متقدم

فهرس الكتاب

 

(49) نوع ثالث من التذكير بعيد الأضحى

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.

لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

الحمد لله الذي شرع لعباده طريق العبادة ويسر، وأنار قلوب أوليائه بنور طاعته وبصر، وجعل لهم بكمال حجهم عيدًا يعود في كل سنة ويتكرر. أحمده وهو المستحق لأن يحمد ويشكر. وأشهد أن لا إله إلا الله خلق فقدر، وشرع فيسر. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صاحب اللواء والكوثر، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهر، وسلم تسليمًا كثيرًا. الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.

أما بعد:

فيا أيها الناس اتقوا الله وأطيعوه، وامتثلوا أمر ربكم ولا تعصوه. فإن أطعتموه لم يصل إليكم شيء تكرهونه. وإن عصيتموه عاقبكم بما لا تطيقونه. ثم اعلموا رحمكم الله: أنكم خرجتم إلى هذا المكان السعيد، لقصد أداء صلاة العيد، تأسيًا بنبيكم عليه الصلاة والسلام، وإظهارًا لشكر نعمة الهداية إلى الإسلام، وبلوغ عيد حج بيت الله الحرام. وأن يومكم هذا يعد من أكبر الأيام شعائر، ومن أعظمها مناسك ومشاعر أطلعه الله عليكم سعيدًا، وجعله لكم نسكًا وعيدًا، شُرِّفَت به أيام التشريق، وأفاض الحجاج فيه من المشعر الحرام إلى البيت العتيق، تُهرق فيه دماء الأضاحي، ويطلع فيه الرب على عباده ويباهي. فهو يوم الحج والمنحر، وعيد الله الأكبر.

يجتمع الحاج فيه بمنى لقضاء مناسك الحج، ويتقربون إلى الله بالعج والثج، يحيون سنة أبيهم إبراهيم بما يذبحونه من القرابين. فهو عيد لاستكمال حجهم، كما أن عيد الفطر عيد لاستكمال شهر صومهم، فهما عيدا أهل الإسلام.

ولأجله شرع إظهار التجمل والزينة فيهما، والجهر بالتكبير في ليلتيهما، وعند الخروج إليهما، إشهارًا لشرفهما، وإكبارًا لأمرهما، ﴿وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ [البقرة: 185].

الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. والأضحية سنة مؤكدة، سنّها رسول الله ﷺ قولاً منه وفعلاً، ونزل فيها قرآن يتلى، وهي من القرابين، التي تقربونها لرب العالمين، ويرتب عليها الأجر الكبير، والفضل الجزيل. فعن زيد بن أرقم قال: «قلنا -أو قالوا-: يا رسول الله، ما هذه الأضاحي؟ قال: «سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ». قالوا: وما لنا فيها؟ قال: «بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ». قالوا: فالصوف؟ قال: «وَبِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنَ الصُّوفِ حَسَنَةٌ»»[75].

لهذا لا ينبغي للمقتدر أن يبخل عن نفسه بأضحية أو ذبيحتين قربانًا إلى الله، يحتسب ثوابهما عند الله. فقد كان الصحابة يسمنون الأضاحي في بيوتهم، حرصًا على حصول هذه الفضيلة. وكان رسول الله ﷺ يقسم الأضاحي بين أصحابه، لتعميم العمل بهذه الشعيرة، وإظهار مكانتها من الشريعة.

والأضحية إنما شرعت في حق الحي شكرًا منه على بلوغ عيد الإسلام، وحتى تكون أعياد المسلمين عالية على أعياد المشركين، وما يقربونه في أعيادهم من القرابين.

قال أبو أيوب الأنصاري: كان الرجل منا يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون، ويتصدقون[76].

فذبح الأضحية في يوم العيد وأيام التشريق هو من العبادة لله رب العالمين. يقول الله سبحانه: ﴿لِّيَشۡهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمۡ وَيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡلُومَٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلۡأَنۡعَٰمِۖ فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡبَآئِسَ ٱلۡفَقِيرَ ٢٨ [الحج: 28] كما أن الذبح للزار، والذبح للجن، والذبح للقبر يعد من الشرك الأكبر المبين. فمن الشرك بالله الذبح لغير الله.

وفي البخاري عن علي رضي الله عنه، قال: حدثني رسول الله ﷺ بأربع كلمات، فقال: «لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، لَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، لَعَنَ اللهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ» أي مراسيمها.

وأفضل الأضاحي الكبش: أي: الخروف - سواء أكان فحلاً أم خصيًّا- سليم العيوب. ويجزئ الجذع من الضأن؛ وهو ما تم له ستة أشهر، ومن المعز ما تم له سنة. وتجزئ الناقة والبعير عن سبع أضاحيَّ، والبقرة والعجل عن سبع أضاحيَّ إذا تم لهما سنتان. فذبح الأضاحي في مثل هذا اليوم هو من العبادة لرب العالمين ﴿قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٦٢ لَا شَرِيكَ لَهُۥۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرۡتُ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ١٦٣ [الأنعام: 162-163]. ووقت الذبح يوم العيد وثلاثة أيام بعده.

عباد الله، إن الله سبحانه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم. وإن الله سبحانه قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم. والله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب. فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه. والدين هو هذا السمح الحسن، الموصل بمن تمسك به إلى سعادة الدنيا والآخرة؛ رأسه الإسلام؛ وعموده الصلاة، وبقية أركانه الزكاة، والصيام، وحج بيت الله الحرام.

