متقدم

فهرس الكتاب

 

(47) التذكير بعيد الأضحى

الحمد لله رب العالمين. وبه نستعين. ونحمده ونشكره ونكبره أن جعلنا مسلمين. الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كلما أحرموا من الميقات، الله أكبر كلما لبّى الملبّون وزيد في الحسنات، الله أكبر كلما طافوا بالبيت وضجت الأصوات بالدعوات، الله أكبر كلما وقفوا خاضعين بعرفات. فسبحان سامع تلك الأصوات، وسبحان مجيب الدعوات، وسبحان العالم بما مضى من خلقه وما هو آت. الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.

الحمد لله الذي شرع لعباده أنواع العبادة ويسّر، وأنار قلوب أوليائه بنور طاعته وبصّر، وجعل لهم بكمال حجهم عيدًا يعود في كل سنة ويتكرر.

أحمده سبحانه وهو المستحق لأن يحمد ويشكر، وأشهد أن لا إله إلا الله خلق الخلق فقدّر، وشرع ويسّر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فيا أيها الناس: اتقوا الله وأطيعوه، وامتثلوا أمر ربكم ولا تعصوه، فإن أطعتموه لم يصل إليكم شيء تكرهونه، وإن عصيتموه عاقبكم بما لا تطيقونه. واعلموا رحمكم الله؛ أنكم خرجتم إلى هذا الصعيد لقصد أداء صلاة العيد، تأسيًا بنبيكم عليه الصلاة والسلام، وإظهارًا لشكر نعمة الهداية إلى الإسلام، وبلوغ عيد حج بيت الله الحرام. وأن يومكم هذا يعد من أكبر الأيام شعائر، ومن أعظمها مناسك ومشاعر، أطلعه الله عليكم سعيدًا، وجعله لكم نسكًا وعيدًا.

شرفت به أيام التشريق، وأفاض الحجاج فيه من المشعر الحرام إلى البيت العتيق، تهرق فيه دماء الأضاحي، ويطلع الرب فيه على عباده ويباهي فهو يوم الحج والمنحر، وعيد الله الأكبر. يجتمع فيه الحجاج بمنى لقضاء مناسك الحج، ويتقربون إلى الله فيه بالعج والثج. يُحيون سنة أبيهم إبراهيم بما يذبحونه من القرابين، فهو عيد لاستكمال مناسك حجهم، كما أن عيد الفطر عيد لاستكمال شهر صومهم. فهما عيدا أهل الإسلام، ولأجله شرع إظهار التجمل والزينة فيهما، والجهر بالتكبير في ليلتيهما؛ إكبارًا لأمرهما، وإشهارًا لشرفهما.

﴿وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ [البقرة: 185].

الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.

والأضحية سنة في حق الحي. سنها رسول الله ﷺ قولاً منه وفعلاً، ونزل فيها قرآن يتلى ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ ٢ [الكوثر: 2].

وكان أصحاب رسول الله ﷺ يسمنون الأضاحي في بيوتهم حرصًا على هذه الفضيلة. وكان رسول الله ﷺ يقسم الأضاحي بين أصحابه لتعميم العمل بهذه الشعيرة، وإظهار مكانتها من الشريعة.

وعن زيد بن أرقم قال: «قلنا، أو قالوا: يا رسول الله. ما هذه الأضاحي؟ قال: «سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلاَمُهُ» قالوا: فما لنا فيها يا رسول الله؟ قال: «بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ». قالوا: فالصوف؟ قال: «بِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنَ الصُّوفِ حَسَنَةٌ»»[58].

وأهدى رسول الله ﷺ عام حجة الوداع مائة بدنة. أي مائة ناقة، نحر منها ثلاثًا وستين بيده عدد عمره الشريف، وكن يزدلفن بين يديه؛ أي تبرك الناقة قبل الأخرى.

وضحّى عام لم يحج بكبشين أملحين أقرنين، ذبح أحدهما بيده. وقال: ««بِاسْمِ اللهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ، وَآلِ مُحَمَّدٍ» ثم ذبح الثاني، وقال: «اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ، وعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ مِمَّنْ شَهِدَ لَكَ بِالتَّوْحِيدِ، وَشَهِدَ لِي بِالْبَلاَغِ»»[59]. فلا تحزن أيها العاجز الفقير، فقد ضحى عنك البشير النذير.

