متقدم

فهرس الكتاب

 

(23) وصيّة لقمان لابنِه

الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة مبرأة من كل قول واعتقاد لا يحبه الله ولا يرضاه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي اصطفاه من بين خلقه واجتباه. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تمسك بسنته واتبع هداه.

أما بعد:

فيا أيها المستمعون الكرام، إنما فُضِّلتْ هذه الأمة على سائر الأمم بتمسكها بالإسلام، وعملها به على التمام، من اتباعهم لأوامر القرآن الذي هو معجزة الدهور، وآية العصور، وسفر السعادة، ودستور العدالة، والداعي إلى الفضيلة، والرادع عن الرذيلة. فلو تدبر أحدكم كتاب الله، وعمل بما فيه من المواعظ الفصيحة، والوصايا الصحيحة، لصار سعيدًا في نفسه، سعيدًا في أهله، سعيدًا في مجتمع قومه، ولصار ودودًا محمودًا، ولما صار جبارًا متكبرًا عنيدًا.

إن الله سبحانه قص علينا وصية لقمان لابنه للعظة بها والعمل بموجبها، لأن الاعتبار في القرآن هو بعموم لفظه لا بخصوص سببه. فهو يتمشى على حد:
إياك أعني واسمعي يا جاره

وخير الناس من وعظ بغيره.

يقول الله تعالى: ﴿وَإِذۡ قَالَ لُقۡمَٰنُ لِٱبۡنِهِۦ وَهُوَ يَعِظُهُۥ يَٰبُنَيَّ لَا تُشۡرِكۡ بِٱللَّهِۖ إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِيمٞ ١٣ [لقمان: 13]. فنهاه عن الشرك وحذره منه لأنه محبط للأعمال كلها ﴿إِنَّهُۥ مَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ ٱلۡجَنَّةَ وَمَأۡوَىٰهُ ٱلنَّارُۖ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ [المائدة: 72].

والشرك نوعان: أكبر وأصغر.

فالشرك الأكبر: هو أن يدعو قبرًا أو وليًّا أو نبيًّا أو ملكًا أو شجرًا أو حجرًا أو غير ذلك. فيتوسل بهم في قضاء حاجاته، وتفريج كرباته. فهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يُغفَر لأن الدعاء عبادة، بل هو مخ العبادة، من صرفه لغير الله، فقد أشرك بالله. فهؤلاء الذين يدعون الأموات، ويتوسلون بهم، ويزدحمون رجالاً ونساءً على قبورهم، يعتبرون مشركين بربهم، لأن الشرك اعتقاد وقول وعمل.

وقد أخبر الله عنهم فقال: ﴿وَمَنۡ أَضَلُّ مِمَّن يَدۡعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لَّا يَسۡتَجِيبُ لَهُۥٓ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَهُمۡ عَن دُعَآئِهِمۡ غَٰفِلُونَ ٥ وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمۡ أَعۡدَآءٗ وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمۡ كَٰفِرِينَ ٦ [الأحقاف: 5-6].

ثم قال: ﴿يَٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثۡقَالَ حَبَّةٖ مِّنۡ خَرۡدَلٖ فَتَكُن فِي صَخۡرَةٍ أَوۡ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَأۡتِ بِهَا ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٞ ١٦ [لقمان: 16]. ففي هذه الآية الإخبار بإحاطة علم الله بعباده، وأنه لا تخفى عليه خافية من أحوالهم وأعمالهم، لأنه سبحانه يرى دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، فالغيب عنده شهادة، والسر عنده علانية ﴿وَأَسِرُّواْ قَوۡلَكُمۡ أَوِ ٱجۡهَرُواْ بِهِۦٓۖ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ ١٣ أَلَا يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ ١٤ [الملك: 13-14] «والإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»[198] ﴿ٱلَّذِي يَرَىٰكَ حِينَ تَقُومُ ٢١٨ وَتَقَلُّبَكَ فِي ٱلسَّٰجِدِينَ ٢١٩ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ ٢٢٠ [الشعراء: 118-120].

