(21) تهذيب الأولاد على المحافظة على الفَرائض والفضَائل والتّنزه عَن مُنكرات الأخلاق والرذائل
الحمد الذي خلق الخلق ليعبدوه، وركَّب فيهم العقول ليعرفوه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ليشكروه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ الذي أوصى أمته بأن يخافوا ربهم ويتقوه. اللهم صل على عبدك، ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه، الذين آزروه ونصروه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله حق تقاته، وتدبروا ما أنزل إليكم من حِكَمِه وآياته، واعلموا أن الله تعالى لم يخلقكم عبثًا، ولم يضرب عنكم الذكر صفحًا، بل خلقكم لمعرفته وعبادته، وأمركم بتوحيده وطاعته. أوجب ذلك عليكم في خاصة أنفسكم وأن تجاهدوا عليه أهلكم، وأولادكم ﴿وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ﴾ [الحج: 78]. وأنزل عليكم في كتابه المبين: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا﴾ [التحريم: 6] فوقاية النفس من النار تحصل بأداء ما افترض الله، وترك ما حرم الله.
كما أن وقاية الأهل من النار تحصل بأمرهم بالخير، ونهيهم عن الشر، وتحصل بأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، فما نحل والد ولده أفضل من أن ينحله أدبًا حسنًا، يدله به على الصلاح والهدى، ويردعه به عن السفاه والردى.
والأدب الحسن ليس مقصورًا على الضرب بالعصا، ولكنه تدريب الولد على العلم والهدى، وعلى الطاعة والتقوى، ومباعدته عن مواقع الفساد والردى ﴿وَأۡمُرۡ أَهۡلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصۡطَبِرۡ عَلَيۡهَاۖ لَا نَسَۡٔلُكَ رِزۡقٗاۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكَۗ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلتَّقۡوَىٰ ١٣٢﴾ [طه: 132] فمن أحب أن يُحفَظ في عقبه وعقب عقبه فليطع ربه، وليأمر بذلك من يحبه، فاحفظ الله يحفظك.
إنكم متى أهملتم تربية أولادكم، فلم تهذبوهم على أفعال الطاعات، والحضور بهم معكم في مساجد الجمع والجماعات للصلاة، فإنه لابد أن يتولى تربيتهم الشيطان، فيحبب إليهم الكفر والفسوق والعصيان ﴿وَمَن يَعۡشُ عَن ذِكۡرِ ٱلرَّحۡمَٰنِ نُقَيِّضۡ لَهُۥ شَيۡطَٰنٗا فَهُوَ لَهُۥ قَرِينٞ ٣٦ وَإِنَّهُمۡ لَيَصُدُّونَهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُم مُّهۡتَدُونَ ٣٧﴾ [الزخرف: 36-37] إن الداء الضار بالولد والوالد هو إهمال الولد، وإلقاء حبله على الغارب، فلا يتفقده بالليل، ولا عند الصلاة، ولا يسأل عنه أين دخل، ولا أين خرج، وهذا غاية في الإهمال إذ إنه يلتقي بأهل السفاه والفساد، وهم أكابر مفسد لأخلاق الأولاد، فيكتسب منهم فنونًا من الضلال والخبال. فكم من رجل حسن الخلق نزيه العرض، عفيف الشرف، سليم العقيدة، اصطحب مع سفهاء الأحلام، وضعفاء العقول والأديان، فأفسدوا فضائله، وأوقعوه في الرذائل، وغيروا عقيدته، فساءت طباعه، وفسدت أوضاعه، وانتشر عنه الذكر الخامل، والسمعة السيئة.
إن الدواء الكريه المر النافع لن يستعمله الولد إلا بإيعاز من الوالد، وإن الله لَيَزعُ بالسلطان أعظم مما يَزعُ بالقرآن، والرجل سلطان على أهل بيته «وكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتهِ»[194] فالمحب الصادق، هو من يجرع صديقه المر ليقيه من الوقوع في الضر، اسق ولدك مرًّا يصادف منه نفعًا، ولا تعدل عنه إلى حلو يضر.
فإن المرَّ حين يَسُـرُّ حُلْو
وإن الحلو حين يضـر مُر
فالبطالة وترك الطاعة كلها شهية في نفس الشاب. فتراه يضحي بنفيس وقته في سبيل لهوه ولعبه، بدون أن يحرص على تعلم ما ينفعه، فيكون لسانه لاغيًا، وقلبه لاهيًا.
وللتعليم الحسن أثره الحسن في نفس الصبي؛ لأن التعلم في الصغر كالنقش على الحجر، والتعليم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. وصلاح التعليم ينجم عن صلاح الرأس والرئيس، ومن تَسَلَّم منصات التدريس، والصبيان مع الأساتذة بمنزلة الأعضاء مع اللسان، تقول: اتق الله فينا، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا.
والمعلم داعية بأفعاله مثل أقواله، لكون الدعاية بالأفعال أبلغ منها بالأقوال. فمتى كان المعلم يترك الصلاة أو يشرب الدخان، فإن هذا تعليم منه بفعله، لأن الأخلاق تتعادى، والطباع تتناقل، والمرء على دين أستاذه وخليله، فلينظر أحدكم من يخالل. فكل تعلم وتعليم لا يظهر أثره على صاحبه من محافظته على الفضائل والفرائض، واجتنابه لمنكرات الأخلاق فإنه لا يرتفع به عند الله درجات، وإنما يسقط به في الجهل والضلال دركات، وغايته أن يكون صنعة من الصناعات.
غير أن المدارس مهما صلحت ونصحت؛ فإنها تحتاج - نمط مهمة نجاح الولد - إلى مساعدة الوالد، بحيث يراقب ولده في كل حالاته، فيحثه على تعلم ما ينفعه، ويباعده عن النوادي، وسائر ما يضره، ويدخله معه البيت بعد صلاة العشاء، ويأخذ بيده إلى المسجد معه ليؤدي فريضة ربه.
فالصلاة في المساجد وإن كانت ثقيلة في نفس الصبي، لكنه بمزاولته لها، والأخذ بيده إليها، يعود حبها ملكة راسخة في قلبه، تحببه من ربه، وتقربه من خلقه، وتصلح له أمر دنياه وآخرته؛ لأنها صلة بين العبد وبين ربه، وصلة بين العبد وبين إخوانه، فهي الدواء الناجح النافع تقيم أَوْدَ[195] الولد، وتصلح منه ما فسد، وتذكِّره بالله الكريم الأكبر، وتصده عن الفحشاء والمنكر، يقول الله تعالى: ﴿ٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَصۡنَعُونَ ٤٥﴾ [العنكبوت: 45] ﴿وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلۡخَٰشِعِينَ ٤٥﴾ [البقرة: 45] فمجاهدة الولد عليها هو من الجهاد في سبيل الله ﴿وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ﴾ [الحج: 78]
والله إننا لنسمع بالشاب يحافظ على أداء فريضة الصلاة في المساجد والجماعات، فتقبل قلوبنا على محبته، ويرتفع في نفوسنا جلاله وهيبته، لأن الله إذا أحب عبدًا أنزل محبته في قلوب عباده، وبضد ذلك، نسمع بالشاب معرضًا عن الطاعة، منهمكًا في البطالة، تبدر منه بوادر السوء، في الطعن في الدين، وبغض المتصفين به؛ فيسكن القلوب بغضه، والنفرة منه، لعلمنا أنه فاسق في نفسه، وسيعود ضرره على مجتمع شبابنا.
فالوالد مدرسة لأولاده، وداعية إلى الاقتداء بأفعاله. فإن ترك الوالد الصلاة تركها أولاده. وإن شرب المسكرات شربها أولاده، أو شرب الدخان شربه أولاده. والتجربة المشاهدة في الحاضرين أعظم تصديق لوصايا الدين. فقد رأينا الأولاد الذين أهمل آباؤهم تربيتهم، رأيناهم من أسوأ الناس سيرة، وأفسدهم سريرة، رأيناهم يتقلبون فيما يعود بالضرر عليهم في حالهم ومالهم ومآلهم قد أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، واستخفوا بحرمات الدين واتبعوا غير سبيل المؤمنين.
أما الذين تولى آباؤهم تربيتهم، وزاولوهم على الحضور إلى المساجد للصلاة معهم، رأيناهم من أحسن الناس سيرة، وأصلحهم سريرة، رأينا أعمالهم بارة وأرزاق الله عليهم دارة ﴿ٱلَّذِينَ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٨﴾ [الزمر: 18].
فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا إلى ربكم، ﴿وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ [الأنفال: 1].
[194] متفق عليه من حديث ابن عمر. [195] اعوجاج.