(22) قوله سبحانه: ﴿ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِينَةُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا﴾ الآیة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة نرجو بها النجاة، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صاحب الآيات والمعجزات، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: ﴿ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِينَةُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱلۡبَٰقِيَٰتُ ٱلصَّٰلِحَٰتُ خَيۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابٗا وَخَيۡرٌ أَمَلٗا ٤٦﴾ [الكهف: 46] فأخبر الله سبحانه أن المال والبنين زينة الدنيا.
فالمال يُجِلَّ صاحبه في العيان، ويُجمِّله بين الأقران، ويحفظه عن السقوط في الذل والهوان. وهو ترس المؤمن في آخر الزمان، ولا يُستغنَى عنه في حال من الأحوال. وإن الكريم على الإخوان ذو المال.
كما أن البنين هم الريحان وسلوة الزمان. فليس شيء يحفز الهمم، ويضحي بأرواح الأمم، كما يحفز بهم كسب المال، وتوفيره للعيال، فترى الشخص يتحمل المشاق المتعبة، ويخوض الأخطار الموحشة في سبيل كسب المال، وتوفيره للعيال، حتى إن بعض الناس ليحرم نفسه من لذته وإنفاقه في سبيل حسنته، حرصًا على جمعه وتوفيره لذريته.
والمال مطلوب شرعًا، ومحبوب طبعًا، غير أن المقصود من المال هو أن يكون زينة في الحياة، وسعادة بعد الوفاة، فمتى سلك صاحبه به مسلك الاعتدال، بأن أخذه من حِلّه، وأدى منه واجب حقه، كان له حسنات ورُفِع درجات في الجنات، فقد ذهب أهل الدثور بالأجور، ورفيع الدرجات. ونعم المال الصالح للرجل الصالح. وفي الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ[196]فَمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ - وفي رواية: فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ - بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى»[197] فالمال غاد ورائح، ويبقى من المال شرف الذكر وعظيم الأجر.
وكذلك البنون، فإنهم لن يكونوا زينة في الحياة، إلا إذا اتصفوا بالمحافظة على الفرائض والفضائل، واجتنبوا منكرات الأخلاق والرذائل، لأن من اتصف بذلك، كان جديرًا بأن يطيع ربه ويبر والديه ويصل رحمه، ويخالق الناس بالخلق الحسن، فيكون بطانة حسنة لوالده، إن نسي شيئًا من الخير ذكَّره، وإن ذكَر أعانه، وعلى أثر ذلك، ينتشر له الذكر الجميل، والثناء الحسن، الذي يذكر به في حياته، وبعد وفاته، كما قيل:
ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته
ما قاته وفضول العيش أشغال
لأن الدين يهذب أخلاق الأولاد، ويزيل عنهم الكفر والشقاق والنفاق وعوامل الفساد، فما كان الدين في شخص إلا زانه، وما نُزِعَ من شخص إلا شانه. وقد أمرنا الله أن نقول: ﴿وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ﴾ [الأحقاف: 15]:
رأيت صلاح المرء يصلح أهله
ويعديهم داء الفساد إذا فسد
ويشـرف في الدنيا بفضل صلاحه
ويحفظ بعد الموت في الأهل والولد
أما إذا اتصف الولد بالسفاه والفساد، وترك واجباته، من صلاته وصيامه، وفسق عن أمر ربه، فإنه يكون غُصَّة على والديه، يُكدِّر عليهما حياتهما، وصفو لذاتهما. ويكون فتنة على أهله وأقاربه، وسائر من يقاربه، كما حكى الله في كتابه بقوله: ﴿وَأَمَّا ٱلۡغُلَٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَيۡنِ فَخَشِينَآ أَن يُرۡهِقَهُمَا طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗا ٨٠ فَأَرَدۡنَآ أَن يُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيۡرٗا مِّنۡهُ زَكَوٰةٗ وَأَقۡرَبَ رُحۡمٗا ٨١﴾ [الكهف: 80-81]. فكم من ولد في هذا الزمان أرهق أبويه طغيانًا وكفرًا.
فكم سليل رجاه للجمال أب
فأصبح خزيًا بأعلى هضبة رفعا
وأكثر النسل يشقى الوالدان به
فليته كان عن آبائه دفعا
أضاع داريك من دنيا وآخرة
لا الحي أغنى ولا في هالك شفعا
يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ مِنۡ أَزۡوَٰجِكُمۡ وَأَوۡلَٰدِكُمۡ عَدُوّٗا لَّكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُمۡ﴾ [التغابن: 14]. و ﴿مِنۡ﴾ للتبعيض، فالزوجة التي هي عدو لك هي التي تأمرك بعقوق والديك، وقطيعة أرحامك، والإساءة إلى جيرانك، فتطيعها في ذلك كله، فتكون بمثابة الصنم الذي تعبده في بيتك، لأن من أطاع مخلوقًا في معصية الله، فقد عبده، ويوشك أن يتسلط عليه بما يقتضي إفساد دينه ودنياه. وكذلك الولد الذي هو عدو لك، فإنه الولد التارك للصلاة، العاكف على شرب المسكرات وارتكاب المنكرات، وعلى أثر هذا تسوء طباعه، وتفسد أوضاعه، ويتعدى ضرره في فساد أخلاقه إلى إخوانه، وأخواته وأهل بيته.
وقد يكون فساد الولد بسب من إهمال الوالد، لعدم عنايته بحسن تربيته، حيث أهمل أمره ونهيه، وألقى حبله على غاربه، فلا يسأل عنه أين دخل ولا أين خرج؟ ولا أين جاء ولا أين ذهب؟ وربما كان الوالد سيِّئ الطباع فاسد الأوضاع في نفسه، تاركًا للصلاة، شاربًا للدخان والمسكرات فيكون سوء فعله بمثابة التعليم السيئ لولده، فينشأ على فساد عقيدته، وسوء طريقته، لأن الوالد مدرسة لأولاده في الخير والشر، وإذا صلح الراعي صلحت الرعية، وإذا فسد الراعي فسدت الرعية، فعند فعل الولد لسائر الأفعال الفاسدة، يعود الوالد على نفسه باللائمة فيكون كما قيل:
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها
فأول راضٍ سيرة من يسيرها
لقد كان من الواجب على الوالد أن يهذب نفسه بتحسين أخلاقه ومحافظته على واجباته، حتى يكون قدوة حسنة، ومدرسة صالحة لأولاده فيقتدوا به في حسن أعماله، ثم يضع الرقابة الصادقة على أولاده فيتفقدهم بالليل عند دخول بيته، ويأخذ بأيديهم إلى المسجد للصلاة معه، لأن من شبَّ على شيء شاب على حبه، ولأنه بأخذ يد الولد إليها، ومجاهدته على فعلها، يعود حبها ملكة راسخة في قلبه، تحببه إلى ربه، وتقربه من خلقه، وتصلح له أمر دنياه وآخرته؛ لأن الصلاة بمثابة الدواء للفرد، تقيم اعوجاج الولد، وتصلح منه ما فسد، وتذكره بالله الكريم الأكبر، وتصده عن الفحشاء والمنكر، فينطبع في قلبه محبة الفضائل، واجتناب منكرات الأخلاق والرذائل، يقول الله تعالى: ﴿ٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَصۡنَعُونَ ٤٥﴾ [العنكبوت: 45].
وإنكم متى أهملتم تربية أولادكم، فلم تهذبوهم على الصلاح والصلاة، وعلى اجتناب المنكرات، فإنه لابد أن يتولى تربيتهم الشيطان، فيحبب إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وصدق الله العظيم ﴿وَمَن يَعۡشُ عَن ذِكۡرِ ٱلرَّحۡمَٰنِ نُقَيِّضۡ لَهُۥ شَيۡطَٰنٗا فَهُوَ لَهُۥ قَرِينٞ ٣٦ وَإِنَّهُمۡ لَيَصُدُّونَهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُم مُّهۡتَدُونَ ٣٧﴾ [الزخرف: 36-37].
فقوله: ﴿ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِينَةُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا﴾ [الكهف: 46]. هذه الزينة مطلوبة شرعًا ومحبوبة طبعًا، فإن الله يحب الغني التقي، ويحب التاجر الصدوق، والله جميل يحب الجمال، طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، والله إذا أنعم على عبده نعمة، أحب أن يرى أثر نعمته على عبده، وهذه كلها من زينة الدنيا المحبوبة، وهذه الزينة تفنى وتبلى.
