متقدم

فهرس الكتاب

 

المبيت بمنى

وقد عد الفقهاء المبيت بمنى من واجبات الحج، وقد أنزل الله فيه: ﴿وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوۡمَيۡنِ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۖ لِمَنِ ٱتَّقَىٰ [البقرة: 203] فالأيام المعدودات هي أيام التشريق، والنبي ﷺ قال: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»[41] وأيام التشريق هي ثلاثة أيام بعد العيد. فمن تعجل بالانصراف في اليوم الثاني فلا إثم عليه، وإنما وجب المبيت بمنى من أجل تكميل بقية الحج، الذي يفعل فيها من الرمي والنحر والحلق، ولكن متى ضاقت منى بالناس، فإنه من الجائز أن ينزلوا بما جاورها من أرض مزدلفة أو عرفة أو محسّر؛ لكونها ضرورة تقدر بقدرها، وإذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، والنبي ﷺ قال: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[42]. ولأن ما جاور الشيء يعطى حكمه، أشبه المسجد الحرام، حيث أدخل فيه كثير من البيوت بما اشتملت عليه من المرافق والمنافع، وصار حكمها حكم المسجد الحرام، ويلتحق الزائد بالمزيد في الفضيلة. ومثله الوقوف بعرفة. فقد قال النبي ﷺ: «وَقَفْتُ هَهُنَا، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَنَحَرْتُ هَهُنَا، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، وَجَمْعٌ - أَيْ: مُزْدَلِفَةَ - كُلُّهَا مَوْقِفٌ»[43]. فوسع النبي ﷺ للناس في مواقفهم. فمتى ضاق الموقف بالناس جاز الوقوف بما جاوره، كما جازت الصلاة في الطرق عند مضيق الناس وزحمتهم، كما أن في إحدى الروايتين عن أحمد أن المبيت بمنى سنة ولا دم في تركه، اختارها عبد العزيز صاحب الشافي، وهي مذهب أبي حنيفة. قاله في الإفصاح.

ثم إن رسول الله ﷺ وأصحابه في اليوم الثالث دفعوا إلى مكة، ونزلوا بالأبطح حتى باتوا بها، فقال بعض الناس، إن النزول بالأبطح سنة، فقالت عائشة: إنما نزل بالأبطح ليكون أسمح لخروجه[44].

وفي آخر الليل دفع رسول الله ﷺ منه إلى المسجد الحرام، فطاف طواف الوداع وقيل له: إن صفية قد حاضت. فقال: ««أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ هَلْ طَافَتْ طَوَافَ الإفَاضَةِ؟» قالوا: نعم. قال: «فَلْتَنْفِرْ إِذَنْ»»[45]. فدل على أنه لا يجب على الحائض طواف الوداع، ولا الاستنابة فيه لسقوطه عنها.

ثم قيل له: «إن أم سلمة شاكية لا تستطيع الطواف. فقال: «لِتَطُفْ، وَهِيَ رَاكِبَةٌ»[46] قالت: فطفت على بعير من وراء الناس، ورسول الله يصلي بالناس صلاة الفجر ويقرأ فيها بالطور، فما رأيت أحسن قراءة منه. ثم سافر رسول الله ﷺ إلى المدينة.

يسأل بعض الناس: هل الأفضل للحاج أن يبدأ بالمدينة قبل مكة أو بمكة قبل المدينة؟

والجواب: أنه لا مشاحة في ذلك، وبداءته بجعل المدينة هي طريقه إلى مكة أفضل من إنشائه السفر إلى القبر. ويجب عليه أن يحرم عندما يتوجه إلى مكة من موضع ما يحرم منه أهل المدينة، لكون المواقيت للبلدان هي لأهلها، ولمن مرّ عليها من غيرهم. فقول النبي ﷺ: «ميقات أهل المدينة ذو الحليفة، وميقات أهل الشام الجحفة، وميقات أهل نجد قرن المنازل، وميقات أهل اليمن يلملم»[47]. ثم قال: «هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة». متفق عليه من حديث ابن عباس.

وتعيينه المواقيت لأهل هذه البلدان قبل إسلام أهلها، هي من معجزات نبوته ﷺ كما قال الناظم:
وتعيينها من معجزات نبينا
لتعيينه من قبل فتح المعدد
وقد قال النبي ﷺ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي هَذَا بِمِائَةِ صَلَاةٍ»[48].

وإنما استحب العلماء زيارة المدينة لأجل الصلاة في مسجد رسول الله ﷺ لحصول المضاعفة بالصلاة فيه، ومشاهدة آثاره، لكنه يستحب للحاج متى وصل إلى المدينة ودخل المسجد النبوي أن يزور قبر رسول الله ﷺ، وقبر صاحبيه ويسلم عليهم، مع العلم أنه لا علاقة لزيارة المدينة في الحج، بل الحج صحيح بدونها. وأما حديث «مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي». فإنه حديث مكذوب على رسول الله بتحقيق علماء الحديث، بل الحديث الصحيح هو قول النبي ﷺ «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا - أي تعتادون مجيئه - وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، - أي تهجرونها من فعل نوافل الصلاة فيها - وَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي أَيْنَ كُنْتُمْ».

