(51) الأمانة وموقعها من الدّيانة
الحمد لله العفو الغفور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، بيده مواقيت الأعمار، ومقادير الأمور. وأشهد أن محمدًا رسول الله، الداعي إلى كل عمل مبرور. اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاعلموا رحمكم الله أن الأمانة شأنها كبير، وموقعها عند الله عظيم، يقول الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٢٧﴾ [الأنفال: 27].
فدلت هذه الآية على أن من خان أمانته، فقد خان ربه وخان نبيه، ولن يضر الخائن إلا نفسه. قال أنس رضي الله عنه: ما خطبنا رسول الله ﷺ إلا قال: «إِنَّهُ لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ»[79]. وجاء رجل من أهل العالية فقال: يا رسول الله، أخبرني بأشد شيء في هذا الدين. فقال: «الْأَمَانَةُ يَا أَخَا الْعَالِيَةِ، إِنَّهُ لَا دِينَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا صَلَاةَ وَلَا زَكَاةَ لَهُ»[80].
والأمانة تارة تكون بين الخلق فيما يتعاملونه بينهم من التبايع والودائع والكيل والوزن، وتارة تكون بين العبد وببن ربه في الفرائض الواجبة المسماة بالتكاليف الشرعية. فالوضوء أمانة، والصلاة أمانة، والزكاة أمانة، والصيام أمانة. وهكذا سائر الأعمال، تجرى على هذا المنوال. فمن الناس المؤمن الأمين، الذي يؤدي واجب حق الله في ماله، ويبادر بأداء زكاته إلى مستحقها، طيبة بذلك نفسه، يعتقدها مغنمًا له عند ربه، وبركة في ماله. ومنهم الخائن المهين، الذي يبخل بما آتاه الله من فضله، ويأكل زكاته. ﴿وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ﴾ [آلعمران: 180].
فالوضوء أمانة، والصلاة أمانة، والزكاة أمانة، والصيام أمانة، وهكذا سائر الأعمال تجرى على هذا المنوال.
فمن الناس المؤمن الأمين الذي يؤدي واجب حق الله في واجباته، ويبادر بأداء زكاته، طيبة بذلك نفسه، يعتقدها مغنمًا له عند ربه وبركة في ماله، فيدفعها إلى مستحقها، ويقول: اللهم اجعلها مغنمًا، ولا تجعلها مغرمًا.
ومنهم الخائن المهين، الذي يبخل بما آتاه الله من فضله، ويأكل زكاته، ويحتسبها مغرمًا في ماله، ﴿وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ﴾ [آلعمران: 180].
فالآكل لزكاته هو خائن لأمانته، خائن لفقراء بلده، فاسق عن أمر ربه، وما إسلامه الذي يدعيه إلا إسلام مزيف مغشوش؛ لكون الزكاة بمثابة الدليل والبرهان على صحة الإيمان. كما في الحديث: «الصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ»[81]. لكونها تبرهن عن إيمان مخرجها، وكونه آثر طاعة ربه على محبة ماله. كما أن منع الزكاة هو العنوان على النفاق، فإن من صفة المنافقين، ما أخبر الله عنهم، ﴿ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتُ بَعۡضُهُم مِّنۢ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمُنكَرِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَقۡبِضُونَ أَيۡدِيَهُمۡ﴾ - أي عن أداء زكاة أموالهم - ﴿نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمۡۚ إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ﴾ [التوبة: 167].
فالوضوء أمانة؛ لأن مفتاح الصلاة الطهور. وفي الحديث: «اسْتَقِيمُوا، وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةُ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ»[82]. ومن حكمته أنه ينشط الأعضاء عند القيام للصلاة، ويحط الخطايا.
وكذلك الصلاة أمانة الرب، وعمود دين العبد، وأول ما يفقد الإنسان من دينه الأمانة، وآخر ما يفقد من دينه الصلاة.