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل
والباقيات الصالحات هي روح الحياة النافعة الشافعة بعد الوفاة، فلا يضحي بالروح في سبيل إصلاح الزينة الفانية سوى الحمقى، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، فهم يهتمون بزينة الحياة، ولا يبالون بالأعمال الصالحات، التي هي روح الحياة، والتي هي خير ثوابًا أي خير ما يثاب عليه الإنسان، وخير ما يرجوه ويدخره عند ربه بعد موته.
أتدرون ما هي الباقيات الصالحات؟
هي: المحافظة على فرائض الصلوات في الجماعات، وأداء الزكاة، وبسط اليد بالصدقات، وصلة القرابات، والإحسان إلى المساكين والأيتام، وذوي الحاجات، ثم التطوع بنوافل الصلاة، وسائر العبادات، فمن لازم هذه الأعمال، وسعى سعيه في كسب المال الحلال، فقد فاز بزينة الحياة، والسعادة بعد الوفاة.
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا
وأقبح الكفر والإفلاس في الرجل
إن من الناس من يوسع الله عليه الغنى بالمال، لكنه لا يكتسب به زينة الحياة، ولا السعادة بعد الوفاة ﴿فَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ ٥٥﴾ [التوبة: 55].
خلقوا وما خلقوا لـمكرمة
فكأنهم خلقوا وما خلقوا
رزقوا وما رزقوا سماح يد
فكأنهم رزقوا وما رزقوا
ولو سألت عمن هذه حاله، لوجدتهم كثيرين في شتى البلدان، من التجار المكثرين الذين غمرهم الله بنعمته، وفضلهم بالغنى على كثير من خلقه، ثم يجمد قلب أحدهم على حب ماله، وتنقبض يده عن أداء زكاته، وعن الصدقة منه، والصلة لأقاربه، والنفقة في وجوه البر والخير، الذي خلق لأجله، ولم يزل هذا دأبه حتى يخرج من الدنيا مذؤومًا مدحورًا، قد خلف ماله كله، فلا خيرًا قدمه، ولا إثمًا سلم منه، فيصير ماله عذابًا عليه في الدنيا، وعقابًا عليه في الآخرة.
إن الله سبحانه قص علينا في كتابه خبر من أنعم الله عليه بالغنى فشكر، وخبر من أنعم عليه بالغنى فطغى واستكبر، قال في صفة التجار الأتقياء: ﴿رِجَالٞ لَّا تُلۡهِيهِمۡ تِجَٰرَةٞ وَلَا بَيۡعٌ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَوٰةِ يَخَافُونَ يَوۡمٗا تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلۡقُلُوبُ وَٱلۡأَبۡصَٰرُ ٣٧ لِيَجۡزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحۡسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضۡلِهِۦۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ ٣٨﴾ [النور: 37-38]، أي من سعة الرزق وبركته، وقال في ضده: ﴿وَمِنۡهُم مَّنۡ عَٰهَدَ ٱللَّهَ لَئِنۡ ءَاتَىٰنَا مِن فَضۡلِهِۦ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ٧٥ فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُم مِّن فَضۡلِهِۦ بَخِلُواْ بِهِۦ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعۡرِضُونَ ٧٦ فَأَعۡقَبَهُمۡ نِفَاقٗا فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ يَلۡقَوۡنَهُۥ بِمَآ أَخۡلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ ٧٧﴾ [التوبة: 75-77].
فمن رزقه الله من هذا المال رزقًا فليبادر بأداء زكاته، ولينفق منه سرًّا وعلنًا، حتى يكون أسعد الناس بماله، وحتى يكون ماله زينة له في الحياة؛ ومن الباقيات الصالحات بعد الوفاة، ﴿وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾ [التغابن: 16].
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعمنا وإياكم بعفوه. وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
* * *
[196] أنَّث الخبر، لأن المراد الدنيا. قاله ابن حجر. وذكر الزركشي أن سبب التأنيث كون المراد: إن صورة هذا المال خَضِرَة حُلْوة. [197] متفق عليه من حديث حكيم بن حزام.