متقدم

فهرس الكتاب

 

(46) الصدقة على المضطرين أفضَل من حجّ التطوّع

الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ومن همزات الشياطين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه خلق الخلق لعبادته وأمرهم بتوحيده وطاعته؛ أوجب ذلك عليهم في خاصة أنفسهم، وأن يجاهدوا عليه أهلهم وأولادهم. يقول الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ ٥٦ [الذاريات: 56] ويقول أيضًا: ﴿وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ ٩٩ [الحجر: 99].

فهذه العبادة التي خلق الله الخلق لها، وأمرهم بالاستقامة عليها، واستدامة فعلها حتى يلاقوا ربهم - تنقسم إلى فرائض وإلى نوافل.

فالفرائض بمثابة رأس المال؛ لأن الله فرض الفرائض فلا تضيعوها. والنوافل بمثابة الربح، ولا ربح إذا لم يصح رأس المال. وحكمة النوافل أنها يُرقع بها خلل الفرائض إن لم يكن صاحبها أتمها. كما أن الغيبة تخرق الصيام والاستغفار يرقعه فمن استطاع منكم أن يأتي بصوم مرقع فليفعل، ومن حكمة النوافل أنها من أسباب محبة الرب للعبد فتجعله من أولياء الله المقربين، وحزبه المفلحين ﴿أَلَآ إِنَّ أَوۡلِيَآءَ ٱللَّهِ لَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ٦٢ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ٦٣ [يونس: 62-63] كما في البخاري أن النبي ﷺ قال: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»[55].

فأفضل ما تقرب به المتقربون إلى الله، هو المحافظة على الفرائض الواجبات، ثم التزود بعدها بنوافل التطوعات. وهذه التطوعات بعضها آكد من بعض؛ لأن منها ما هو مقصور النفع على فاعله، مثل: نوافل الصلاة، ونوافل الصيام، ونوافل الحج، فلا ينتفع الناس بعمل الشخص في مثل هذه التطوعات.

أما المتعدي نفعه إلى الغير فهو: مثل عمل الصدقة، والصلة، وسائر الأفعال الخيرية التي ينتفع بها الناس، ولا شك أن العمل المتعدي نفعه إلى الغير أفضل من العمل المقصور على النفس، لهذا ينبغي للإنسان أن يفعل من التطوعات ما هو أصلح لقلبه، وأنفع في وقته، فقد يصير العمل الفاضل مفضولاً في بعض الأحيان، وكذا عكسه.

من ذلك أن الصدقة على الأقارب المحتاجين، وعلى الفقراء والمضطرين، أفضل من حج التطوع، سواء كان حجه عن نفسه، أو عن والديه وأقاربه الميتين، لكون الصدقة تصادف من الفقير موضع حاجة، وشدة فاقة، لا سيما عند قرب العيد وفي عشر ذي الحجة التي فيها العمل الصالح أفضل من العمل في سائر شهور السنة. فتشتد حاجة الفقير لما يتطلبه العيد من النفقة والكسوة له ولأهله وعياله، فتقع الصدقة بالموقع الذي يحبه الله من تفريج كربه وقضاء حاجته.

وكل من تأمل القرآن والحديث، فإنه يجد فيهما الحث والتحريض بفنون من التعبير، كلها تحفز الهمم، وتنشط الأمم إلى الكرم، وقد مدح الله الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله، وتثبيتًا من أنفسهم، أي يطمئنون ويوقنون بأن ما أنفقوه يخلف عليهم، كقوله تعالى: ﴿مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗ [البقرة: 245] وهذه المضاعفة الفاخرة حاصلة للمتصدق في الدنيا قبل الآخرة، ففي الدنيا يدرك المتصدق والمزكي سعة الرزق وبسطته، ونزول البركة في ماله، حتى في يد وارثه ﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ [سبأ: 39] فلو جربتم لعرفتم، فقد قيل: من ذاق عرف ومن حرم انحرف.