وقد جعل الله هذه الأركان بمثابة البنيان للإسلام، وبمثابة الفرقان بين المسلمين والكفار، والمتقين والفجار، وبمثابة محك التمحيص لصحة الإيمان. بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان.

لأن الإسلام ليس هو محض التسمي به باللسان، والانتساب إليه بالعنوان، ولكنه ما وقر في القلب، وصدقته الأعمال. فاعملوا بإسلامكم تعرفوا به، وادعوا الناس إليه، تكونوا من خير أهله. فإنه لا إسلام بدون عمل. ومن ترك الصلاة فقد كفر. «وَلِلْإِسْلَامِ صُوًى وَمَنَارٌ كَمَنَارِ الطَّرِيقِ»[77] يعرف به صاحبه.

فالمسلم حقًّا هو: من يصلي الصلوات الخمس المفروضة، ويؤدي الزكاة الواجبة، ويصوم رمضان. فيظهر إسلامه علانية للناس، بحيث يشهدون له بموجبه. والناس شهداء الله في أرضه.

فدين الإسلام، والعمل به على التمام؛ هو سياج وحدة الأمة، وحد نظامها، وبه مدار عزها، ودوام استقامتها؛ لأنه دين الحق، والصالح لكل زمان ومكان. قد نظم حياة الناس أحسن نظام، بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان. فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه، وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء؛ لأنه يهدي للتي هي أقوم ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥ [آل‌عمران: 85].

أما من يتسمى بالإسلام وهو لا يصلي ولا يصوم، ولا يؤدي زكاة ماله، فلا شك أن إسلامه باللسان يكذبه الحس والوجدان، والسنة والقرآن. ومن ادعى ما ليس فيه، ففضحته شواهد الامتحان.

فيا أهل الإسلام، لستم على شيء حتى تقيموا القرآن، وتعملوا بأركان الإسلام.

فالتكاتف على العمل بشرائع الإسلام، هو الذي يوحد المسلمين، ويؤلف بين قلوبهم، ويصلح ذات بينهم، ويجعلهم مستعدين للنصر على عدوهم، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الله سبحانه قد أعزكم بالإسلام، ومهما طلبتم العز في غيره يذلكم [78].

وهذه الشرائع التي أوجبها الله على عباده؛ مثل شريعة الصلاة، وشريعة الزكاة، وشريعة الصيام؛ هي: تنزيل الحكيم العليم. شرعها وأوجبها من يعلم ما في ضمنها من مصالح العباد، في المعاش والمعاد، وأنها هي أسباب سعادتهم الدينية والدنيوية؛ لأن الله سبحانه لا يوجب شيئًا من الواجبات مثل الصلاة والزكاة والصيام، إلا ومصلحته راجحة، ومنفعته واضحة، ولا يحرم شيئًا من المحرمات كالربا والزنا ويشرب الخمر، إلا ومضرته واضحة، ومفسدته راجحة.

فالشرائع هي أم الفرائض والفضائل، والناهية عن منكرات الأخلاق والرذائل. تهذب الأخلاق، وتطهر الأعراق، وتزيل الكفر والشقاق والنفاق. أما عادم الدين فإنه جرثومة الفساد، وخراب البلاد. وإنما تنشأ الجرائم الشنيعة، والفواحش الفظيعة، من القتل وهتك الأعراض. ونهب الأموال إنما تنشأ من العادمين للدين، الذين ساءت طباعهم، وفسدت أوضاعهم. فأضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، وخرقوا سياج الشرائع، واستخفوا بحرمات الدين، واتبعوا غير سبيل المؤمنين.

وكل من لا دين فيه، فإنه جدير بكل شر، بعيد عن كل خير، وعادم الخير لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه.

وليعتبر المعتبر بالبلدان التي، قوضت منها خيام الإسلام، وترك أهلها فرائض الصلاة والزكاة والصيام، واستباحوا الجهر بمنكرات الكفر والفسوق والعصيان، ثم لينظر كيف حال أهلها، وما دخل عليهم من النقص والجهل، والكفر، وفساد الأخلاق، والعقائد، والأعمال، وإثارة الفتن، وخراب العمران. حتى صاروا بمثابة البهائم، يتهارجون في الطرقات، لا يعرفون صيامًا، ولا صلاة، ولا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون من قبيح، ولا يهتدون إلى حق. ذلك بأن للمعاصي عقوبات، وللمنكرات ثمرات.

﴿وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا قَرۡيَةٗ كَانَتۡ ءَامِنَةٗ مُّطۡمَئِنَّةٗ يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغَدٗا مِّن كُلِّ مَكَانٖ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ ١١٢ [النحل: 112]. وإن من المشاهد بالاعتبار، أنه ما ظهر الإلحاد والزندقة في بلد، فكفر أهلها بالشريعة الإسلامية، وتركوا الصلاة والزكاة والصيام الفرضية، واستباحوا شرب المسكرات، وفعل المنكرات الوبيَّة، إلا فُتح عليهم من الشر كل باب، وصب عليهم ربك سوط عذاب. ﴿وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٢٥ [الأنفال: 25].

فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.

[75] أخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد. [76] أخرجه الترمذي من حديث أبي أيوب. [77] أخرجه الطبراني من حديث أبي هريرة. [78] أخرجه ابن عساكر في تاريخه عن طارق بن شهاب.