(15) التذكير بحديث «المؤمن القويّ أحَبّ إلى الله مِن المؤمن الضّعيف» وفيه بيَان القضَاء والقدَر عَلَى الوَجه الصّحيح
الحمد لله الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير. ﴿ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفُورُ ٢﴾ [الملك: 2]. وأشهد أن لا إله إلا الله بيده مواقيت الأعمار، ومقادير الأمور. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى كل عمل مبرور. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «الْمُؤْمِن الْقَوِيّ خَيْر وَأَحَبّ إِلَى اللَّه مِنْ الْمُؤْمِن الضَّعِيف، وَفِي كُلّ خَيْر، اِحْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجَز. وَإِنْ أَصَابَك شَيْء فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْت لَكَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّه وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ " لَوْ " تَفْتَح عَمَل الشَّيْطَان»[114].
وأقول: إن هذا الحديث هو من جوامع الكلم، ومهمات الحكم. فهو بمثابة الموعظة الفصيحة، والنصيحة الصحيحة التي حث النبي ﷺ عليها أمته، وأحب منهم أن يتخلقوا بمدلوله الذي فيه سعادتهم في دنياهم وآخرتهم.
بدأه بقوله: «الْمُؤْمِن الْقَوِيّ خَيْر وَأَحَبّ إِلَى اللَّه مِنْ الْمُؤْمِن الضَّعِيف». لكون القوي يزيد على الضعيف بقوته، والقوة في سبيل الحق والعدل مطلوبة شرعًا، ومحبوبة طبعًا.
ولهذا يستحبون الغزو مع الأمير القوي الفاجر، ويفضلونه على الغزو مع الأمير المؤمن الضعيف. ويقولون: إن إيمان الضعيف لنفسه، وضعفه يضر الناس. وإن فجور الأمير القوي على نفسه، وقوته تنفع الناس. ولهذا كان من سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يفضل الأمير القوي ويقدمه في الولاية على الضعيف. كما ولى زياد بن أبيه وأمثاله وكان يقول: اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر وعجز الثقة. ويستحبون في القاضي أن يكون قويًّا من غير عنف، لينًا من غير ضعف، حليمًا ذا أناة وفطنة. وقد قيل: ما أنت بالسبب الضعيف وإنما نجح الأمور بقوة الأسباب فالقوة الممدوحة هنا شاملة للقوة في الدين والدنيا؛ لكونه يقوم في أعماله بجد وعزم، ويأخذ بأسباب الحزم. ولهذا قال: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ».
فهذه من أجمع الكلمات، وأفصح العظات ترشد الإنسان إلى الحرص فيما ينفعه في أمر دينه ودنياه وبدنه. فمتى احتاج إلى علاج يزيل به ضرره، ويدفع به مرضه، فإنه يبادر إلى الأخذ به. لأن دين الإسلام يجمع بين مصالح الروح والجسد، وبين مصالح الدنيا والآخرة.
ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: «مَا نزلَ مِنْ دَاءٍ إِلاَّ ولَهُ دَواء عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ»[115] وقال: «تَدَاوَوْا يا عباد الله، وَلاَ تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ»[116] فيستعمل الدواء الكريه المر خوفًا من الوقوع في الضر كما قيل:
نحن في دار بليات
نعالج آفات بآفات
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الطعن في الأسباب قدح في الشرع، والإعراض عن الأسباب نقص في العقل.
فقول النبي ﷺ: «اِحْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعك». يشمل هذا كله، كما يشمل الحرص على أمر دينه من المحافظة عل فرائض ربه التي ينتظم بها أمر حياته، فإنها نعم العون على ما يزاوله من أمر الدنيا. وفي الدعاء المأثور: «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِى دِينِىَ الَّذِى هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِى وَأَصْلِحْ لِى دُنْيَاىَ الَّتِى فِيهَا مَعَاشِى»[117] وقد مدح الله الذين يقولون: ﴿رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ حَسَنَةٗ وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ﴾ [البقرة: 201].
