متقدم

فهرس الكتاب

 

(17) تفسير قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱرۡكَعُواْ وَٱسۡجُدُواْۤ وَٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمۡ [الحج: 77]

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين ونحمده ونشكره أنْ جعلنا مسلمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد:

فقد قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱرۡكَعُواْ وَٱسۡجُدُواْۤ وَٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمۡ وَٱفۡعَلُواْ ٱلۡخَيۡرَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ۩ ٧٧ وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖ [الحج: 77-78].

قال بعض السلف: إذا سمعت الله يقول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فأَصْغِ لها سمعك. فإنها خير تُؤمَر به، أو شر تُنهَى عنه.

نادى الله عباده المؤمنين باسم الإيمان. فبعدما هاجروا إلى المدينة رسخ الإيمان في قلوبهم، وانقادت للعمل به جوارحهم. ولهذا لا توجد هذه الصيغة أي: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ إلا في السور المدنيات. ثم إن هذه الآية هي إحدى سجدات القرآن؛ كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «فُضِّلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ بِسَجْدَتَيْنِ» وفي رواية: «فَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلَا يَقْرَأْهَا»[141].

استدل بهذا الحديث من يرى أن سجدة التلاوة واجبة. والصحيح أنها مستحبة وليست بواجبة لما في البخاري عن عمر أنه قال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ». وقد مدح الله الذين إذا تُلِيَتْ عليهم آيات الرحمن خروا سجدًا وبكيًّا. وثبت أن النبي ﷺ كان يخطب فقرأ سجدة فنزل عن المنبر، فسجد، وسجد الناس معه، وفعل عمر مثله.

وروي أن الإنسان إذا سجد اعتزله الشيطان، يبكي يقول: «أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِىَ النَّارُ».

أما الدعاء في سجود التلاوة: فليس محصورًا في صفة. بل لو سجد ولم يقل شيئًا، أو قال: سبحان ربي الأعلى كفى.

واختلف العلماء: هل سجود التلاوة صلاة يشترط له ما يشترط للصلاة من الطهارة واستقبال القبلة والتكبير والتسليم، أم هو سجود مجرد؟

فعند بعض الفقهاء: إنه صلاة، يشترط له ما يشترط للصلاة، من الطهارة، واستقبال القبلة. واستأنسوا لهذا بحديث ابن عمر قال: «كَانَ النَّبِيُّ يَقْرَأُ عَلَيْنَا الْقُرْآنَ، فَإِذَا مَرَّ بِالسَّجْدَةِ كَبَّرَ وَسَجَدَ وَسَجَدْنَا مَعَه». رواه أبو داود بسند فيه لين.

ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بأن سجود التلاوة هو سجود مجرد يشبه سجود الدعاء، فلا يشترط له طهارة ولا تكبير ولا تسليم، لأنه ليس بصلاة، وإنما شُرِعَ للخضوع والدعاء. فيسجد ولو في وقت النهي؛ كبعد العصر والفجر، ومثله سجود الشكر، فإنه يستحب عند حصول نعمة واندفاع نقمة. لأن النبي ﷺ كان إذا جاءه أمر يسره خر ساجدًا شكرًا لله.

فسجود تلاوة القرآن، وسجود الشكر، لا يشترط لهما الطهارة من الحدث على القول الصحيح، لأنهما بمثابة الدعاء، وبمثابة تلاوة القرآن والتسبيح، وسائر العبادات التي يجوز فعلها بدون وضوء.

فقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱرۡكَعُواْ وَٱسۡجُدُواْۤ [الحج: 77] ولأن يسجد المؤمن سجدة يبتغي بها وجه الله إلا آجره الله عليها، ولأنه لا أفضل من مؤمن يعمر في الإسلام لتسبيحة أو صلاة ركعة أو سجدة أو صدقة.

والموتى في قبورهم يتحسرون ويتأسفون على زيادة في أعمالهم، ويتمنون الرجعة إلى الدنيا ليعملوا أعمالاً صالحة. يقول المفرط منهم: ﴿...رَبِّ ٱرۡجِعُونِ ٩٩ لَعَلِّيٓ أَعۡمَلُ صَٰلِحٗا فِيمَا تَرَكۡتُۚ كَلَّآۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَاۖ وَمِن وَرَآئِهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ ١٠٠ [المؤمنون: 99-100] فلا يجابون إلى ما سألوا وقد حيل بينهم وبين العمل، وغلقت منهم الرهون، فهم يتمنون العمل ولا يقدرون عليه، وأنتم تقدرون على العمل ولا تعملون.