و لهذا كان السلف يسمونها الميزان. فإذا أرادوا أن يبحثوا عن دين إنسان، سألوا عن صلاته، فإن حُدثوا بأنه يحافظ على الصلاة في الجماعات علموا بأنه ذو دين، وإن حُدثوا بأنه لا يشهد الصلاة، علموا بأنه لا دين له، ومن لا دين له جدير بكل شر، بعيد عن كل خير.
ثم إن الصلاة لا تكون صلاة، حتى تقع على صفة ما شرعه الله على لسان نبيه، كما في الحديث: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»[83]. فهذا ميزانها الفعلي، وأما ميزانها القولي ففي البخاري، أن رجلاً دخل المسجد، فصلى فقال له رسول الله ﷺ: «ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» فعل ذلك ثلاثًا، فقال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا، فعلمني. فقال: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ، فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، وَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَاعِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا»[84].
فهذه هي الصلاة المشروعة التي تصعد ولها نور، فتشفع لصاحبها عند ربها، وتقول: حفظك الله كما حفظتني. «وَأَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلاَتِهِ»[85]، أي لا يتم ركوعها ولا سجودها.
وكذلك الزكاة: أمانة الرب، أوجبها الله في مال الغني لأخيه المعوز الفقير، وسميت زكاة، لكونها تزكي إيمان مخرجها من مسمى الشح والبخل، وتطهره. يقول الله تعالى: ﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ [التوبة: 103].
وكذلك تزكي المال - أي تكثره وتنميه وتنزل البركة فيه، فما نقصت الصدقة مالاً بل تزيده. وكذلك الصيام فإنه سر بين العبد وبين ربه، فلو شاء لأبطله ولو بفساد نيته، لكن المؤمن لو ضرب على أن يستبيح الفطر، لما استباح الفطر أبدًا، لكون إيمانه وأمانته تمنعه عن إحباط عمله وإبطال صومه.
هذه الأركان، هي التي عناها القرآن بقوله: ﴿إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا ٧٢﴾ [الأحزاب: 72] فإن الراجح عند العلماء، أن هذه الأمانة هي الواجبات، المسماة بالتكاليف الشرعية. فإنها أمانة الله وعهده، في عنق كل إنسان ﴿وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِمَا عَٰهَدَ عَلَيۡهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا﴾ [الفتح: 10].
ومن استؤمن على حفظ مال الحكومة أو المعارف أو الأوقاف، أو لأحد من الشركات، أو مال تاجر من التجار، فليعلم أن ما تحت يده مما تولاه أنه أمانة عنده، ومسؤول عنه ومحاسب عليه، فمن واجب إيمانه وأمانته أن يقوم بحفظ ما استؤمن عليه، وأن يذود أيدي العدوان والخونة عنه، حتى يؤديه كاملاً موفورًا، غير مبخوس ولا منقوص، فإن خالف وخان وأخذ يختلس ما استؤمن عليه بطريق التلصص الخفي والخيانة الغيبية، فقد خان أمانته، وخان ربه ودينه، وما اختلسه فإنه بمثابة الزبد الذي يذهب جفاء ويرجع إلى الوراء.
والنبي ﷺ: قال: «مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَ، كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[86]. ﴿وَمَن يَغۡلُلۡ يَأۡتِ بِمَا غَلَّ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ﴾ [آلعمران: 161] ومن المشاهد المحسوس، أن الخائن يَفتْضح بخيانته في الدنيا عند الناس، ويوم القيامة ينصب لكل خائن لواء عند استه، يقال: هذه غدرة فلان. والمؤمن يطبع على الخلال كلها، إلا الخيانة والكذب فلا يكون المؤمن خائنًا، ولا كذابًا. «وَآيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ»[87]. ومن دعاء النبي ﷺ. أنه يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ، فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وَمِنَ الْخِيَانَةِ، فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ»[88].
ولهذا قال العلماء في الحكمة في قطع يد السارق: إن اليد لما كانت أمينة تبلغ ديتها - خمسين بعيرًا - قالوا: إن اليد لما كانت أمينة كانت عند الله، وعند خلقه ثمينة، فإذا خانت هانت. ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍ﴾ [الحج: 18].