فلا ينبغي للإنسان أن يعجز عن ما يعود عليه نفعه من أمر دينه ودنياه. فإن العجز نتيجته الحرمان. وقد قيل:
دع التكاسل في الخيرات تطلبها
فليس يسعد بالخيرات كسلان
ومن دعاء النبي ﷺ «اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ»[118].
إن أضر ما ابتلي به الشخص هو العجز والكسل، وأكثر الناس يجعلون عجزهم توكلاً، وفجورهم قضاءً وقدرًا.
فمتى صارحت الشخص ونصحته عن ترك الصلاة مثلاً، أو نهيته عن شيء من المنكرات، كشرب المسكرات، اعتذر إليك قائلاً: إنه أمر مكتوب علي! فهو كما قيل: عند ترك الطاعات قدري، وعند ارتكاب المنكرات جبري. نظير ما حكى الله عن المشركين حيث قالوا: ﴿لَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖ نَّحۡنُ وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖۚ كَذَٰلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ فَهَلۡ عَلَى ٱلرُّسُلِ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ﴾ [النحل: 35]. فالمحتج بالقدر حجته داحضة عند ربه؛ لأنه باحتجاجه بالقدر يريد أن يبطل الأمر والنهي اللذين عليهما مدار العبادات والأحكام، وأمور الحلال والحرام.
والله سبحانه خلق الإنسان، وركَّب فيه السمع والبصر والعقل؛ ليتم بذلك استعداده لتناول منافعه، واستعمالها في سبيل قوته، ووقاية صحته، وحفظ بنيته. وكان من هدي النبي ﷺ فعل التداوي في نفسه، والأمر به لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه. وكل ما شرعه رسول الله ﷺ لأمته، وأمر به، فإنه من الدين الذي يجب اتباعه واستعماله، ويدخل في عموم قوله: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجَزْ». فالأنبياء والعلماء دينهم الأمر، وعليه مدار العمل مع إيمانهم بالقضاء والقدر. فهم يقدمون الأمر على القدر، ويحاربون القدر بالقدر، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما بلغه أنه قد وقع الطاعون بالشام، فامتنع عن دخول البلد من أجله، وعزم على الرجوع بأصحابه. ولما قال له أبو عبيدة: أفرارًا من قدر الله يا عمر؟ قال: نعم. وقال: نفر من قدر الله إلى قدر الله[119].
ويقولون: القدر لا يمنع العمل، ولا يجب الاتكال عليه، ولا الاحتجاج به، إلا في حالة بذله للأسباب التي تقيه وترقيه وتحفظه. فمتى غلبه الأمر بعد ذلك، فإنه لا يلوم نفسه على تقصيره أو تفريطه ولن يلومه الناس؛ إذ قد ينزل بالشخص من البلايا والمحن ما لا طاقة له به. ولهذا قال: «وَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْت كَذَا كَانَ كَذَا وَكَذَا» لأن هذا من اللوم المذموم.
فالعاقل يأخذ في أموره بالحذر والحزم وفعل أولي العزم. فمتى غلبه أمر لا يطيق دفعه ولا رفعه فعند ذلك يلتجئ إلى قوله: هذا قدر الله وما شاء فعل، ليسلي بذلك نفسه.
أما إذا غلبه أمر بسبب ضعفه وعجزه وتقصيره بأخذ الحيطة، ووسائل الولاية والحفظ، فإنه ملام على عجزه. ولا معنى لاحتجاجه بقضاء الله وقدره ﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنۡ حَسَنَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٖ فَمِن نَّفۡسِكَۚ وَأَرۡسَلۡنَٰكَ لِلنَّاسِ رَسُولٗاۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدٗا ٧٩﴾ [النساء: 79].
