حكمة الحيض وما يجب على من ابتليت به في سفر حجّها
ثم دخل على عائشة وهي تبكي فقال: «ما يبكيك، لعلك نفست؟» أي حضت، فأشارت إليه أي نعم. فقال: «إِنَّ هَذَا أَمَرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي»[17] وفي رواية قال: ««ارفضى حجك واجعليها عمرة» أي قولي لبيك عمرة وحجًّا. وقال لها: «إِنَّ طَوَافَكِ بِالْبَيْتِ، وَسَعْيَكِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، يَكْفِيكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ»». فالحيض خلقة وجبلة في المرأة خلقه الله لحكمة غذاء الجنين في البطن، كما أن صفار البيضة يغذي الفرخ حتى يتم. ولهذا الحامل لا تحيض، ومتى خرج منها الدم فإنه نقص في الحمل، ويعتبر بأنه دم فساد لا تترك له الصلاة ولا الصيام، وهو من مكملات المرأة، لكون المرأة التي تحيض هي المستعدة للحمل.
فالمرأة متى ابتليت بخروج الحيض عند الإحرام، أو عند قرب دخولها مكة، فإنها تدخل العمرة على الحج وتقول: لبيك عمرة وحجًّا. فتصير قارنة ولا تطوف، ولا تسعى حتى تطهر وتغتسل، ويكفيها لحجها وعمرتها طواف واحد، وسعي واحد، ولو بعد الوقوف ورمي الجمار.
لكن إذا استمر الحيض عليها، وخافت من خروج الرفقة من مكة قبل أن تطهر، وقبل أن ينقطع عنها الدم ولا يمكنها التخلف عنهم، فقد أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم مثل هذه المرأة بأن تغتسل وتستثفر، ثم تطوف وتسعى وتفعل بقية حجها. ويكفيها ذلك، ويعتبر حجها صحيحًا؛ لأنها حالة ضرورة والضرورة تقدر بقدرها، ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَا﴾ [البقرة: 286] ﴿فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ﴾ [التغابن: 16] فأشبه عادم الطهورين يصلي على حسب حاله. وكذا المرأة المبتلاة بجريان الدم بما يسمى الاستحاضة، وكذلك الرجل المبتلى بسلس البول الدائم، فكل واحد من هؤلاء يصلي على حسب حاله حتى ولو قطر الدم على الحصير، وكذلك طواف الحج فإنه يطوف على حسب حاله؛ إذ الطهارة للصلاة آكد من الطهارة لطواف الحج وإذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، والنبي ﷺ قال: «وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[18]. وهذا هو الذي نعتقده ونعتمد صحة الفتوى به.
وقد رخص الفقهاء للحائض والنفساء متى توضأت وضوء الصلاة بأن تمكث في المسجد الحرام وغيره من المساجد متى أمنت تلويثه، لكون الوضوء يخفف من حدث الحيض والنفاس، وكذا الجنابة. وقالوا: إن الصحابة كانوا يمكثون في المسجد بعد الوضوء وهم مجنبون، ولهذا قال ناظم المفردات:
وبوضوء جنب أو حائض
أو نُفَسَا بلا نجيع فائض
لهم يجوز اللبث كالعبور
في مسجد ذاك على المشهور
[17] متفق عليه من حديث عائشة. [18] متفق عليه من حديث أبى هريرة.