إن بعض الناس يتقرب إلى الله بهذه العبادات، لكنهم يتوسلون ويستشفعون بالأولياء والصالحين والمقبورين يرجون شفاعتهم، وهذا شرك محبط لسائر أعمالهم من صلاتهم وصيامهم ﴿وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلۡإِيمَٰنِ فَقَدۡ حَبِطَ عَمَلُهُۥ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ [المائدة: 5] وإذا دخل أهل الجنة الجنة ورأوا ثواب أعمالهم سألوا ربهم أن يأذن لهم بأن يعبدوه بالركوع والسجود. فيقول الله لهم: إن الآخرة دار جزاء وليست بدار عمل. وإنما يلهمون التسبيح والتحميد، كما تلهمون النفس. وقوله: ﴿وَٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمۡ وهذا أمر من الله لعباده بأن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا.

إن الله سبحانه إنما خلق الخلق للعبادة، وخلق لهم جميع ما في الدنيا من الخيرات ليستعينوا به على عبادة ربهم، ويتمتعوا به إلى آخرتهم. كما خلق لهم الجنة ثوابًا وجزاء على حسن أعمالهم.

وأما قوله: ﴿وَٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمۡ وَٱفۡعَلُواْ ٱلۡخَيۡرَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ۩ ٧٧ [الحج: 77].

فالعبادة اسم جامع لفعل ما يحبه الله ويرضاه، فالصلوات فرضها ونفلها عبادة. والصدقة فرضها ونفلها عبادة. والصوم فرضه ونفله عبادة. وبر الوالدين عبادة. وصلة الأرحام عبادة. والإحسان إلى المساكين والأيتام عبادة. والتسبيح والتحميد عبادة. والاستغفار وتلاوة القرآن بالتدبر، وتوطين النفس على العمل به عبادة. والدعاء والتضرع عبادة؛ بل الدعاء مخ العبادة، ومخ الشيء خالصه. والله تعالى يقول: ﴿قُلۡ مَا يَعۡبَؤُاْ بِكُمۡ رَبِّي لَوۡلَا دُعَآؤُكُمۡۖ فَقَدۡ كَذَّبۡتُمۡ فَسَوۡفَ يَكُونُ لِزَامَۢا ٧٧ [الفرقان: 77]. سواء قلنا: المراد به دعاء العبادة، أو دعاء المسألة، فإنه عبادة.

والعبادة هي التي تحبب الرب إلى العبد وتجعله من أوليائه المقربين وحزبه المفلحين، كما في البخاري: أن النبي ﷺ قال: «قال الله عز وجل: مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ...» الحديث.[142]

خصوصًا الصلاة، فإنها الصلة بين العبد وبين ربه. فالمصلي متصل بربه وموصول من فضل ربه وكرمه، كما في الحديث: «آمُرُكُمْ بِالصَّلاَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ قِبَل وَجْهِ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فِي صَلَاتِهِ»[143] وهي من أكبر العون على قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وسعة الرزق في الحياة. يذنب الشخص الذنب ثم يندم، ويقوم يتوضأ، ويصلي ركعتين يتوب فيهما إلى الله، ويتوب الله عليه. أو يصاب بمصيبة، مِن فقْد حبيب، أو خسارة مال، أو شيء من مصائب الدنيا، فيقوم فيتوضأ، ويصلي ركعتين فتخف عليه عظم مصيبته. ويرى أن الله أكبر من كل شيء، وأن فيه العوض من كل هالك، والخلف من كل فائت.

أو يصاب بهَمٍّ وغمٍّ شديدين، فيقوم يتوضأ، ويصلي ركعتين، فيزول عنه همه وغمه، ويبدل مكانه فرح وسرور. أو يصاب بغضب شديد، فيتوضأ ويصلي. فيبرد غضبه، ويسكن جأشه. وهذا معنى قوله: ﴿وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِ [البقرة: 45] لأنها قرة العين للمؤمنين في الحياة.

ثم قال سبحانه: ﴿وَٱفۡعَلُواْ ٱلۡخَيۡرَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ۩ ٧٧ [الحج: 77]

فأرشدت هذه الآية الكريمة إلى أن فعل الخير على اختلاف أنواعه أنه من أسباب الفلاح، وهو الفوز والنجاح بخير الدنيا والآخرة.