اجتمع في المسجد الحرام ثلاثة نفر؛ قريشيَّان وثقفي - أو ثقفيَّان وقُرَشي - كثير شحم بطونهم، قليل فقه قلوبهم. فقال بعضهم لبعض: أترون أن الله يسمع كلامنا؟ فقال بعضهم: يسمعنا إذا جهرنا ولا يسمعنا إذا أخفينا. فقال الآخر: إن كان يسمعنا إذا جهرنا فإنه يسمعنا إذا أخفينا. فأنزل الله تعالى: ﴿أَلَا يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ ١٤ [الملك: 14].
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل
خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة
ولا أن ما يخفى لديه يغيب
كانت عائشة رضي الله عنها تقول: سبحان من وسع سمعه الأصوات، لقد أتت المجادلة - أي خولة بنت ثعلبة - تشتكي إلى رسول الله من زوجها، وإنني لفي كسر البيت أسمع بعض كلامها، ويخفى عليَّ بعضُه. فما بَرِحَتْ من مكانها حتى سمع الله شكواها، وأنزل الله تعالى: ﴿قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ ١ [المجادلة: 1]. [199].

ثم قال: ﴿يَٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱنۡهَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ ١٧ [لقمان: 17] فأمره سبحانه بإقام الصلاة، وذلك بأن يأتي بالصلاة مقوّمة معدلة بخشوع وخضوع في القيام والسجود والركوع، لأن لُبَّ الصلاة الخشوع، وصلاة بلا خشوع كجسد بلا روح. و﴿قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ١ ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي صَلَاتِهِمۡ خَٰشِعُونَ ٢ [المؤمنون: 1-2] لأن للصلاة ميزانًا توزن به، من وفّاها وَفَّى له الله الأجر، وصَعِدت صلاته ولها نور، تقول: حفظك الله كما حفظتني. وفي هذا دليل على أن الصلاة من الشرائع القديمة، وأنها كُتِبت على مَن كان قبلنا، كما فرضت علينا.

وثبت عنه ﷺ أنه قال: ««أشَد الناس سَرِقَةً الَّذِى يَسْرِقُ مِنْ صَلاَتِهِ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَسْرِقُ مِنْ صَلاَتِهِ؟ قَالَ: «لاَ يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلاَ سُجُودَهَا»»[200] ولما رأى النبي ﷺ رجلاً يصلي ولم يطمئن في الركوع، ولا في السجود، قال له: ««ما صليت، ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ». فعل ذلك ثلاثًا»[201] أما إذا ترك الإنسان الصلاة عمدًا، فإنه عين الكفر بالله لقول النبي ﷺ: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاَةِ، من تركها فقد كفر»[202]، وقال: «الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ»[203] وروى الإمام أحمد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: «مَنْ تَرَكَ صَلاَةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّداً فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ»[204].

وروي بأنه: «لا دِينَ لِمَنْ لا صَلاةَ لَهُ، إِنَّمَا مَوْضِعُ الصَّلاةِ مِنَ الدِّينِ كَمَوْضِعِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ»[205] ولهذا كان السلف الصالح يسمونها الميزان، فإذا أرادوا أن يبحثوا عن دين إنسان سألوا عن صلاته، فإن حُدِّثوا بأنه يحافظ على أداء الصلوات في الجماعات علموا بأنه ذو دين. وإن حُدِّثوا بأنه لا حظ له في الصلاة، علموا بأنه لا دين له. ومن لا دين له جدير بكل شر، بعيد عن كل خير. وعادم الخير لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه. ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِ [التوبة: 11].

فالصلاة هي أم الفضائل، والناهية عن منكرات الأخلاق والرذائل. تذكر بالله الكريم الأكبر، وتصد عن الفحشاء والمنكر. تفتح باب الرزق وتيسر الأمر، وتزيل الهم والغم. يقول الله سبحانه: ﴿وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلۡخَٰشِعِينَ ٤٥ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَأَنَّهُمۡ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ ٤٦ [البقرة: 45-46].

فالإيمان بالبعث والجزاء والأعمال هو الذي يقوي القلوب، وينشط الأجساد على أداء فرائض الصلوات وسائر العبادات، ويجعلها سهلة في نفوسهم، غير ثقيلة عليهم.