وقد قال قوم من أهل العلم بوجوب الأضحية على الغني المقتدر، لما روي أن النبي ﷺ قال في يوم العيد: «مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ فَلَمْ يُضَحِّ، فَلاَ يَقْرَبَنَّ مُصَلاَّنَا»[60].

والأضحية إنما شرعت في حق الحي الغني شكرًا لنعمة بلوغه العيد.

أما الأضحية عن الميت فإنه بمقتضى التتبع والاستقراء لكتب الصحاح والسنن والمسانيد، لم نجد لها دليلاً صحيحًا يأمر فيها - بالأضحية- عن الميت، أو يشير إلى وصول ثوابها إليه. ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه ضحى لميته، أو أنه أوصى أن يضحى عنه بعد موته، أو أنه وقف وقفًا في أضحية. فليس لها ذكر عندهم لا في أوقافهم ولا وصاياهم ولا تبرعاتهم لموتاهم. فلو كانت الأضحية عن الميت سنة، أو أنه يصل إلى موتاهم ثوابها بعد موته لسبقونا إلى فعلها.

وإنما أرشد النبي الأولاد إلى الصدقة عن والديهم إذ هي أفضل من الأضحية.

عباد الله: الصلاة الصلاة، فإنه لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، فمنزلتها من الدين كمنزلة الرأس من الجسد، فلا دين لمن لا صلاة له، فهي الفارقة بين أهل الكفر والإسلام لقول النبي ﷺ: «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ»[61]. وكان السلف الصالح يسمونها الميزان، فإذا أرادوا أن يبحثوا عن دين أي إنسان سألوا عن محافظته على الصلاة، فإن حدثوا بأنه محافظ على الصلاة في الجماعة علموا أنه ذو دين، وإن حدثوا بأنه لا يشهد الصلاة علموا أنه لا دين له، وكل من لا دين له فإنه جدير بفعل كل شر، بعيد من كل خير، يستوجب البعد عن وظائف التعليم، لأنه يعدي بدائه، ولأن الخائن صلاته التي هي أمانة ربه، جدير بأن يخون أمته وأهل ملته ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِ [التوبة: 11].

واستعينوا على تربية أولادكم بأخذهم إلى الصلاة في المساجد معكم؛ لأن من شب على شيء شاب على حبه، ولأنه بمجاهدة الولد عليها والأخذ بيده إليها، يعود حبها ملكة راسخة في قلبه، تحببه إلى ربه، وتقربه من خلقه، وتصلح له أمر دنياه وآخرته، فهي الوازع للفرد، تقيم اعوجاج الولد، وتصلح منه ما فسد، وتكون سببًا لانشراح صدره وسعة رزقه. وإنكم متى أهملتم تربية أولاكم، فلم تهذبوهم على حب الصلاة والصيام، وسائر شرائع الإيمان، فإنه لا بد أن يتولى تربيتهم الشيطان، فيحبب إليهم الكفر والفسوق والعصيان﴿وَمَن يَعۡشُ عَن ذِكۡرِ ٱلرَّحۡمَٰنِ نُقَيِّضۡ لَهُۥ شَيۡطَٰنٗا فَهُوَ لَهُۥ قَرِينٞ ٣٦ [الزحرف: 36] يقول الله تعالى: ﴿وَأۡمُرۡ أَهۡلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصۡطَبِرۡ عَلَيۡهَاۖ لَا نَسۡ‍َٔلُكَ رِزۡقٗاۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكَۗ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلتَّقۡوَىٰ ١٣٢ [طه: 132].

وأدوا زكاة أموالكم، فإنها سبب لسعة أرزاقكم، وكأنها بمثابة محك التمحيص لصحة إيمانكم، أوما علمتم أنها إنما سميت زكاة من أجل أنها تزكي المال، بأن تكثره وتوفره وتطهره، كما تزكي إيمان مخرجها من درن الشح والبخل والهلع؟ ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ [الحشر: 9].

وأقسم النبي ﷺ بأنها ما نقصت الزكاة مالاً بل تزيده. فاتخذوها عند الله مغنمًا، ولا تجعلوها مغرمًا، وعليكم ببر الوالدين، وصلة الأرحام، فواصلوهم بالتحف والهدايا وأنواع الإكرام، وزوروهم للسلام عليهم بالأقدام، فإن الأرحام متى تجالسوا وتزاوروا تعاطفوا، ومتى تباعدوا تقاطعوا. فمن وصل رحمه أوصل الله إليه بالخيرات، وبسط له في حاله وماله البركات، ومن قطع رحمه قطع الله عنه الخيرات، وحرمه أنواع البركات، وعاقبه بالوقوع في الأزمات والحاجات، «وَلَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ الذي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا»[62].