وهذا الخير الذي أمر الله عباده بفعله يشمل كل ما ينفع الشخص والناس في أمر دينهم ودنياهم؛ لأن خير الناس أنفعهم للناس، والخلق عيال الله، وأحب الخلق إلى الله مَنْ أحسن إلى عياله. وخير الناس من يُرجَى خيره، ويُؤْمَن شره، وشر الناس من لا يُرجَى خيره، ولا يؤمَن شره.
الخير أبقى وإن طال الزمان به
والشـر أخبث ما أوعيت من زاد
والله سبحانه خلق الناس على طبقات شتى: فمنهم أهل الخير المعروفون بالخير والإحسان ونفع الناس، ومنهم أهل الشر والمنكر والعصيان.
وللخير أهل يعرفون بهديهم
إذا اجتمعت عند الخطوب المجامع
وللشـر أهل يعرفون بشكلهم
تشير إليهم بالفجور الأصابع
وصفة رسول الله ﷺ، أنه يصل الرحم، ويحمل الكَلَّ، ويُكسِب المعدوم، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق. فهؤلاء هم الأبرار الذين قال الله فيهم: ﴿إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِي نَعِيمٖ ١٣ وَإِنَّ ٱلۡفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٖ ١٤ [الإنفطار: 13-14]. فالأبرار: المتوسعون في أعمال البر والخير، من صلاة وصلة وصدقة وإحسان إلى الناس. والخير خزائن والناس مفاتيح، فمن الناس من يكون مِفتاحًا للخير، مِغلاقًا للشر، ومن الناس من يكون مِفتاحًا للشر، مِغلاقًا للخير، فهم في نعيم في الدنيا وفي القبر، وفي الآخرة، ومن الناس من يكون مفتاحًا للشر، وهم المتوسعون في أعمال الشرور والفجور؛ من تركهم الصلاة، وشربهم المسكرات، واستباحة أفعال المنكرات من الزنا والسرقة وأكل أموال الناس بالباطل. وحسب المتصف بفعل الخير أنه يحبه الله، ويحبه أهل الأرض، ويحبه أهل السماء، ويدعو له المسلمون في صلاتهم، ويقولون: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين». وهذا هو الغاية في الفلاح، والفوز بالنجاح، وهو معنى قوله: ﴿وَٱفۡعَلُواْ ٱلۡخَيۡرَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ۩﴾.

ثم قال: ﴿وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ [الحج: 78].

إنه قد يسوء فهم كثير من الناس حينما يسمعون بآيات الجهاد في القرآن، فيظنون كل الظن أن المراد بالجهاد هو الغزو لقتال الكفار، وهذا نوع من الجهاد وليس الجهاد محصورًا فيه. بل الجهاد أعم وأشمل؛ لأن الجهاد هو: بذل الجهد والطاقة في إعلاء كلمة الحق، ونفع الخلق، والجهاد قولي وفعلي. يكون باللسان وبالحجة والبيان. ويكون بالسيف والسنان. وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»[144]

فالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، هو نوع من الجهاد في سبيل الله، وهو واجب على كل واحد بحسبه. فعلى العالم من وجوب الجهاد في نشر العلم وتعليمه، وتذكير الناس به، والنصيحة بنشر ما ينفعهم، والتحذير عما يضرهم. ما ليس على غيره. وعلى الحاكم من وجوب الجهاد في تنفيذ الحق والحكم بالعدل، ونصر المظلوم، واستيفاء حقه، وقمع الظالم وإيقافه على حده، وإقناعه بحقه. ما ليس على غيره. ولن تقدَّس أمة لا يؤخذ الحق من قويهم لضعيفهم.

فالجهاد واجب على كل أحد بحسبه، وواجب على كل أحد مع أهله وعياله بحيث يأمرهم بالخير، وينهاهم عن الشر، ويأمرهم بالصلاة في المسجد معه عملاً بقوله: ﴿وَأۡمُرۡ أَهۡلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصۡطَبِرۡ عَلَيۡهَا [طه: 132]. فالجهاد بالحجة والبيان، والأمر بالخير، والنهي عن الشر، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة: هو جهاد أنبياء الله ورسله. وإنما شرع القتال لتأييده واستقامته، لأنه قوام الدين، ﴿وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيٗا وَنَصِيرٗا [الفرقان: 31].

