صفة الإحرام بالحج
ثم إن رسول الله ﷺ تجرد لإحرامه واغتسل؛ فأحرم في إزار ورداء، وصلى ركعتين بعد إحرامه؛ والإحرام هو نية الدخول في نسك الحج والعمرة متمتعًا، ولا يلزمه التلفظ بالنية، بل لو أحرم كما يحرم الناس صح، ويصير متمتعًا ولو لم يتلفظ بنية الحج، وهذا هو الظاهر من فعل الصحابة.
قال جابر: ثم ركب رسول الله ﷺ ناقته القصواء، فلما استوت به على البيداء، نظرت إلى مد بصري من بين راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن شماله مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله ﷺ بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن. فما عمل به من شيء عملنا به، فأهل بالتوحيد «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ»[8]. وأهل الناس بالذي يهلون به، ولزم رسول الله ﷺ تلبيته. ومعنى «لبيك» أي: ملازمًا لطاعتك، مجيبًا لدعوتك، وهي من ألطف التحيات التي يستجيب بها المدعو لمن دعاه، فإنك إذا دعوت شخصًا فأجابك بقوله: «لبيك » فإن محبته تتغلغل في قلبك. وأصل التلبية: أن الله سبحانه لما أمر نبيه إبراهيم عليه السلام ببناء البيت؛ فامتثل أمر ربه طائعًا، وساعده ابنه إسماعيل مسارعًا. فلما فرغا من بنائه، أمره بأن ينادي في الناس بالحج. فقال: يا رب صوتي ضعيف فمن ذا الذي يجيبني؟ فقال الله: عليك الصوت، وعلينا البلاغ. فصعد جبل أبي قبيس ونادى: أيها الناس، إن الله قد بنى لكم بيتًا فحجوا[9]. فالحاج في تلبيته يجيب نداء ربه لما دعاه إلى بيته، ويقول: لبيك اللهم لبيك.
فسار رسول الله ﷺ في طريقه حتى لقي ركبًا بالروحاء قال: ««من القوم؟» قالوا: المسلمون. قالوا: من أنت؟ قال: «أنا رسول الله» فرفعت امرأة إليه صبيا فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ قال: «نعم، ولكِ أجر»»[10]. فدل هذا الحديث على استحباب إحرام الصبي للحج بحيث يحرم عنه وليه، ويطوف به، ويسعى به، ويرمي عنه، ويفدي له، إن كان إحرامه بالتمتع، وإن إحرامه له هو من باب الاستحباب لا الوجوب، وإنما شرع للتمرين على العبادة، لكن هذا الحج لا يجزيه عن حجة الإسلام.
ثم سار رسول الله ﷺ في طريقه، فجاءت امرأة من خثعم، قالت: «يا رسول الله، إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهُ»[11].
فدل هذا الحديث على جواز حج المرأة عن الرجل، وأن المرأة يجوز لها أن تحج عن أبيها أو عن أمها، كما يجوز للرجل أن يحج عن أبيه وعن أمه إذا كان قد حج عن نفسه.
كما دل الحديث على الرجل الكبير، والمرأة الكبيرة اللذين لا يستطيعان الطواف ولا السعي، ولا الزحام مع الناس أنه يجوز لهما أن يستنيبا من يحج عنهما، فيُحْرِم النائب عنهما بالعمرة ومتمتعًا بها إلى الحج، ويفعل سائر ما يفعله الحاج.
وسألته امرأة قالت: يا رسول الله، إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ فقال: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ»[12]. فدل هذا الحديث على أن من نذر فعل طاعة من الطاعات، كمن نذر أن يحج، أو نذر أن يصوم عشرة أيام، أو أن يتصدق بكذا أو كذا، فإن هذا النذر نذر طاعة، قد أوجبه على نفسه، فلزمه الوفاء به. وقد مدح الله في كتابه الذين يوفون بالنذر. وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ، فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ، فَلاَ يَعْصِهِ»[13]. والنذر على الإطلاق مكروه، وليس بمحبوب؛ لأن الناذر يوجب على نفسه شيئًا لم يوجبه الله عليه؛ ولهذا قال النبي ﷺ: «النَّذْرُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ». لكنه متى ألزم نفسه بنذر الطاعة، من الحج أو الصيام أو الصدقة، وجب عليه به الوفاء، فإن مات قبل وفائه قضاه عنه وليه؛ لما في الصحيحين عن عائشة أن النبي ﷺ قال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ». وقد حمله الإمام أحمد على صوم النذر، فهو الذي يُقضى عن الميت، لأنه بمثابة الدَّيْن الذي يتعين المبادرة بقضائه.
[8] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله. [9] ذكره الفاكهي في أخبار مكة بمثل معناه. [10] أخرجه مسلم من حديث ابن عباس. [11] متفق عليه من حديث ابن عباس. [12] أخرجه البخاري وأصحاب السنن من حديث ابن عباس. [13] أخرجه البخاري وأصحاب السنن من حديث عائشة.