والرحم هم: أمك، وأبوك، وأختك، وأخوك، وعمك، وخالك، وبنات عمك، وبنات عماتك، وبنات خالك، وبنات خالاتك، «تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ، مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ، مَنْسَأَةٌ فِي الْأَجَلِ»[63]. أي تكثر المال وتنزل البركة في العمر.

واغتنموا في هذا اليوم إطفاء ثائرة العداوة والأحقاد فيما بينكم، فمن كان بينه وبين أخيه ورحمه أو جاره شيء من العداوة والبغضاء فليرض الرحمن ويغضب الشيطان، ويسعى في إزالة العداوة والهجران، ثم يلقه فيسلم عليه، ليحوز الأجر الجزيل، والفضل العظيم، حيث يأمرنا سبحانه بقوله: ﴿ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيۡنَكَ وَبَيۡنَهُۥ عَدَٰوَةٞ كَأَنَّهُۥ وَلِيٌّ حَمِيمٞ [فصلت: 34] وهجر رجل أخاه سَنَة، كسفك دمه، «وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ»[64].

وعليكم بأداء الأمانة، فإنها عنوان الديانة. ففي الحديث «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ»[65]. ولأن المؤمن يطبع على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب، فأيما رجل استؤمن على حفظ مال لتاجر أو حكومة أو شركة، ثم اختلس ما استؤمن عليه بطريق التلصص الخفي، والخيانة والغدر، فإنه يبتلى في الدنيا بالفاقة والفقر، ويبعث يوم القيامة غادرًا خائنًا. ﴿وَمَن يَغۡلُلۡ يَأۡتِ بِمَا غَلَّ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ [آل‌عمران: 161]. والله لا يصلح كيد الخائنين.

وإياكم والربا فإن عاقبته نار وعار، والذين يأكلون الربا إنما يأكلون في بطونهم نارًا. والربا أنواع؛ أشده وأشره الذين يستدينون من البنوك النقود إلى أجل، ومتى حل الأجل أضافوا زيادة في الثمن، ومدوا في الأجل، وهذا هو عين ربا الجاهلية الذي حرمه الإسلام، وأنزل الله في الزجر عنه القرآن، ولعن رسول الله ﷺ آكله، وموكله، وكاتبه، وشاهديه ﴿فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ [البقرة: 275]. وقلب الدين على المعسر يعد من الربا، ومن أنواع الربا: الاتجار في الأعيان المحرمة، كبيع الخمر ولحم الخنزير، والصور المجسمة، فلا يقولن أحدكم إنما أبيعها على النصارى فإن الله إذا حرم شيئًا، حرم بيعه وشراؤه وثمنه. وفي الحديث: أن النبي ﷺ قال: «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ، فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ»[66]، فـ «إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ»[67].

فأفيقوا من رقدتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، واجتنبوا ما حرم عليكم، واستقيموا على الجادة قبل ﴿أَن تَقُولَ نَفۡسٞ يَٰحَسۡرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنۢبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّٰخِرِينَ ٥٦ [الزمر: 56].

[58] رواه ابن ماجه والحاكم من حديث زيد بن أرقم. [59] رواه أبو داود من حديث جابر. [60] أخرجه أحمد وابن ماجه والدارقطني والبيهقي في الكبرى عن أبي هريرة. [61] رواه من حديث بريدة أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وقال: حسن صحيح. وابن ماجه وابن حبان في صحيحه، وصححه الحاكم. [62] أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو. [63] رواه الإمام أحمد في مسنده والترمذي والحاكم عن أبي هريرة وقال الحاكم: صحيح وأقروه. [64] متفق عليه من حديث أبي أيوب الأنصاري. [65] أخرجه أحمد، وابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما، والبيهقي في الكبرى، والطبراني في الأوسط عن أنس. [66] أخرجه ابن بطة في إبطال الحيل. [67] أخرجه الدارقطني، وابن حبان في صحيحه، وأحمد في مسنده، والطبراني في الكبير عن ابن عباس.