متقدم

فهرس الكتاب

 

(24) في حقوق الزوجَة

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبالعمل بطاعته تطيب الحياة، وتفيض الخيرات، وتنزل البركات. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص له في الأقوال والأعمال والنيات. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صاحب الآيات والمعجزات، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه المتصفين بالفضائل والكمالات، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فيقول الله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا ١ [النساء: 1].

خلق الله آدم أبا البشر حين خلقه فريدًا وحيدًا ليس له جليس ولا أنيس، فكان يهيم في الفلوات، ويستوحش في الخلوات، لا يقر له قرار، ولا يأوي إلى أهل ولا دار، فبينما هو كذلك في حالة اضطراب، وفي حال هَمٍّ وغم واكتئاب، فنام نومة ولم يشعر إلا وقد خلق الله له من ضلعه الأعلى امرأته حواء بشرًا سويًّا. فسكن إليها، وآنس بها، واطمأن معها، يقول الله تعالى: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحۡمَةًۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ ٢١ [الروم: 21]. وفي الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلْعٍ أَعْوَجٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ مَا فِي الضِّلْعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا، وَفِيْهَا عِوَجٌ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا، وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا»[212].

التزوج من سُنن المرسلين، وهو ضرورة من ضروريات حياة الآدميين لأنه سبب لإيجاد البنات والبنين، والعُزَّاب هم أراذل الأحياء، وشرار الأموات. جاء ثلاثة نفر إلى باب رسول الله ﷺ يسألون عن عبادة رسول الله ﷺ، فلما أُخبِروا بها، كأنهم تقالُّوها. فقالوا: أين نحن من عبادة رسول الله! فقال أحدهم: أما أنا فأقوم الليل ولا أرقد أبدًا. وقال الآخر: أما أنا فأصوم النهار ولا أفطر أبدًا. وقال الآخر: أما أنا فأتبتل في العبادة وأعتزل النساء. فخرج عليهم رسول الله ﷺ فقال: «أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له، لَكِنْ أُصَلِّى وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِى فَلَيْسَ مِنِّى»[213]

فأخبر النبي ﷺ أن التبتل في العبادة، والانقطاع عن الأهل، وعدم التزوج، بأنه ليس من هديه ولا شرعه. وقال: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِى الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ»[214] ورُوِيَ: «ثَلاَثَةٌ لاَ تُؤَخِّرْهَا الصَّلاَةُ إِذَا أَتَتْ وَالْجَنَازَةُ إِذَا حَضَرَتْ وَالأَيِّمُ إِذَا وَجَدْتَ كُفُؤًا»[215] فمتى تيسر قران الشخص بزوجة دينية صالحة، فليعلم أنه قد تحصل على سعادة وافرة، فإن الدنيا متاع وخير المتاع الزوجة الصالحة، التي إذا نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله.

فمن واجب هذه النعمة أن يعاشر هذه الزوجة بالمعروف وبالإكرام، والاحترام وحسن الخلق، وطيب الكلام. ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا»[216] وقال: «اتَّقُوا اللهَ فِي الضَّعِيفَيْنِ الْمَرْأَةِ، وَالْيَتِيمِ»[217] وسأل معاوية بن حيدة النبي ﷺ فقال: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: «أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، وَلَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّحْ، وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ» وطاف ببيت رسول الله ﷺ نساء يشتكين أزواجهن. فقام رسول الله ﷺ خطيبًا فقال: «لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشتكين من أزواجهن، ليس أولئك بخياركم»[218] يقول الحكماء: إن النساء يغلبن الكرام، ويغلبهن اللئام. وما استقص كريم قط. والنبي ﷺ يقول: «لاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِىَ مِنْهَا آخَرَ»[219]

فهؤلاء الأقوام الذين يعاملون نساءهم باللعن والسب، وشتم الآباء والأمهات، والحط من أقدارهن بقذفهن، هم يعتبرون من شرار الناس الذين ساءت طباعهم، وفسدت أوضاعهم، ويتأسى بهم أولادهم في إساءة أخلاقهم.

