار.
[92] أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عقبة بن عامر. [93] أخرجه مسلم من حديث أبي ذر. [94] متفق عليه من حديث علي. [95] رواه البخاري عن أبي هريرة، ورواه أصحاب السير. [96] رواه البخاري من حديث عمران بن الحصين. [97] أخرجه أبو يعلى من حديث جابر. [98] متفق عليه عن أبي هريرة وأخرجه الإمام أحمد والنسائي وأبو داود وابن ماجه ولكن بلفظ: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: أَنْصِتْ، فَقَدْ لَغَوْتَ». [99] متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري. [100] متفق عليه من حديث أبي واقد الليثي. [101] أخرجه هناد بن السري في الزهد عن معاذ. [102] وفي رواية عن معقل بن يسار بلفظ قال: قال رسول الله ﷺ: «يَقُوْلُ رَبُّكُمْ: يَا ابْنَ آدَمَ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي؛ أَمْلَأْ قَلْبَكَ غِنًى، وَأَمْلَأْ يَدَيْكَ رِزْقًا، يَا ابْنَ آدَمَ، لَا تُبَاعِدْ مِنِّي، أَمْلَأْ قَلْبَكَ فَقْرًا، وَأَمْلَأ يَدَيْكَ شُغْلًا». رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.