ثم قال: ﴿وَأۡمُرۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱنۡهَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ [لقمان: 17]. فأمَره بأن يأمر بالمعروف، وهو ما عرفت العقول السليمة، والفِطَر المستقيمة حُسْنَه، من سائر أفعال الخيرات والطاعات. وأن ينهى عن المنكر وهو ما تنكره العقول السليمة، والفِطَر المستقيمة، لأن الأمر بالمعروف من واجبات الدين، وطاعة رب العالمين. وهو نوع من الجهاد في سبيل الله، الذي هو سنام الإسلام، ولأن المحسن شريك المسيء إذا لم ينهه. كما أن النهي عن المنكر هو مما يسبب قلة فعل المنكر، وعدم فشوه وانتشاره. والمعصية إذا أُخفِيَت لم تضر إلا صاحبها، وإذا ظهرت فلم تُغَيَّر ضرت العامة لسكوتهم عن إنكارها.

﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرۡحَمُهُمُ ٱللَّهُۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ ٧١ [التوبة: 71] وقد لُعِن الذين كفروا من بني إسرائيل من أجل أنهم ﴿كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوۡنَ عَن مُّنكَرٖ فَعَلُوهُۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ ٧٩ [المائدة: 79] ولهذا قال النبي ﷺ: «لتأمُرُنَّ بالمعروف، ولتنهوُنَّ عن المنكر، ولتأخذُنَّ على يد السفيه ولتأطُرُنَّه على الحق أَطْرًا - أي تلزمونه بالحق إلزامًا - أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابًا من عنده، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم»[206].

وقد ضرب النبي ﷺ مثلاً فاستمعوا له.. فقال: «مثل القائم في حدود الله - أي الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر - ومثل الواقع فيها - أي الفاعل للمنكرات - كمثل قوم استهموا في سفينة، فكان بعضهم في أعلاها - أي في السطح - وبعضهم في أسفلها - أي في الخن - فقال الذين في أسفلها: لو خرقنا خرقًا نتناول منه الماء من عندنا، ولا نمر على من فوقنا» ومعلوم أنه إذا تمَّ لهم فِعْل هذا الأمر، فإنه الغرق للسفينة ومَن فيها؛ ولهذا قال النبي ﷺ: «فإن أخذوا على أيديهم ومنعوهم - أي بالقوة - نجوا ونجوا جميعًا، وإن تركوهم وما يفعلون، هلكوا وأهلكوا جميعًا»[207] فهذا المثل مطابق للواقع، وهو أن المنكرات إذا ظهرت فلم تُغَيَّر، عمَّ عقابُها الصالحَ والطالح. فليعتبر المعتبر بالبلدان التي قُوِّضَتْ منها خيام الإسلام، وتظاهر الناس فيها بالكفر والفسوق والعصيان، وتُرِك فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرات. كيف حال أهلها؟ وما دخل عليهم من النقص والجهل، والكفر وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال، حتى صاروا بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات، لا يعرفون صيامًا ولا صلاة، ولا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون من قبيح، ولا يهتدون إلى حق.

ذلك بأن المنكرات متى كثر على القلب ورودُها، وتكرر في العين شهودُها، ذهبت عظمتها من القلوب شيئًا فشيئًا، إلى أن يراها الإنسان فلا يرى بقلبه أنها منكرات، ولا يمر بفكر أحدهم أنها معاصٍ. وذلك بسبب سلب القلوب نور التمييز والإنكار، على حد ما قيل: إذا كثر الإمساس قل الإحساس. وهذا هو عين الهلاك للأخلاق، فإن بقاء الأمم في استقامة أخلاقها، فإذا ذهبت أخلاقهم ذهبوا، يقول الله تعالى: ﴿كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ [آل‌عمران: 110]. فمتى زال من الناس الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فقد زال عنهم الخير، وصاروا من أشر الناس.

ثم قال: ﴿وَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ [لقمان: 17] لأن من أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، فإنه لابد أن يُؤذَى ويُمتحَن، كما قال النبي ﷺ «لَقَدْ أُوذِيتُ فِى اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ وَلَقَدْ أُخِفْتُ فِى اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ»[208] ولما ذهب إلى الطائف يريد من ثقيف أن يُؤْوُوه، وينصروه، حتى يبلغ رسالة ربه، فأشْلَوْا عليه سفهاءهم، فأخذوا يضربونه بالحجارة، حتى أدموا عقبه، وهم يقولون: ساحر مجنون. فرجع عنهم كئيبًا حزينًا، حتى أتى وادي نخلة فصلى بها، وأخذ يدعو بهذا الدعاء:

«اللهم إني أشكوا إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى مَن تكلني؟ إلى قريب يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع من ذنوبي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل علي عقابك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك»[209].