أما خيار الناس فهم ينزهون أنفسهم وألسنتهم، ويصونون أحسابهم وأحساب أنسابهم عن هذه المعاملة الفاسدة، والأقوال السافلة، ويعاشرون أهلهم بالإكرام والاحترام وطيب الكلام، ويتمتع بأهله في عيشة هنية، ومعاشرة مرضية، يعامل أهله بالوفاق وبحسن الأخلاق. إذا دخل بيته سلم على أهله، والسلام من أسباب المحبة والألفة، وينشر في البيت البركة والرحمة. كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ يَكُونُ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ»[220].

أما الرجل فمتى أبغض زوجته، وأخذ يضارها ويضربها لتفتدي منه بمالها، ويقطع نفقته عنها، وربما كان معها منه ولد ترضعه، أو عيال يعولهم، فيهجرهم. ويقطع إحسانه عنهم. فهذا ظلم وحرام، ولا يفعله سوى الأراذل اللئام. يقول الله تعالى: ﴿فَأَمۡسِكُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٍ أَوۡ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖۚ وَلَا تُمۡسِكُوهُنَّ ضِرَارٗا لِّتَعۡتَدُواْۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥ [البقرة: 231] وفي الحديث: «كَفَى بالرجل إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ»[221].

أما المرأة فمن واجبها إكرام زوجها واحترامه، وألا تُسمِعه من الأقوال إلا ما يحب، وأن تجتنب السب واللعن له، أو لعيالها منه، وأن تجتنب معاشرة الأغيار من الأجانب الذين يسعون بإفسادها وهدم شرفها وشرف بناتها. لأن المرأة مدرسة لأهل بيتها، فإما أن تكون مدرسة صالحة لنَبْتِ الخير والصلاح في البنين والبنات، أو أنها مدرسة فاسدة، تفسد تربية من تتولاه من البنين والبنات. فالمرأة تأمر عيالها بالوضوء، وبالصلاة عند دخول وقتها، وتربي بناتها تربية حسنة، فتلبسهم الثياب السابغة الساترة التي تستر بها جميع بدنها، وتجنبهم الثياب القصار التي هي لباس الذل والصغار، لباس الخزي والعار، لباس المتشبهات بالكفار، وهو اللباس الذي يبدو منه يد المرأة إلى حد الآباط، ورجلها إلى نصف الساق، ويبدو منه الرأس والرقبة والنحر، فهذا لباس التبرج الذي نهى الله عنه في كتابه المبين، وقد صار محبوبًا لدى عشاق التفرنج الذين ضعف تمسكهم بالدين، فكانت المرأة منهم تتزين بالثوب القصير الضيق الذي يصف كل شيء من جسمها، حتى تكون شبه العارية، كما أخبر النبي ﷺ عن نساء أهل النار بأنهن: «كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مَائِلاتٌ مُمِيلاتٌ، لا يجدن عرف الجنة» [222] يعني ريحها. ويرحم الله نساء الصحابة من المهاجرين والأنصار، لما نزل قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ يُدۡنِينَ عَلَيۡهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن يُعۡرَفۡنَ فَلَا يُؤۡذَيۡنَ [الأحزاب: 59] عمدن إلى مروط كثيفة، فشققنها على رؤوسهن وأبدانهن، فخرجن لا يعرفهن من التستر أحد[223].

* * *

[212] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [213] متفق عليه من حديث أنس. [214] رواه الترمذي من حديث أبي هريرة. [215] رواه الترمذي والحاكم من حديث علي، قال الترمذي: ليس بمتصل. وجزم غيره بضعفه. [216] رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح. [217] وفي رواية البيهقي في الشعب زيادة: «المرأة الأرملة والصبي اليتيم» من حديث أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله ﷺ حين حضرته الوفاة... فذكره. [218] رواه أبو داود من حديث إياس بن عبد الله بن أبي ذباب. [219] رواه مسلم من حديث أبي هريرة. [220] أخرجه الترمذي وصححه من حديث أنس. [221] رواه أبو داود والنسائي والحاكم إلا أنه قال: «من يعول» وقال: صحيح الإسناد. [222] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [223] رواه البخاري من حديث عائشة بلفظ: شققن مروطهن فاختمرن بها.