وإنه ما بين أن يثاب الإنسان على الصدقة والصلة والإحسان، أو يعاقب على الإساءة والقطيعة والعصيان، إلا أن يقال: فلان قد مات. وما أقرب الحياة من الممات، وكل ما هو آت آت.

إن أكثر الناس يكسلون عن النفقة فيما هو من واجبهم، وفي الأمر المرغب فيه في حقهم، فتراهم يكسلون عن أداء الزكاة الواجبة، وعن الصدقة على الأرحام، وعلى الفقراء والمضطرين، ولكنهم ينشطون على النفقة في سبيل حج التطوع، وهم قد حجوا ثم حجوا. فيتركون العمل الواجب عليهم، والفاضل في حقهم، ويعدلون عنه إلى العمل المفضول، والذي تركه أفضل من فعله.

وإنني أقول على سبيل النصيحة رجاء أن تعيها أذن واعية: أما الشخص الذي لم يقض فريضة حجة الإسلام، فإنه يجب عليه أن يبادر بقضائها ما دامت الفرصة ممكنة، فإن الفرص تمر كمر السحاب وبالحج يستكمل أركان الإسلام.

أما هؤلاء الذين قضوا فريضة الحج، وأرادوا أن يتزودوا بالنوافل، فإن الأفضل في حقهم صرف ما سينفقونه على الفقراء والمضطرين وسائر فقراء المسلمين في داخل البلاد وخارجها؛ لأن الصدقة على الفقراء والمضطرين لها موقع عظيم في مثل هذه الأيام الفاضلة، وخاصة عشر ذي الحجة التي العمل فيها أفضل من العمل في غيرها.

وإن كان أحدهم مدينًا وجب عليه أن يصرف نفقته إلى قضاء دينه ليعتق نفسه من ذل المطالبة بالدين؛ فإن الدين همٌّ بالليل وذل بالنهار، ولأن قضاء الدين واجب، والتطوع بالحج مستحب، أو أنه مكروه في حقه، فلا يقدم المستحب أو المكروه على الواجب.

إن من النساء في وقت الحج من تقلق راحة زوجها في مطالبته بالحج بها. فتلجئه بإلحاحها إلى الحرج والمشقة وتحمل الديون المرهقة، ثم تخليه عن العمل الذي هو كسبه، وفيه معيشة عياله، فيتحمل هذا كله في سبيل رضاها والحج بها. ولعلها قد قضت فرضها، ثم حجت مرة بعد أخرى، وهذه تعتبر مأزورة غير مأجورة، فإن الأفضل في حقها هو طاعة زوجها، ثم الإكثار من عبادة ربها في بيتها، فتصوم وتصلي وتتصدق. فإن النبي ﷺ لما حج نساؤه قال لهن: «هَذِهِ، ثُمَّ ظُهُورَ الْحُصْرِ»[56]، أي الْزَمْنَ الجلوس في البيوت، فبعضهن لم تفارق بيتها، لا لحج ولا لعمرة، حتى توفاها الله. منهن أم سلمة رضي الله تعالى عنها.

إن الصدقة بما سينفقه في حج التطوع هي أفضل من حج التطوع لكون الصدقة من العمل المتعدي نفعه إلى الغير فتصادف الصدقة من الفقير موضع حاجة وشدة فاقة لما يتطلبه العيد من النفقة والكسوة له ولعياله، فصدقته تقع بالموقع الذي يحبه الله، وتكون أفضل من تطوعه بحجه وعمرته.

ومثله الذين يضحون لوالديهم الميتين، فإن الصدقة عن والديهم أفضل من ذبح الأضحية، فإنه لا أضحية للميت، وإنما شرعت الأضحية في حق الحي شكرًا لنعمة بلوغ عيد الإسلام، وتأسيًا بأبينا إبراهيم، ونبينا محمد، عليهما الصلاة والسلام، وحتى تكون أعياد المسلمين عالية على أعياد المشركين، وما يقربونه لآلهتهم في أعيادهم من القرابين، والله سبحانه أمر بالحج في آية واحدة؛ لكنه أمر بالصلاة والصدقة وسائر الأفعال الخيرية أكثر من ثلاثمائة مرة، وتكرار ذكرها هو مما يدل على فضل فعلها.