ثم قال: ﴿وَلَا تُصَعِّرۡ خَدَّكَ لِلنَّاسِ [لقمان: 18] أي لا تتكبر عليهم، فإن من تكبر على الناس وضعه الله، والمتكبرون يحشرون يوم القيامة في صور الذين يطؤهم الناس بأقدامهم، من أجل أنهم يتصورون الناس في أعينهم بمثابة الذر من أجل الكِبْر.

وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: ««ألا أنبئكم بخياركم؟» قالوا: بلى. قال: «أحاسنكم أخلاقًا، الموَطَّؤُون أكنافًا، الذين يألفون ويُؤْلفون». «ألا أنبئكم بشراركم؟» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «هم المشَّاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرآء العثرات»[210].
إذا أردت شريف الناس كلهم
فانظر إلى ملك في زي مسكين
هذا الذي حسنت في الناس سيرته
وذاك يصلح للدنيا وللدين
ثم قال: ﴿وَلَا تَمۡشِ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًاۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٖ ١٨ وَٱقۡصِدۡ فِي مَشۡيِكَ وَٱغۡضُضۡ مِن صَوۡتِكَۚ إِنَّ أَنكَرَ ٱلۡأَصۡوَٰتِ لَصَوۡتُ ٱلۡحَمِيرِ ١٩ [لقمان: 18-19]. فأمره بالاقتصاد في المشي وذلك باستعمال التأني، وتوقي المحذور. وبالخصوص عندما أصبح السير على سيارات الحديد التي ينجم عنها البأس الشديد. وقد تزايد ضررها، وتفاقم خطرها. والغالب في الضرر من الانقلاب والصدم.. إنما يقع من سبيل الاستعجال وعدم التأني، لأنها بسرعتها قد أثرت في القلوب شيئًا من السرعة الزائدة وما أحسن ما قيل:
قد يدرك المتأني بعض حاجته
وقد يكون مع المستعجل الزلل
والناس يدركون أن كمال عقل الرجل ورزانته في اعتدال سيره، وعدم استعجاله، كما أنهم يدركون خفة عقل الرجل وطيشان حلمه في سرعة سيره. فهذا دائم التعرض للبلاء على نفسه وعلى الناس. وقد قال النبي ﷺ لأشج عبد القيس: ««إِنَّ فِيك لَخَلَّتَيْنِ يُحِبّهُمَا اللَّه: الْحِلْم، وَالْأَنَاة». فقال: الحمد الْحَمْدُ اللَّهِ الَّذِى جَبَلَنِى عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ».[211]

فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم ﴿وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ.

* * *

[198] متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب. [199] أخرجه النسائي وابن ماجه والبخاري تعليقًا. [200] رواه أحمد والحاكم، وصحح إسناده من حديث أبي قتادة، قاله العراقي، وكذا رواه أحمد وابن خزيمة والطبراني بلفظ: «أسوأ الناس...» إلخ، أفاده المنذري. [201] ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة. [202] رواه مسلم وأبو داود والترمذى وابن ماجه، كلهم من حديث جابر. [203] رواه من حديث بريدة أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وقال: حسن صحيح. وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح ولم تعرف له علة. [204] رواه أحمد والطبراني في الكبير، وإسناد أحمد صحيح لو سلم من الانقطاع، فإن عبد الرحمن بن جبير بن نفير لم يسمع من معاذ، وفى الأوسط للطبراني بإسناد لا بأس به في المتابعات، وهو حديث طويل في النهي عن الشرك وعقوق الوالدين وترك الخمر والفواحش. [205] رواه الطبراني في المعجم الأوسط والصغير من حديث ابن عمر. [206] رواه أبو داود والترمذي من حديث ابن مسعود. [207] متفق عليه من حديث النعمان بن بشير. [208] رواه الإمام أحمد في مسنده، والترمذي وابن ماجه وابن حبان من حديث أنس بإسناد صحيح. [209] رواه الطبراني في الكبير وفي الدعاء من حديث عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. [210] رواه الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة، ومن حديث أبي سعيد الخدري. [211] رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري.