(45) فقه أحكام منسك حَجّ بَيت الله الحرام
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من قال: ربي الله، ثم استقام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام، والداعي إلى دار السلام. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه البررة الكرام.
أما بعد:
فإن الله سبحانه جعل الشهور والأعوام، والليالي والأيام كلها مواقيت الأعمال، ومقادير الآجال، فهي تنقضي جميعًا، وتمضي سريعًا والذي أوجدها وخصها بالفضائل، وأودعها هو باق لا يزول، ودائم لا يحول، يقلب عباده في فنون الخِدَم، ليسبغ عليهم فواضل النعم، ويعاملهم بغاية الجود والكرم. فلما مضى شهر الصيام، أقبل شهر الحج إلى بيت الله الحرام. فكما أن «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»[1]، فكذلك «مَنْ حَجَّ الْبَيْتَ، فَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»[2].
وهذا التكفير إنما يقع في صغائر الذنوب في قول الجمهور، أما الكبائر مثل القتل والربا والزنا وشرب الخمر وأكل أموال الناس فهذه لا يكفرها الحج، ولا الصلاة ولا الصيام، وإنما تكفر بالتوبة ورد المظالم.
ثم إن الله سبحانه قد بنى دين الإسلام على خمسة أركان؛ الخامس منها حج بيت الله الحرام. وخطب النبي ﷺ فقال: ««إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ» فقام الأقرع بن حابس فقال: يا رسول الله، أفي كل عام؟ فقال: «لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَمَا اسْتَطَعْتُمْ، الْحَجُّ مَرَّةٌ، وَمَا زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ»» رواه الخمسة إلا الترمذي، وأصله في مسلم.
يقول الله تعالى: ﴿وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ ٢٧ لِّيَشۡهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمۡ﴾ [الحج: 27-28]. وهذه المنافع التي يشهدها الحج شاملة لمنافع الدنيا، ومنافع الآخرة.
فمن منافع الدنيا أن يلقى المسلمون بعضهم بعضًا في بلد من دخله كان آمنًا، فيتعارفون ويتعاشرون ويتواصلون ويتناصحون، فيتفكرون في علاج عللهم، وإصلاح مجتمعهم، وإزالة الإحن والشحناء من بينهم.
وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر أمراء الأمصار وسائر العمال بأن يلقوه في موسم الحج فيسأل كل واحد عما تولاه من شؤون رعيته، وما تحتاجه من الإصلاح والتعديل.
وأما منافع الآخرة، فما يحصل لهم من المغفرة لمن أخلص نيته، وأصلح عمله، ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: «الحجاج والعمار وفد الله، إن سألوه أعطاهم، وإن دعوه أجابهم، وإن أنفقوا أخلف الله عليهم» رواه النسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. يقول الله سبحانه: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗا﴾ [آلعمران: 97] وعن أنس قال: «قيل: يا رسول الله، ما السبيل؟ قال: «الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ»». رواه الدارقطني وصححه الحاكم. والراجح إرساله.
وشَرَط الفقهاء الأمن على نفسه من خوف الهلاك.
[1] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [2] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة.