سقوط الرمي عَمّن لا يستطيع الوصول إلى موضع الجمار بدون استنابة
إن الأصل في هذا هو قول النبي ﷺ: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[34]. فكما أن واجبات الصلاة تسقط عمن لا يستطيعها؛ فكذلك واجبات الحج. فإنها تسقط عمن لا يستطيعها؛ لأن واجبات الصلاة آكد من واجبات الحج، بحيث إن واجبات الصلاة لو تعمد ترك واجب منها بدون عذر بطلت صلاته، بخلاف واجبات الحج، فإنه لو تعمد ترك واجب بدون عذر لم يبطل حجه وإنما عليه دم.
ومتى كان أصل فرض الحج يسقط عمن لا يستطيعه بنص القرآن، فما بالك بسقوط الواجب المعجوز عنه؛ إذ هو أولى بالسقوط بدون استنابة. وليس عندنا ما يثبت الاستنابة في واجبات الحج عند العجز عنها.
لهذا أفتينا ضعاف الأجسام، وكبار الأسنان، والمصابين بالمرض، من رجال ونساء - الذين لا يستطيعون الوصول إلى الجمار- بأن الرمي يسقط عنهم بدون استنابة ولا دم عليهم، كما أن أصل الحج يسقط عمن لا يستطيعه سقوطًا كليًّا بنص القرآن، فما بالك بسقوط الرمي عمن لا يستطيعه إذ هو من باب الأولى والأحرى.
وقد أسقط النبي ﷺ طواف الوداع عن الحائض بدون استنابة. وقد عده الفقهاء من واجبات الحج. وهذا واضح جلي لا مجال للجدل في مثله، إذ ليس عندنا ما يثبت صحة التوكيل في سائر واجبات الحج أو مستحباته.
فلما أكل رسول الله ﷺ من لحم هديه، وشرب من مرقه، دفع إلى مكة ومعه أصحابه، فطاف بها طواف الحج، ولم يثبت عنه أنه سعى بل اكتفى بسعي القدوم عن الحج والعمرة؛ لكون القارن يكفيه سعي واحد عن الحج والعُمرة. واختار شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم أن المتمتع يكفيه سعي واحد عن حجه وعمرته، كالقارن، إذ هما في الحكم سواء، وهذا معنى قول النبي ﷺ «دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[35]. إذ الدخول هو أن يكتفى بسعي أحدهما عن الآخر، وهذا هو نفس ما فعله الصحابة الذين حلوا من إحرامهم بعد سعي العمرة، ثم طافوا مع النبي ﷺ طواف الإفاضة، ولم يعيدوا السعي اكتفاء بسعي العمرة. فاكتفاء الرسول ﷺ بسعي واحد عن حجه وعمرته، هو أمر مسلم لا خلاف فيه؛ لكونه قارنًا. والصحابة الذين حلوا من إحرامهم بعد سعي العمرة، لم يثبت تخلفهم عنه؛ لاستئناف سعي ثانٍ لحجهم. وبذلك تظهر فائدة دخول العمرة في الحج إلى يوم القيامة، وكونه يكتفى بطواف أحدهما وسعيه عن الآخر.
ونحن لا نشك في صحة حج من اكتفى بسعي واحد عن حجه وعمرته في حج التمتع كالقارن على حد سواء. كما هو فعل الصحابة، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم. وبما أننا نخشى أن يلقى هذا الحاج أحدًا من أهل العلم الذين لم يفقهوا في المسألة حق الفقه، فيقول له: بطل حجك، فيعود باللائمة على نفسه وعلى من أفتاه؛ لهذا فإن الأحوط في حق هذا أن يسعى مع طواف الإفاضة حتى يكون مطمئنًّا من اللائمة مع العلم بأننا لا نشك في صحة حج من اقتصر على سعي واحد والله أعلم.
ثم أتى رسول الله ﷺ زمزم. وقال: «انْزِعُوا يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ، لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ»[36] فناولوه دلوًا فشرب منه وهو قائم. وصلى بالناس الظهر بالمسجد الحرام قصرًا، ولما فرغ من صلاته قال: «يَا أَهْلَ مَكَّةَ، أَتِمُّوا؛ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ»[37].
وفي اليوم الثاني جلس رسول الله ﷺ وجعلوا يسألونه فما سئل عن شيء قُدم ولا أُخر إلا قال: «افْعَلْ، وَلَا حَرَجَ»[38]، حتى إذا زالت الشمس، قام وقام الناس معه يتبعونه حتى أتى الجمرة الأولى فرماها بسبع حصيات، يكبر عند كل حصاة، ثم أسهل في الوادي، وأخذ يرفع يديه يدعو ويتضرع طويلاً، والناس صفوف خلفه يدعون ويتضرعون، ثم أتى الجمرة الوسطى، ففعل ذلك، ثم أتى إلى جمرة العقبة فرماها ولم يقف عندها - قيل لضيق المكان - ثم انصرف بالناس وصلى بهم صلاة الظهر بمسجد الخيف من منى، فصلى بهم ركعتين قصرًا من غير جمع.
ومن هدي رسول الله ﷺ أنه كان يقصر الصلاة بمنى أيام منى ولا يجمع[39]
ولم يحفظ عن رسول الله ﷺ منذ دخل مكة إلى أن خرج منها أنه جمع بين الصلاتين إلا في عرفة؛ جمع بين الظهر والعصر جمع تقديم؛ لاتصال الوقوف، وفي مزدلفة جمع بين المغرب والعشاء جمع تأخير، وما عدا ذلك فإنه يقصر الصلاة ولا يجمع. قال ابن مسعود: من حدثكم أن رسول الله ﷺ كان يجمع في منى فقد كذب عليه. ولعل السبب في تأخيره رمي الجمار إلى الزوال أنه يريد أن يخرج بالناس مخرجًا واحدًا للرمي وللصلاة في مسجد الخيف؛ ليكون أسمح وأيسر لهم.
ولم يثبت عن رسول الله ﷺ أنه قال لا ترموا الجمرة حتى تزول الشمس حتى يكون فيه حجة لمن حدده. وأما قوله: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»[40] فإن مناسكه تشمل الأركان، والواجبات، والمستحبات، وأما تحديد الفقهاء للرمي أيام التشريق بما بين الزوال إلى الغروب، فإنه تحديد خال من الدليل، وقد أوقع الناس فيه الحرج والضيق لكون الجمع كثير، وزمن الرمي قصير، وحوض المرمى صغير، وصار الناس يطأ بعضهم بعضًا عنده، والنبي ﷺ قد بين للناس ما يحتاجون إليه، فما سئل عن شيء من التقديم والتأخير فيما يفعلونه في يوم العيد وأيام التشريق إلا قال: «افْعَلْ، وَلَا حَرَجَ». فنفى وقوع الحرج عن كل شيء من التقديم والتأخير، فلو كان يوجد في أيام التشريق وقت نهي غير قابل للرمي لبينه النبي عليه السلام، للناس بنص جلي؛ قطعي الرواية والدلالة، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه. والحالة الآن، وفي هذا الزمان، هي حالة حرج ومشقة وضرورة، توجب على العلماء إعادة النظر فيما يزيل عن أمتهم هذا الضرر، ويؤمن الناس من مخاوف الوقوع في هذا الخطر الحاصل من شدة الزحام، والسقوط تحت الأقدام، حتى صاروا يحصون وفيات الزحام كل عام، إذ هو من باب تكليف ما لا يستطاع، ولا يلزم بتركه مع العجز عنه دم، وصار الحكم بلزومه مستلزمًا للعجز عنه، والله سبحانه لا يكلف نفسًا إلا وسعها.
إذا شئت أن تُعصَى وإن كنت قادرًا
فمُرْ بالذي لا يُستطاع من الأمر
[34] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [35] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله. [36] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله. [37] أخرجه مالك في الموطأ من حديث عمر. [38] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو. [39] متفق عليه من حديث ابن عمر. [40] أخرجه مسلم والنسائي والبيهقي في الكبرى من حديث جابر.