وإنه ما بخل أحد بنفقة واجبة في سبيل الحق من زكاة وصدقة وصلة إلا سلطه الشيطان على نفقة ما هو أكثر منها في سبيل الباطل.

وما أنفق أحد نفقة في سبيل الحق من زكاة وصدقة وصلة إلا أخلفها الله عليه أضعافًا مضاعفة، فلو جربتم لعرفتم. وصدق الله العظيم ﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ [سبأ: 39]. ﴿وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ [التغابن: 16].

إن أكثر الناس قد غلب عليهم حب الشهرة، فجعلوا الحج والعُمرة بمثابة سفر النزهة كي يقال: حج فلان، وحجت فلانة. والله سبحانه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان صالحًا، وابتغي به وجهه؛ لهذا نرى خشوع العبادة قد غرب عن قلوب الناس في مشاعر الحج ومشاهده، فالركب كثير والحاج قليل.

وإنني أقول على سبيل النصيحة لهؤلاء الذين يتطوعون بالحج كل عام، أو عامًا بعد عام، وأخص أهل مكة، وأهل البلدان المجاورة للبلد الحرام من سائر بلدان المملكة العربية السعودية وأهل الخليج وما حولهم، وأن الأفضل في حق هؤلاء هو الإكثار من عبادة ربهم في بلدهم، فيكثرون من الصلاة والصيام والصدقة، ويصرفون ما سينفقونه في حجهم إلى الفقراء والمساكين والمضطرين وسائر أفعال الخير، فإن هذا أفضل من تطوعهم بحجهم وعمرتهم.

أضف إلى ذلك أن المجاورين بالبلد الحرام، والذين يترددون للحج عامًا بعد عام، بأنهم يتعرضون للأضرار ومواقع الأخطار، من تصادم السيارات وانقلابها، ويصيب الناس الضرر الشديد منهم بتضييقهم على الناس بسياراتهم وخيامهم ومسالك طرقهم ومشاعر حجهم. وفي الطواف والسعي والصلاة في المسجد الحرام، حتى لا يكاد يجد الإنسان مكانًا لموضع جبهته في المسجد الحرام، وكله من شدة زحمة المجاورين للبلد الحرام، والذين يترددون إلى الحج عامًا بعد عام.

وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر أهل مكة بأن يخلوا المطاف للحجاج الغرباء. فاحتساب التوسعة على الناس في هذا الزمان فيه فضل، ولفاعله أجر، ونيته تَبْلُغ مبلغ عمله.

وإنني أنصح كبار الأسنان وضعاف الأجسام من رجال ونساء الذين يشق عليهم الزحام ويخشى من سقوطهم تحت الأقدام، متى قضوا فرضهم بأن يلزموا أرضهم، ويكثروا من عبادة ربهم في بلدهم، فإن أبواب الخير كثيرة؛ وليس الحج من أفضلها، وليحافظوا على حياتهم وصحتهم، فلا يتعرضوا للبرد القارص، ولا للحر القاتل. فإن البرد سريع دخوله، بطيء خروجه، ويتزايد ضرره، ويعظم خطره في أوله. كما قال علي رضي الله عنه: اتقوا البرد في أوله، وتلقوه في آخره، فإنه يعمل في الأبدان كعمله في الأشجار، أوله يحرق، وآخره يورق[57].

هذا وإن الوقاية خير من العلاج، ونية المؤمن تبلغ مبلغ عمله؛ والحمد لله الذي جعل الحج فرض في العمر مرة واحدة، ولم يفرضه على التكرار، فاقبلوا من الله عفوه، واحمدوه على عافيته، ﴿وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ وَأَحۡسِنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ [البقرة: 195]، ﴿وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا [النساء: 29].

أسأل الله سبحانه أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

[55] رواه البخاري عن أبي هريرة. [56] أخرجه أحمد وأبو داود والبيهقي في الكبرى عن أبي واقد الليثي. [57] ذكره المناوي في فيض القدير.