(48) التذكير الثاني بعيد الأضحى
الحمد لله رب العالمين وبه نستعين. ونحمده ونشكره ونكبره أن جعلنا مسلمين. الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كلما أحرموا من الميقات، الله أكبر كلما لبّى الملبون وزيد في الحسنات. الله أكبر كلما طافوا بالبيت وضجت الأصوات بالدعوات، الله أكبر كلما وقفوا خاضعين بعرفات فسبحان سامع تلك الأصوات، وسبحان مجيب الدعوات، وسبحان العالم بما مضى من خلقه وما هو آت. الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الحمد لله الذي شرع لعباده أنواع العبادة ويسر، وأنار قلوب أوليائه بنور طاعته وبصر، وجعل لهم بكمال حجهم عيدًا يعود في كل سنة ويتكرر، أحمده سبحانه وهو المستحق لأن يحمد ويشكر، وأشهد أن لا إله إلا الله خلق فقدر، وشرع ويسر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وكل آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا الله وأطيعوه، وامتثلوا أمر ربكم ولا تعصوه، فإن أطعتموه لم يصل إليكم شيء تكرهونه، وإن عصيتموه عاقبكم بما لا تطيقونه، واعلموا رحمكم الله؛ أنكم خرجتم إلى هذا الصعيد لقصد أداء صلاة العيد. تأسيًا بنبيكم عليه الصلاة والسلام، وإظهارًا لشكر نعمة الهداية إلى الإسلام، وبلوغ عيد حج بيت الله الحرام، وأن يومكم هذا يعد من أكبر الأيام شعائر، ومن أعظمها مناسك ومشاعر، أطلعه الله عليكم سعيدًا، وجعله لكم نسكًا وعيدًا، شرفت به أيام التشريق، وأفاض الحجاج فيه من المشعر الحرام إلى البيت العتيق، تهرق فيه دماء الأضاحي، ويطلع الرب فيه على عباده ويباهي. فهو يوم الحج والمنحر، وعيد الله الأكبر، يجتمع فيه الحجاج بمنى لقضاء مناسك الحج، ويتقربون إلى الله فيه بالعج والثج، يحيون سنة أبيهم إبراهيم بما يذبحونه من القرابين، فهو عيد لاستكمال مناسك حجهم، كما أن عيد الفطر لاستكمال شهر صومهم، فهما عيدا أهل الإسلام، ولأجله شرع إظهار التجمل والزينة فيهما، والجهر بالتكبير في ليلتيهما، إكبارًا لأمرهما، وإشهارًا لشرفهما.
﴿وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ [البقرة: 185] الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
والأضحية سنة في حق الحي، سنها رسول الله ﷺ قولاً منه وفعلاً ونزل فيه قرآن يتلى ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ ٢﴾ [الكوثر: 2] وكان أصحاب رسول الله ﷺ يسمنون الأضاحي في بيوتهم حرصًا على هذه الفضيلة، وكان رسول الله ﷺ يقسم الأضاحي بين أصحابه لتعميم العمل بهذه الشعيرة، وإظهار مكانتها من الشريعة.
وعن زيد بن أرقم قال: «قلنا -أو قالوا-: يا رسول الله ما هذه الأضاحي؟ قال: «سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ».قالوا وما لنا فيها؟ قال: «بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ» قالوا: فالصوف؟ قال: «وَبِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنَ الصُّوفِ حَسَنَةٌ»»[68].
وأهدى رسول الله ﷺ عام حجة الوداع مائة بدنة؛ أي مائة ناقة، نحر منها ثلاثًا وستين بيده، عدد عمره الشريف. وكن يزدلفن بين يديه، أي تبرك الناقة قبل الأخرى.
وضحى عام لم يحج بكبشين أملحين، أقرنين، ذبح أحدهما بيده وقال: ««بِاسْمِ اللهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ، وَآلِ مُحَمَّدٍ» ثم ذبح الثاني، وقال: «اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ، وعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ مِمَّنْ شَهِدَكَ بِالتَّوْحِيدِ، وَشَهِدَ لِي بِالْبَلاَغِ»»[69] فلا تحزن أيها العاجز الفقير، فقد ضحى عنك البشير النذير، وقد قال قوم من أهل العلم بوجوب الأضحية على الغني المقتدر، لما روي أن النبي ﷺ قال في يوم العيد «مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ فَلَمْ يُضَحِّ، فَلاَ يَقْرَبَنَّ مُصَلاَّنَا»[70] فذبحها أفضل من الصدقة بثمنها في حق الحي، ومن الخطأ كون الإنسان يضحي عن والديه الميتين، وينسى نفسه.
وتجزئ الذبيحة الواحدة عن الرجل وأهل بيته، والجماعة إذا اجتمعوا في بيت كالعيال عشرة أو عشرين جاز أن يضحوا بذبيحة واحدة عنهم كلهم بمثابة أهل البيت. وأفضل الأضاحي الخروف، سليم العيوب. وتجزئ العنز والتيس، والناقة عن سبع أضاحي، والبقرة والعجل عن سبع إذا تم لهما سنتان، وتجب التسمية عند الذبح. ووقت الذبح يوم العيد، وثلاثة أيام من بعده على القول الصحيح.
فذبح الأضحية في مثل هذا اليوم هي من العبادة لرب العالمين، كما أن الذبح للجن، والذبح للزار، والذبح للقبر يعد من الشرك المبين، ومن الشرك بالله الذبح لغير الله، وفي البخاري عن علي رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله ﷺ بأربع كلمات فقال: «لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، لَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، لَعَنَ اللهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ» أي: مراسيمها.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
وهنا حديث رواه مسلم عن أم سلمة، أن النبي ﷺ قال: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ، فَإِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ فَلَا يَأْخُذَ مِنْ شَعْرِهِ، وَلَا مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا».
فهذا الحديث قد اختلف العلماء فيه. فمنهم من أنكر صحته؛ منهم عائشة أم المؤمنين. ومنهم من حمل النهي على الكراهية، كما هو الظاهر من مذهب الشافعي ومالك ورواية عن الإمام أحمد. ورجحها في الإنصاف. وأبعد الأقوال عن الصواب من قال أنه حرام. ومتى قلنا أن النهي للكراهية، فإن الكراهية تزول بأدنى حاجة، وعلى كل الأقوال فإنه لو حلق الشخص رأسه، أو أخذ شيئًا من شعر لحيته، أو قلم أظافره في عشر ذي الحجة، ثم أراد أن يضحي فإن أضحيته صحيحة بإجماع أهل العلم، ومثله المرأة لو أنقضت شعر رأسها، أو نسلته بالمشط فتساقط منه شعر، وأرادت أن تضحي فإنها تضحي، وأضحيتها صحيحة. كما يباح مباشرة النساء والطيب وغيرهما.
وما شاع على السنة العامة من قولهم أن من أراد أن يضحي فإنه ينبغي له أن يحرم. فهذا لا صحة له، فإنه لا إحرام إلا لمن أراد أن يحج ويعتمر، وقد صار هذا الاعتقاد يمنع أكثر الناس عن الأضحية لظنهم أنها لا تصح منهم، مع قصهم لشيء من الشعر. والصحيح أن الأضحية صحيحة حتى مع تعمد قص الشعر كما نص على ذلك العلماء.
وقد أنكرت عائشة على أم سلمة هذا الحديث، وقالت: إنما قاله رسول الله ﷺ في حق من أحرم بالحج وهذا هو المعقول. فإن من أحرم بالحج أو العمرة؛ فإنه يجب عليه أن يكف عن أخذ شعره وأظافره. فانقلب هذا الحديث على أم سلمة كما قالت عائشة.
وفي مثل هذه الأيام يسأل بعض الناس عن أفضل ما يفعلونه من إهداء ثواب الأعمال لموتاهم، فيظن بعضهم: أنه ذبح الأضحية، حيث استقر في نفوس أكثر العامة فعلها. وهذا ليس بصحيح، فإن الأضحية إنما شرعت في حق الحي تشريفًا لعيد الإسلام، وشكرًا لله على بلوغه. يقول الله: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ ٢﴾ [الكوثر: 2] فالمخاطبون بفعل صلاة العيد هم الأحياء المخاطبون بذبح الأضحية لا الموتى، فلم يثبت عن النبي ﷺ الأمر بذبح الأضحية عن الميت، ولم يثبت عن أحد من الصحابة أنه ضحى لميته، أو أوصى أن يضحي عنه بعد موته، ولا أوقف وقفًا له في أضحيته. ولو كانت من البر، أو أنه يصل إلى موتاهم ثوابها، لكانوا أحق بالسبق إليها. والنبي ﷺ قد أرشد الأولاد إلى الدعاء، وإلى الصدقة عن آبائهم؛ فإنها من أفضل ما يرجى ثوابها ونفعها إليهم، لكون الصدقة تصادف من الفقير موضع حاجة، وشدة فاقة، لما يتطلبونه في مؤنة العيد من النفقة والكسوة له ولعياله، فتقع الصدقة بالموقع التي يحبها الله، من تفريج كربته، وتيسير عسرته، وقضاء حاجته، وهي أفضل من قطعة لحم تهدى إليه، لا تسمن ولا تغني من جوع.
فمن أراد أن يعمل عملاً يثاب على فعله، ويصل ثوابه إلى ميته، فليضح عن نفسه، أو يتصدق بثمن الأضحية عن ميته.
إن الأضحية التي قيمتها ستمائة ريالاً متى تصدق بثمنها على ستة بيوت من فقراء المسلمين لكل بيت مائة، فإن هذا أفضل وأعم نفعًا.
وفي الصحيحين أن سعد بن عبادة قال: «يا رسول الله، إن أمي افتلتت نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت لتصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: «نعم، تصدق عن أمك»[71].
وجاء رجل من بني ساعدة قال: يا رسول الله، إن أبوي قد ماتا فهل بقي من برهما شيء أبرهما بعد موتهما؟ قال: «نَعَمْ، الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا »[72]، وفي صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلاثَةٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»[73]. وقال: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ تَصَدَّقَ، وَأَنْتَ صَحِيح شَحِيح، تَخْشَى الْفَقْرَ، وَتَأْمُلُ الْغِنَى، وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الرُّوحُ الْحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلاَنٍ كَذَا، وَلفُلاَنٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ»[74]. فما أحسن من صدقة الشخص، تخرج منه في حالة الصحة بدون أن يتكل فيها على وصيته، فما نفع الإنسان مثل اكتسابه بنفسه لنفسه.
فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
[68] رواه ابن ماجه والحاكم من حديث زيد بن أرقم. [69] أخرجه أبو داود من حديث جابر. [70] أخرجه أحمد وابن ماجه والدارقطني والبيهقي في الكبرى عن أبي هريرة. [71] متفق عليه من حديث عائشة. [72] أخرجه مسلم من حديث أبي أسيد الساعدي. [73] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [74] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.