متقدم

فهرس الكتاب

 

(25) الصلاة في الجماعة وصِفَة الصّلاة المشروعة

الحمد لله، ونستعين بالله، ونصلي ونسلم على رسول الله. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ.

أما بعد:

فإن الله سبحانه خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بتوحيده وطاعته. أوجب ذلك عليهم في خاصة أنفسهم، وأن يجاهدوا عليه أهلهم وأولادهم.

فرأس الطاعة بعد الشهادتين: الصلاة التي هي عمود الديانة ورأس الأمانة، تهدي إلى الفضائل، وتكف عن الرذائل، تذكر بالله الكريم الأكبر، وتصد عن الفحشاء والمنكر، تفتح باب الرزق، وتيسر الأمر، وتشرح الصدر، وتزيل الهم والغم. وهي من أكبر ما يستعان بها على أمور الحياة، وبسط الخير، وكثرة البركات، وقضاء الحاجات.

وكان الصحابة إذا حزبهم أمر من أمور الحياة، أو وقعوا في شدة من الشدات فزعوا إلى الصلاة، لأن الله تعالى يقول: ﴿وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلۡخَٰشِعِينَ٤٥ [البقرة: 45]. فهي قرة العين للمؤمنين في الحياة. كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «حُبِّبَ إِلَىَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِىَ فِى الصَّلاَةِ»[224]

وهي خمس صلوات مفرقة بين سائر الأوقات؛ لئلا تطول مدة الغفلة بين العبد وبين ربه، من حافظ عليها كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة.

وهي أول ما فُرِض من العبادات، كما أنها آخر ما يُفقَد من دين كل إنسان، فليس بعد ذهابها إسلام ولا دين.

وقد وصفها رسول الله ﷺ في تكفيرها للخطايا، بمثابة نهر غمر - أي كثير - يغتسل منه المسلم كل يوم خمس مرات، فهل يبقى من درنه شيء؟ فكذلك مثل الصلاة. وقال: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ»[225] سميت صلاة من أجل أنها صلة بين العبد وبين ربه. فالمصلي متصل بربه، موصول من بِرِّه وفضله وكرمه، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ آمُرُكُمْ بِالصَّلاَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ قِبَل وَجْهِ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فِي صَلَاتِهِ»[226].

ولهذا من نوع الاستفتاح في الصلاة أن يقول: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين. فالمصلي موصول من بِرِّه وكرمه وفضله. كما أن التارك للصلاة منقطع عن ربه، ليس من أولياء الله، ولا من حزبه. والواصل موصول، والقاطع مقطوع.

و «مَنْ صَلَّى الْعَشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ فِي ذِمَّةِ اللهِ حَتَّى يصبح، وَمَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ فِي ذِمَّةِ اللهِ حَتَّى يُمْسِي»[227]، وقال: «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِى جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ نِصْفِ لَيْلَةٍ، وَمَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِى جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ لَيْلَةٍ كله»[228]

أما التارك للصلاة عمدًا فإنه قد وقع في الكفر وهو لا يشعر، لما في الصحيح عن جابر أن النبي ﷺ قال: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ، مَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ» وفي حديث بريدة أنه ﷺ قال: «الْعَهْدُ الَّذِى بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلاَةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ»[229] وكان السلف يسمون الصلاة الميزان، فإذا أرادوا أن يبحثوا عن دين إنسان سألوا عن صلاته. فإن حُدِّثوا بأنه يحافظ على الصلاة علموا بأنه ذو دين، وإن حُدِّثوا بأنه لا حظ له في الصلاة علموا بأنه لا دين له. ومن لا دين له كان جديرًا بكل شر، بعيدًا عن كل خير. وعادم الخير لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه.

فالصلاة بما أنها نعيم المؤمنين، فإنها ثقيلة على المنافقين الذين لا يرجون بفعلها ثوابًا، ولا يخافون بتركها عقابًا. يقول الله تعالى: ﴿وَإِذَا نَادَيۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُوٗا وَلَعِبٗاۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡقِلُونَ ٥٨ [المائدة: 58]. فنفى الله عنهم العقل الصحيح؛ لعدم إجابتهم لنداء الصلاة الذي هو نداء بالفلاح، والفوز والنجاح. وفي الحديث: «من دُعِي إلى الفلاح فلم يجب لم يُرِد خيرًا ولم يُرَد به خير»[230] وكان الصحابة يعدون المتخلف عن الصلاة في الجماعة منافقًا، يقولون ذلك ولا يتأثمون، كما في صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: من سره أن يلقى الله غدًا مسلمًا فليحافظ على هذه الصلوات الخمس في الجماعة، فإنهن من سنن الهدى. وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما يصلي المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة عن الجماعة إلا منافق معلوم النفاق.

إن أعظم الناس بركة، وأشرفهم مزية ومنزلة الرجل يكون في المجلس، وعنده جلساؤه وأصحابه وأولاده، فيسمعون النداء بالصلاة، فيقوم إليها فرحًا، ويأمر من عنده بالقيام إلى الصلاة معه، فيَؤُمُّون مسجدًا من مساجد الله لأداء فريضة من فرائض الله، يعلوهم النور والوقار على وجوههم، كل من رآهم ذكر الله عند رؤيتهم، أولئك الميامين على أنفسهم، والميامين على جلسائهم وأولادهم، ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ [الزمر: 18].

وبضد هؤلاء قوم يجلسون في المجالس وفي المقاهي، وفي النوادي وفي ملاعب الكرة. فيسمعون النداء بالصلاة ثم لا يقومون. ألسنتهم لاغية، وقلوبهم لاهية، قد ﴿ٱسۡتَحۡوَذَ عَلَيۡهِمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَأَنسَىٰهُمۡ ذِكۡرَ ٱللَّهِۚ أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱلشَّيۡطَٰنِ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ ١٩ [المجادلة: 19].
يشقى رجال ويشقى آخرون بهم
ويُسعِد الله أقوامًا بأقوام
فجاهدوا أنفسكم على فرائض ربكم، وخذوا بيد أولادكم إلى الصلاة في المساجد معكم، فإن من شبَّ على شيء شاب على حبه، ولأنه بأخذ يد الولد إليها، ومجاهدته عليها، يعود حبها ملكة راسخة في قلبه، تحببه إلى ربه، وتقربه من خلقه، وتصلح له أمر دنياه وآخرته؛ لأنها تقيم اعوجاج الولد، وتصلح منه ما فسد، وتذكره بالله الكريم الأكبر، وتصده عن الفحشاء والمنكر، فإنكم متى أهملتم تربية أولادكم، فلم تهذبوهم على فعل الصلاة في المساجد معكم، فإنه لابد أن يتولى تربيتهم الشيطان، فيحبب إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وصدق الله العظيم: ﴿وَمَن يَعۡشُ عَن ذِكۡرِ ٱلرَّحۡمَٰنِ نُقَيِّضۡ لَهُۥ شَيۡطَٰنٗا فَهُوَ لَهُۥ قَرِينٞ ٣٦ وَإِنَّهُمۡ لَيَصُدُّونَهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُم مُّهۡتَدُونَ ٣٧ [الزخرف: 36-37].

إن المصلي ينبغي له أن يستحضر بقلبه بأنه واقف بين يدي ربه، فيخشع له ويخضع، ويضع يده اليمنى على اليسرى على صدره، أو فوق سرته.

إن الصلاة لا تكون صلاة شرعية ولا مقبولة، حتى تقع على نهج ما سنه رسول الله ﷺ في الصلاة. ففي الصحيحين أن رجلاً دخل المسجد فصلى، ثم جاء فقال: السلام عليك يا رسول الله. فقال: «وعليك السلام، ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ» فعل ذلك ثلاثًا. فقال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني.

وإنه ينبغي لنا أن نصغي بالآذان، ونفرغ الأذهان، لنستفيد من تعليم رسول الله ﷺ لهذا الأعرابي الجاهل. فقال: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ» لأن مفتاح الصلاة الطهور. ولا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ، وقد فُرِض الوضوء مع فرض الصلاة. قال: «ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَكَبِّرْ» فاستقبال القبلة للصلاة شرط إلا أن يكون في السيارة، أو في طائرة؛ فإنه يصلي حيث توجهَتْ به، مستقبل القبلة أو مستدبرها. ولم يأمره رسول الله ﷺ بأن يقول: نويت أن أصلي كذا، أو كذا؛ لأن النية قلبية، والتلفظ بها بدعة. ثم قال: «وَاقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا» والاطمئنان هو السكون والركود، ويقول: سبحان ربي العظيم، ثلاث مرات، أدنى الكمال. ثم قال: «وَارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا» أي حتى يصلب رأسك وجسمك بعد الرفع من الركوع كما في الحديث: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُقِمْ صُلْبَهُ مِنَ الرُّكُوعِ». ثم قال: «ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا» أي حتى تسكن وتركد في سجودك وتقول: سبحان ربي الأعلى، ثلاث مرات، ثم ارفع حتى ترتفع جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا. ثم قال: «ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا» فهذه هي الصلاة المشروعة، التي تصعد إلى الله ولها نور فتقول: حفظك الله كما حفظتني.

أما الذي يصلي ولا يطمئن في الركوع، ولا في السجود، ولا في سائر أفعال الصلاة، فإن صلاته تُلَف كما يُلَف الثوب الخلق، فيُضرَب بها وجه صاحبها وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني.

فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.

* * *

[224] رواه أحمد في مسنده، والنسائي والحاكم والبيهقي في السنن من حديث أنس، وإسناده جيد. [225] رواه أحمد في مسنده ومسلم والترمذي من حديث أبي هريرة. [226] رواه الإمام أحمد من حديث الحارث الأشعري. [227] رواه ابن ماجه بسند صحيح من حديث سمرة. [228] رواه مسلم وأبو داود من حديث عثمان بن عفان. [229] رواه الترمذي عن بريدة وقال: حديث حسن صحيح. [230] رواه مسلم وأبو داود والترمذي من حديث جندب بن عبد الله.