يقول الله تعالى: ﴿وَقُل لَّهُمۡ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَوۡلَۢا بَلِيغٗا [النساء: 63] ﴿وَجَٰهِدۡهُم بِهِۦ جِهَادٗا كَبِيرٗا [الفرقان: 52] وقال سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَٰهِدِ ٱلۡكُفَّارَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَٱغۡلُظۡ عَلَيۡهِمۡۚ وَمَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ٧٣ [التوبة: 73] ورسول الله ﷺ لم يؤمر بقتال المنافقين، ولما استؤذن في قتل رجل منافق قال: «لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحمَّدًا يَقْتُلُ أصْحَابَهُ»[145] من أجل أنهم ينتسبون إلى صحبته وإلى الإسلام في الظاهر، فترك قتالهم.

ومعنى قوله: ﴿هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ أي اصطفاكم وجعلكم من خيار الناس، ومن أنفع الناس للناس ﴿كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ [آل‌عمران: 110] فمتى زالت هذه الصفات الجليلة، فقد زالت عنهم الخيرية.

ثم قال: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖ [الحج: 78] فنفى سبحانه وقوع الحرج في الدين، لأن شرائع الإسلام كلها سهلة سمحة ميسرة، كما في البخاري عن عمران بن حصين قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي ﷺ عن الصلاة فقال: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ». ولما رأى النبي ﷺ رجلاً يصلي وقد رفع له وسادة يسجد عليها فرمى بها، وقال: «صَلِّ عَلَى الْأَرْضِ إنْ اسْتَطَعْت، وَإِلَّا فَأَوْمِ إيمَاءً، وَاجْعَلْ سُجُودَك أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِك»[146] فما من شيء من العبادات يشق مشقة زائدة على المعتاد إلا كان لها بدل من التيسير حاضر عتيد؛ لأن الشرائع منزلة على جلب المصالح، ودرء المضار.

أما ما يصيب الناس من مشقة الصيام في نهاية طول الأيام، وشدة الحر فيصفون الإسلام من أجله بأن شرائعه تكاليف شاقة. فهذا لا يقوله سوى ضعفة الأديان، الذين ينظرون إلى الأشياء بعين شهواتهم لا بعين عقولهم. وقد خفي عليهم أن المكارم منوطة بالمكاره، وأن السعادة والصحة والعافية لا يُعبَر إليها إلا على جسر المشقة والتعب. والله سبحانه لم يوجب الصيام على عباده إلا لمصلحة تعود عليهم في دينهم وأبدانهم، لأنه بمثابة الرياضة للبدن، وبمثابة الحمية التي تعقب البدن الصحة. والصوم زكاة البدن يزكو به ويصح به، كما في الحديث: «صُوْمُوْا تَصِحُّوْا»[147] لأن في البدن فضولاً سيالة إذا بقيت في الجسم أفسدته. وبالصوم تنشف وتقوى العضلات، فيشتهي الطعام باشتياق. أشبه تضمير الخيل للسباق. وبطريق الاعتبار نرى أن المتنفلين بالصيام الذين يصومون مثلاً الاثنين والخميس، ويصومون عشر ذي الحجة، ويصومون يوم عاشوراء، ويوم عرفة، مع صيام رمضان نراهم من أحسن الناس حالاً، وأصح الناس أجسامًا. لأن الله يمدهم بالقوة على أثر الطاعة، حتى يمتعون بالصحة وطول العمر.

ومثله يقال في الصلاة حيث سماها بعضهم بالرياضة من أجل أنها تروض الجسم. وهي رأس العبادة، وتكسب البدن الصحة لأن الله لم يوجب الصوم والصلاة إلا لمصلحة راجحة، ومنفعة واضحة في الدين والبدن. ولم يحرم المحرمات كالربا والزنا وشرب الخمر إلا لمضرة واضحة ومفسدة راجحة، وأهل الصوم في صومهم، هم أنعم وأسعد وأقوى من أهل البطالة في أكلهم وشربهم وبطالتهم، يقول الله تعالى: ﴿أَمۡ نَجۡعَلُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ كَٱلۡمُفۡسِدِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ نَجۡعَلُ ٱلۡمُتَّقِينَ كَٱلۡفُجَّارِ ٢٨ [ص: 28].

* * *

[141] رواه أبو داود في مراسيله عن خالد بن معدان، ورواه الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر. [142] رواه البخاري من حديث أبي هريرة. [143] رواه الإمام أحمد من حديث الحارث الأشعري. [144] أخرجه أحمد من حديث فضالة بن عبيد. [145] رواه البخاري من حديث جابر بن عبد الله. [146] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث ابن عمر. [147] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث أبي هريرة.