وعن علي بن الحسين رضي الله عنهما أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي ﷺ. فيدخل فيها ويدعو فنهاه. فقال: ألا أحدثك حديثًا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله ﷺ أنه قال: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ تَسْلِيمَكُمْ لَيَبْلُغُنِي أَيْنَ كُنْتُمْ»[49] فلا معنى لهذا الزحام عند القبر ولا التمسح بجدار الحجرة والشبابيك فكل هذا يعد من الغلوّ الذي نهى عنه رسول الله، فالذي يصلي ويسلم على رسول الله في مشارق الأرض ومغاربها والذي يصلي ويسلم عليه عند حافة قبره هما في التبليغ سواء. وليس الذي يصلي ويسلم عليه عند جانب قبره بأفضل من الذي يصلي عليه في بيته، أو في مسجد قومه، أو في أي بقعة من مشارق الأرض أو مغاربها؛ لأن الله وكل ملائكته الكرام يبلغونه سلام أمته.

وقد أمرنا بأن نقول في صلاتنا - السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته وعلم الرسول أصحابه كيفية الصلاة عليه فقال: قولوا: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَآلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ»[50]. وهذه هي أفضل صيغة في صفة الصلاة على النبي ﷺ. وكما أمرنا بعد إجابتنا لنداء الصلاة بأن نقول: «اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلاَةِ القَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الوَسِيلَةَ وَالفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ»[51] وهذا كله حماية منه لجناب التوحيد وسد لطرق الشرك؛ لأن الذي يدعى له لا يدعى من دون الله.

والصلاة على النبي ﷺ: هي من أفضل الطاعات، وأجل القربات، ومن صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرًا ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّۚ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا ٥٦ [الأحزاب: 56] والنبي ﷺ قال: «أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ»[52]. وقال: «صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي أَيْنَ كُنْتُمْ»[53] فمحبة الرسول الطبيعية لا تغني عن محبته الدينية. فالمحبة الصادقة توجب طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع، لا بمجرد الهوى والبدع.

وهذا معنى قوله تعالى: ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٣١ [الأحزاب: 56] فمعناه بالضبط: إن كنتم تحبوني فاتبعوني وأطيعوا أمري يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم.

فمن البدع كون بعض الناس بالمدينة متى سلموا من صلاة الفرض، نفروا وقاموا إلى القبر يسلمون على رسول الله ﷺ وقد عده الإمام مالك بدعة! لأنه ليس من عادة الصحابة، ولا السلف الصالح أنهم يفعلون ذلك، وإنما يكتفون بتسليمهم عليه في صلاتهم، حيث يقولون: «السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ». وهذا السلام بهذه الصفة كافية، ولن يضيع عند الله ولا عند نبيه وحبيبه محمد ﷺ.

وأعظم من هذا دعاؤهم واستغاثتهم برسول الله ﷺ كأن يقولون: يا محمد اشفع لي، يا محمد أنقذني، يا محمد أنقذ أمتك من المهالك. ومثله قول بعضهم:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
سواك عند نزول الحادث العمم
فهذا كله يعد من الشرك الأكبر الذي لا يغفر، ﴿وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلۡإِيمَٰنِ فَقَدۡ حَبِطَ عَمَلُهُۥ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ [المائدة: 5] ﴿إِنَّهُۥ مَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ ٱلۡجَنَّةَ وَمَأۡوَىٰهُ ٱلنَّارُۖ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ [المائدة: 72] والنبي ﷺ قال: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ»[54]. وكل من دعا الرسول ﷺ واستغاث به فقد عبده لأن الدعاء مخ العبادة!

وأخبر سبحانه بأنه لا أضل ممن يدعو من دون الله فقال سبحانه: ﴿وَمَنۡ أَضَلُّ مِمَّن يَدۡعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لَّا يَسۡتَجِيبُ لَهُۥٓ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَهُمۡ عَن دُعَآئِهِمۡ غَٰفِلُونَ ٥ وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمۡ أَعۡدَآءٗ وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمۡ كَٰفِرِينَ ٦ [الأحقاف: 5-6] فسمى الله دعاءهم عبادة؛ لأن من دعا مخلوقًا فقد عبده. وقال: ﴿وَلَا تَدۡعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَۖ فَإِن فَعَلۡتَ فَإِنَّكَ إِذٗا مِّنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٠ [يونس: 106] فأخلصوا الدعاء لربكم، وأكثروا من الصلاة على نبيكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

[41] أخرجه مسلم عن نبيشة الهذلي. [42] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [43] أخرجه مسلم وأحمد من حديث جابر. [44] متفق عليه من حديث عائشة. [45] متفق عليه من حديث عائشة بنحوه. [46] أخرجه ابن ماجه من حديث أم سلمة بنحوه. [47] رواه مسلم عن ابن عباس. [48] رواه الإمام أحمد وصححه ابن حبان من حديث ابن الزبير. [49] رواية أبي داود «لَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا». [50] متفق عليه من حديث كعب بن عجرة. [51] أخرجه البخاري عن جابر. [52] رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أوس بن أوس. [53] رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة. [54] أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة دون لفظ: «يعبد».