إن الشركات الأجنبية التي تشتغل في البلدان العربية الإسلامية، قد دخلوا مع الحكومات الإسلامية في عقد، وفي عهد وأمانة، واشتغلوا على هذا الحساب. فمن الواجب احترام دمائهم وأموالهم؛ لأنهم يسمون مُعاهدين. وحرمة مال المعاهد كحرمة مال المسلم. لهم ما لنا، وعليهم ما علينا. فمن خفر معاهدًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. فلا يقل أحدكم: هؤلاء كفار يستبيح بذلك أخذ أموالهم. فإن حرمة مال المعاهد كحرمة مال المسلم.
والتعليم أمانة، والتعليم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم. ونعوذ بالله من شر الوسواس الذي يوسوس بالشر في صدور الناس. فمن واجب المعلم أن يخلص في تعليمه، فيلقن التلاميذ تعظيم الرب، وتعظيم حدوده وفرائضه. وأن صلاح المرء بصلاح دينه، وأن المحافظة على فرائض الرب هي من أكبر العون على حصول المطلوب، من العلم المرغوب؛ لأن الله يقول: ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ﴾ [البقرة: 282].
ثم إن الأستاذ قدوة تلاميذه، وثقتهم به، يستدعي قبولهم لما يقوله ويفعله، فينشؤون غالبًا على طريقته وعقيدته. أشبه الأعضاء مع اللسان. تقول: اتق الله فينا، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا. فإذا ترك الأستاذ الصلاة في الجماعة، تركها التلاميذ. أو شرب الدخان والتنباك شربه التلاميذ. أو أطلق لسانه باللعن والشتم، تعلموا منه ذلك، لأن هذا نوع تعليم منه لهم. ومن المعلوم أن التعليم بالأفعال أبلغ منه بالأقوال وكل إناء ينضح بما فيه. وعادم الخير لا يعطيه.
وإذا المعلم لم يكن عدلا سرى
روح العدالة في الشباب ضئيلا
وكل من دخل مع صاحبه في عقد بيع وشراء، أو ثمن لم يؤده إليه، فليعلم أنه دخل مع صاحبه في عهد وأمانة، فمن الواجب على صاحب العقد أن يبين ما به من العيوب، كما أن من واجب المشتري أن يقابل صاحبه بحقه غير مبخوس ولا منقوص. وبدون تعليل ولا تمليل. فإن «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ»[89]. يحل عرضه وعقوبته.
جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، إن لنا جيرانًا لا يتركون لنا شاذة ولا فاذة إلا أخذوها، فهل إذا قدرنا على شيء من مالهم نأخذه؟ قال: «لَا، أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ»[90] فنهى رسول الله ﷺ عن مقابلة الخيانة بالخيانة؛ لأنها مهانة وعدم أمانة.
المجالس بالأمانات، إلا مجلس دم حرام، وفرج حرام. فإن جلس الرجل مع الآخر ثم التفت فهي أمانة، يجب المبالغة في كتمان السر بينهما. ومن الخيانة أن يفشي الرجل إلى امرأته سرًّا، أو تفشي إليه، ثم ينشر أحدهما سر صاحبه. ويسمى هذا الإفشاء بالمجاهرة.
الوظائف الحكومية على اختلاف أنواعها أمانات في أعناق المتقلدين لها فمن واجب المتولي للوظيفة أن يقوم بأمانة ما تولاه، وما استؤمن عليه بإخلاص وصدق ونصح، وأن يعامل الناس بما يحب أن يعاملوه به من التسهيل والتيسير.
القضاء أمانة، وهو منصب شريف؛ منصب الأنبياء والخلفاء الراشدين. والأصل فيه قوله تعالى: ﴿يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلۡنَٰكَ خَلِيفَةٗ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱحۡكُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلۡهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدُۢ بِمَا نَسُواْ يَوۡمَ ٱلۡحِسَابِ ٢٦﴾ [ص: 26]. وكان النبي ﷺ قاضيًا، وأبو بكر قاضيًا، وعمر قاضيًا، وعلي كذلك. والقضاء في مواطن الحق، هو مما يوجب الله به الأجر، ويحسن به الذخر.
شُرع القضاء رحمة للناس وراحة لهم، لإزالة الشقاق بينهم، وقطع النزاع عنهم، وإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، وردع الظالم، ونصر المظلوم.
لو أنصف الناس استراح القاضي
وبات كل عن أخيه راضي
فمن واجب القاضي أن يحتسب راحة الناس ورحمتهم في قطع النزاع عنهم، وأن يحتسب التبكير في الجلوس للناس، ويفتح باب المحكمة على مصراعيه، ثم يبدأ بالأول، فالأول، كما نص على ذلك فقهاء الإسلام في كتبهم. ففي الحديث: «مَنْ تَوَلَّى شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَاحْتَجَبَ دُوْنَ حَاجَتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ، احْتَجَبَ اللَّهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَفَقْرِهِ»[91].
ولما بلغ عمر أن سعد بن أبي وقاص قد اتخذ له بابًا وحجابًا يمنعون دخول الناس عليه، أرسل محمد بن مسلمة، وأمره أن يحرق باب سعد قبل أن يكلم أحدًا من الناس.
فهؤلاء القضاة الذين يغلقون أبواب المحاكم عليهم، ويتركون الناس خلف الأبواب، يغشاهم الذل والصغار، والقاضي غير مكترث بهم، ولا مهتم بأمرهم، ويمضي أكثر وقته في الحديث في مصالح نفسه الخاصة. وشهر للحج، وشهر للعُمرة، وشهر للمصيف في الطائف أو لبنان مثلاً. ويترك الناس يموج بعضهم في بعض بالنزاع والخصام، لا يجدون من يقطع النزاع عنهم، وهو مستأجر لحل مشاكلهم.. فهؤلاء بالحقيقة مخالفون لنصوص مذهبهم. فإن الفقه الإسلامي يمنع غلق الأبواب، ونصب الحجاب دون القاضي ودون الناس.
فافتحوا الأبواب، وسهلوا الحجاب، وبكروا في الجلوس، حتى يسهل عليكم معالجة الخصام، وتنظيم الأحكام. فإن جلوس القاضي في محل عمله لفصل القضاء بين الناس، أفضل من تطوعه بحجه وعمرته، وأفضل من صيامه بمكة؛ لأن جلوسه في محل القضاء واجب عليه، ومطلوب منه شرعًا وعرفًا، أما التطوع بالحج والعمرة فإنها ليست بواجبة عليه، ولا مستحبة في حقه. وقد لا تصح منه.
فلا ينبغي أن يهمل هذا الواجب المحتم عليه، في محاولة التنفل الذي هو ممنوع منه شرعًا وعرفًا. فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
[79] رواه البزار عن علي رضي الله عنه. [80] رواه البزار عن علي رضي الله عنه. [81] أخرجه مسلم من حديث أبي مالك الأشعري. [82] رواه ابن ماجه بإسناد صحيح والحاكم عن ثوبان. [83] أخرجه البخاري من حديث مالك بن حويرث. [84] رواه البخاري عن مالك بن حويرث. [85] أخرجه أحمد من حديث أبي قتادة. [86] أخرجه مسلم من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه. [87] متفق عليه عن أبي هريرة وفيه زيادة «وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى، وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ». [88] من حديث طويل رواه الحاكم عن ابن مسعود وقال: صحيح، وقال العراقي: ليس كما قال. [89] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [90] أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة. [91] في رواية لأحمد في مسنده والترمذي عن عمرو بن مرة وإسناده حسن «مَا مِنْ إمَامٍ أَوْ وَالٍ يَغْلِقُ بَابَهُ دُونَ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْخَلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ إلَّا أَغْلَقَ اللَّهُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ دُونَ خَلَّتِهِ وَحَاجَتِهِ وَمَسْكَنَتِهِ».