(26) فرض الزكاة وفضلها وبركة المال المُزكى وحُسن عاقبَته
الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ومن همزات الشياطين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «بُنِىَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ»[231] فهذه هي أركان الإسلام لمن يسأل عن الإسلام، وهي الفرقان بين المسلمين والكفار، والمتقين والفجار، كما أنها محك التمحيص لصحة الإسلام، بها يُعرَف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان، وكل من تأمل القرآن، يجده مملوءًا بالأمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، لأن الصلاة عمود دين الإسلام، كما أن الزكاة أمانة الله في مال كل إنسان؛ لأن الله سبحانه قد افترض في أموال الأغنياء بقدر الذي يسع الفقراء، ولن يجهد الفقراء، أو يجوعوا، إلا بقدر ما يمنعه الأغنياء من الحق الواجب لهم في مالهم. «وَقَدْ أُمِرَ النَّبِيُّ ﷺ بِأَنْ يُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ»[232].
ولهذا استباح الصحابة قتال المانعين للزكاة، وعدُّوهم مرتدين بمنعها. ولما بلغ عمر بن الخطاب أن قومًا يفضلونه على أبي بكر. قال: أما أني سأخبركم عني وعن أبي بكر: إنه لما مات رسول الله ﷺ ارتدت العرب فمنعت زكاتها؛ شاءها وبعيرها. فاتفق رأْيُنا أصحاب محمد ﷺ أن أتينا إلى أبي بكر الصديق. فقلنا: يا خليفة رسول الله، إن رسول الله ﷺ كان يقاتل الناس بالوحي والملائكة، يمده الله بهم، وقد انقطع ذلك اليوم، فالزم بيتك، فإنه لا طاقة لك بقتال العرب كلهم. قال: أوكلكم على رأي هذا؟ قلنا: نعم. قال: والله لَأَنْ أَخِرَّ من السماء فتخطفني الطير، أحب إلي من أن يكون هذا رأيي! فصعد المنبر ثم قال: أيها الناس، من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. أيها الناس أَإِن قل عددكم وكثر عدوكم ركب الشيطان منكم هذا المركب؟! والله ليظهرن الله هذا الدين على الأديان كلها ولو كره المشركون. قوله الحق، ووعده الصدق ﴿بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٞۚ وَلَكُمُ ٱلۡوَيۡلُ مِمَّا تَصِفُونَ ١٨﴾ [الأنبياء: 18] ﴿كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةٗ كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ﴾ [البقرة: 249] والله - أيها الناس - لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لجاهدتهم عليه، واستعنت الله عليهم، وهو خير معين. والله - أيها الناس - لو أفردت من جمعكم لسللت سيفي حتى أبلى في سبيل الله بلوى، أو أقتل في سبيل الله قتلاً.
قال عمر: فعلمنا أنه الحق ما تبعناه حتى ضرب الناس له بعطن.
وإنما استباح الصحابة قتال المانعين للزكاة، من أجل أن الفقراء شركاء للأغنياء في القدر المفترض لهم في أموال الأغنياء. فمتى أصر الأغنياء على منعه، وجب على الحاكم جهادهم بانتزاعه منهم، ودفعه إلى فقرائهم، وهذه هي عدالة الإسلام الذي نزل بها الكتاب والسنة، على أن في المال حقًّا سوى الزكاة؛ أنه عند حلول حول الزكاة، وطلب الفقراء من الأغنياء حقهم منها، وقالوا: آتونا من مال الله الذي آتاكم؛ فعند ذلك يتبين التاجر الأمين من التاجر الخائن المهين. فالتاجر المؤمن الأمين يحاسب نفسه، ويبادر بأداء زكاته، طيبة بها نفسه، يحتسبها مغنمًا له عند ربه ويقول: اللهم اجعلها مغنمًا ولا تجعلها مغرمًا.
فهو يعلم من واجبات دينه أن هذا المال فضل من الله ساقه إليه، واستخلفه عليه؛ ليمتحن بذلك صحة إيمانه وأمانته ﴿لِيَبۡلُوَنِيٓ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُ﴾ [النمل: 40]. فهو يشكر الله على نعمه، والذي فضله بالغناء على كثير من خلقه.
وأداء الزكاة إنما هو العنوان على شكر نعمة الغنى بالمال، لهذا ترى الفقراء يلهجون له بالثناء والدعاء بألسنتهم أو بقلوبهم، ويقولون: تقبل الله منك ما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، وجعله لك طهورًا وأجرًا.
أما التاجر الخائن المهين؛ فإنه يؤثر محبة ماله على طاعة ربه، ويستبيح أكل زكاته وحرمان فقراء بلده منها، فهو يعُدُّها مغرمًا؛ أي يجعلها بمثابة الغرم الثقيل، وقد أخبر النبي ﷺ أن الناس في آخر الزمان يتخذون الأمانة مغنمًا، والزكاة مغرمًا، ولهذا يستحب للمؤمن عند دفع زكاته أن يقول: اللهم اجعلها مغنمًا، ولا تجعلها مغرمًا.
سميت الزكاة زكاة من أجل أنها تزكي المال، أي تنميه وتطهره وتنزل البركة فيه حتى في يد وارثه، كما أنها تزكي إيمان مُخرِجها من مسمى الشح والبخل، وتطهره.يقول الله تعالى: ﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم﴾ [التوبة: 103]. وقد أقسم رسول الله ﷺ، أنها ما نقصت الصدقة مالاً، بل تزيده ﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ﴾ [سبأ: 39]. فلو جربتم لعرفتم، وقد قيل: من ذاق عرف، ومن حرم انحرف ﴿وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾ [التغابن: 16].
فبادروا بزكاة المال إن بها
للنفس والمال تطهيرًا وتحصينًا
أتحسبون بأن الله أورثكم
مالاً لتشقوا به جمعًا وتخزينًا
وتصرفوه على مرضاة أنفسكم
وتحرموا منه معترًّا ومسكينًا
إنه ما بخل أحد بنفقة واجبة في سبيل الحق، من زكاة وصدقة وصلة، إلا سلَّطه الشيطان على نفقة ما هو أكثر منها في سبيل الباطل. ثم نعود ونقول: إنه ما أنفق أحد نفقة في سبيل الحق، من زكاة وصدقة وصلة، إلا أخلفها الله عليه بأضعاف مضاعفة ﴿مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗ﴾ [البقرة: 245] فحصنوا أموالكم بالزكاة، فإنها ما بقيت الزكاة في مال لم تُخرَج منه إلا أفسدته وأذهبت بركته. جاء رجل إلى النبي ﷺ «فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى ذُو مَالٍ كَثِيرٍ وَذُو أَهْلٍ وَوَلَدٍ وحَاضِرَةٍ فَأَخْبِرْنِى كَيْفَ أُنْفِقُ وَكَيْفَ أَصْنَعُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ « تُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِكَ فَإِنَّهَا طُهْرَةٌ تُطَهِّرُكَ وَتَصِلُ أَقَرِبَاءَكَ وَتَعْرِفُ حَقَّ السَّائِلِ وَالْجَارِ وَالْمِسْكِينِ»[233] فأرشده النبي ﷺ إلى ما ينبغي أن يفعله.
فالمال غاد ورائح، وموروث عن صاحبه، ويبقى من المال شرف الذكر، وعظيم الأجر، فأيما رجل غمره الله بنعمته وفضله بالغناء على كثير من خلقه، ثم يجمد قلبه على حب ماله، وتنقبض يده من أداء زكاته ومن الصدقة منه، والصلة لأقاربه، والنفقة في وجوه البر والخير الذي خُلِق لأجله؛ إنه لرجل سوء، وتاجر فاجر، قد بدل نعمة الله كفرًا، وأحل بغناه دار البوار ﴿يَوۡمَ يُحۡمَىٰ عَلَيۡهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكۡوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمۡ وَجُنُوبُهُمۡ وَظُهُورُهُمۡۖ هَٰذَا مَا كَنَزۡتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡنِزُونَ ٣٥﴾ [التوبة: 35]. فحذار حذار أن يقول أحدكم: هذا مالي أوتيته على حذق مني بكسبه حتى كثر ووفر. ولكن ليقل: ﴿هَٰذَا مِن فَضۡلِ رَبِّي لِيَبۡلُوَنِيٓ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشۡكُرُ لِنَفۡسِهِۦۖ﴾ [النمل: 40]. فأداء الزكاة هي العنوان على أداء شكر نعمة الغنى بالمال، كما أنها الدليل والبرهان على أداء الأمانة، وصحة الإيمان. وفي الحديث: «الصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ»[234] أي تبرهن عن إيمان مُخرِجها وكونه آثر طاعة ربه على محبته ماله. وسميت الزكاة صدقة؛ لكونها تصدق وتحقق إيمان مُخرِجها، كما أن منع الزكاة هو العنوان على النفاق. يقول الله سبحانه: ﴿ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلۡمُنَٰفِقَٰتُ بَعۡضُهُم مِّنۢ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمُنكَرِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَقۡبِضُونَ أَيۡدِيَهُمۡ﴾ [التوبة: 67] أي عن أداء زكاة أموالهم. وقال: ﴿فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُم مِّن فَضۡلِهِۦ بَخِلُواْ بِهِۦ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعۡرِضُونَ ٧٦ فَأَعۡقَبَهُمۡ نِفَاقٗا فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ يَلۡقَوۡنَهُ﴾ [التوبة: 76-77].
والزكاة قدْر يسير، يترتب عليها أجر كبير، وخلف من الله كثير، وهي في النقود، وفي مال التجارة، ففي كل ألف ريال حال عليها الحول خمسة وعشرون ريالاً.
وهكذا الحساب يجري عليها على هذا المنوال. والأوراق المتعامل بها عند الناس، المسماة بالشيكات، والدولارات، والجنيهات الإسترلينية، هي بمثابة نقود الذهب والفضة، يجب فيها الزكاة على حسب أثمانها في البلد. ومن له وديعة نقود في البنك، أو عند تاجر، وجب عليه أن يخرج زكاتها عند رأس الحول. فالذين يودعون النقود، ثم لا يؤدون زكاتها، فهم آثمون وعاصون. وجدير بهذه النقود التي لا تؤدَّى زكاتها أن تُنتزَع منها البركة، وأن يحل بها الشؤم والفشل، ويُحرَم صاحبها من الانتفاع بها، لأنها ما بقيت الزكاة في مال محبوسة فيه إلا أهلكته. وما هلك مال في بر ولا بحر ولا جحود ولا غصب إلا بحبس الزكاة عنه.
والمال المجعول أسهمًا في شركة الأسمنت، أو شركة الكهرباء، أو شركة الأسمدة، أو الملاحة، أو شركة الأسماك، أو أي شركة من الشركات، فإنه يجب فيه على صاحبه الزكاة عند رأس الحول، بحيث يخرج زكاة أصل المال، أشبه عروض التجارة؛ لأنه لو أراد بيع رأس ماله لباعه من ساعته. وإذا تحصل صاحبه على ربح فإنه يخرج زكاة ربحه عندما يقبضه، لأن ربح التجارة ملحق برأس مال التجارة. وكذلك العقار المعد للإيجار، فقد صار في هذا الزمان من أنفَسِ أموال التجار، حتى إن أحدهم ليؤجر العمارة الواحدة بمائة ألف، أو بخمسين ألفًا، أو أقل أو أكثر في السنة الواحدة.
وما كان شرع الإسلام المبني على مصالح الخاص والعام ليهمل هذا المال الكثير بدون إيجاب حق فيه للفقير. والنبي ﷺ أمر أن تُخَرج الصدقة، أي الزكاة من الذي نعدُّه للبيع، وما أُعد للكرى، فهو بمثابة ما أُعد للبيع والشراء، أشبه الحلي المعد للكرى، فإن فيه الزكاة بإجماع العلماء، ولسنا نقول بإيجاب تثمين العقار وإخراج زكاة قيمته، لأن فيه إجحافًا للملاك، وإنما القول القصد في هذا المقام الهام؛ أنه يجب إخراج الزكاة من غلة العقارات، فمن تحصل على أربعة آلاف أخرج زكاتها مائة ريال، أو تحصل على أربعين ألفًا أخرج زكاتها ألفًا واحدًا.
وكذلك الأراضي المشتراة للتجارة، فإن حكمها حكم عروض التجارة، بحيث يُوقع التثمين عليها عند الحول، ويخرج زكاتها، وليس على المسلم زكاة في البيت الذي يسكنه، ولا في السيارة التي يركبها، ولا في السيارة التي يعيش عياله من كسبها، قياسًا على العوامل التي أسقط النبي ﷺ الزكاة فيها.
وتجب الزكاة في حلي النساء - أي المصاغاة - من الذهب الموجود عند النساء المثريات، اللائي يتخذْنَه خزينة لا زينة، فيجب أن تخرج زكاته مصوغًا على حسب قيمته، فمتى كان المصاغات تبلغ أربعة آلاف أخرجت زكاته مائة ريال، أو أربعين ألفًا أخرجت زكاته ألفًا واحدًا، ويجري الحساب في الزائد والناقص على حسب ذلك.
أما المصاغات التي تستعملها المرأة في الزينة، وتعيره غيرها، فقد رجح الفقهاء سقوط الزكاة عنها، وكونه لا زكاة في الحلي الذي تتجمل به المرأة، أو تعيره، لأن زكاته لبسه، وإعارته.
والزكاة في النقود وفي التجارة وفي الإبل وفي الغنم هي من أسباب بركة المال ونموه، وحفظه من الآفات، وأكثر ما يجني على المال بالهلاك والتلف، والشؤم والفشل، ونزول الآفات كل هذا من أسباب منع الزكاة، أضف إلى ذلك كونه يعذب به صاحبه ﴿يَوۡمَ يُحۡمَىٰ عَلَيۡهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكۡوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمۡ وَجُنُوبُهُمۡ وَظُهُورُهُمۡۖ هَٰذَا مَا كَنَزۡتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡنِزُونَ ٣٥﴾ [التوبة: 35].
نسأل الله سبحانه أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
* * *
[231] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. [232] متفق عليه من حديث ابن عمر. [233] رواه أحمد من حديث أنس ورجاله رجال الصحيح. [234] رواه مسلم من حديث أبي مالك الأشعري.