ولما قصر الصحابة يوم أحد في حمايتهم، وأهملوا الشِّعب حتى دخلت عليهم خيل المشركين من جهته، فقتلوا سبعين من الصحابة. وكانوا يظنون أنهم لن يغلبوا من أجل أنهم جند الله، والمجاهدون في سبيله مع نبيه، وأنهم لن يغلبوا، فأنزل الله تعالى: ﴿أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡ﴾ [آلعمران: 165]. أي بسبب تقصيركم بحفظ بيضتكم وحماية ثغركم. وعاجز الرأي مِضياع لفرصته حتى إذا فات أمر عاتب القدرا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن التوكل إنما يكون مع الأخذ بالأسباب، وإن ترك الأسباب بدعوى التوكل لا يكون إلا عن جهل بالشرع، أو فساد في العقل. فالتوكل محله القلب، والعمل بالأسباب محله الأعضاء والجوارح والحركة. والإنسان مأمور بالأسباب. فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له. ﴿هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ وَإِلَيۡهِ ٱلنُّشُورُ ١٥﴾ [الملك: 15].
يسأل بعضهم: هل الإنسان مخير أم مسير؟
فالجواب: إن الإنسان مخير أي فاعل مختار لعمله؛ سواء كان خيرًا أو شرًّا. فلا يقع فعل مقصود إلا من فاعل مختار. يقول الله تعالى: ﴿قَدۡ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنۡ أَبۡصَرَ فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَنۡ عَمِيَ فَعَلَيۡهَاۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٖ ١٠٤﴾ [الأنعام: 104] وقال: ﴿وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡ﴾ [الكهف: 29] أما من قال: إن الإنسان مسير فإن هذه طريقة الجبرية القائلين: إن الإنسان لا يعدو أن يكون مجبورًا محضًا في جميع أفعاله وتصرفاته. ويصفونه في تصرفه بالريشة المعلقة في الهواء، تقلبها الرياح اضطرارًا لا اختيارًا.
وينشدون في ذلك:
ما حيلة العبد والأقدار جارية
عليه في كل حال أيها الرائي
ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له
إياك إياك أن تبتل بالماء
وأقول: إن هذا الشعر هو من الكذب المفترى على الله وعلى رسوله ﷺ، فهو بعيد عن الحق والعدل. فإن الله سبحانه لم يخلق الإنسان في الدنيا مكتوفًا عن العمل والسعي، والأخذ بأسباب الحول والقوة، وسائر ما يؤهله من السعادة والوصول إلى الغاية والنعيم في الدنيا وفي الآخرة. يقول الله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيۡنَٰهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرٗا وَإِمَّا كَفُورًا ٣﴾ [الإنسان: 3] ويقول: ﴿وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡٔٗا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفِۡٔدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٧٨﴾ [النحل: 78] فهذه هي الوسائل والأسباب التي تنجيه من عذاب الدنيا وعقاب الآخرة؛ فسيكون سعيدًا في حياته، سعيدًا بعد وفاته. أما إذا عطل الإنسان هذه المنافع، ولم يستعملها في سبيل ما خلقت له من عبادة ربه، واستعمالها في مصالحه ومنافعه المباحة، فسيكون بمثابة الأعمى والأصم، أو كالميت المكتوف. كما قال سبحانه: ﴿وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ سَمۡعٗا وَأَبۡصَٰرٗا وَأَفِۡٔدَةٗ فَمَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُمۡ سَمۡعُهُمۡ وَلَآ أَبۡصَٰرُهُمۡ وَلَآ أَفِۡٔدَتُهُم مِّن شَيۡءٍ إِذۡ كَانُواْ يَجۡحَدُونَ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ﴾ [الأحقاف: 26] وقال: ﴿أَمۡ تَحۡسَبُ أَنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَسۡمَعُونَ أَوۡ يَعۡقِلُونَۚ إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ سَبِيلًا ٤٤﴾ [الفرقان: 44].
وحكى سبحانه عن أهل النار: ﴿وَقَالُواْ لَوۡ كُنَّا نَسۡمَعُ أَوۡ نَعۡقِلُ مَا كُنَّا فِيٓ أَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ ١٠ فَٱعۡتَرَفُواْ بِذَنۢبِهِمۡ فَسُحۡقٗا لِّأَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ ١١﴾ [الملك: 10-11] فقد خلق الله الإنسان، وخلق له السمع والبصر والعقل، وخلق له أيضًا جميع ما يحتاج إليه في الدنيا من المطاعم والمشارب واللباس والأدوية، فكل العقاقير التي يستعملها الأطباء لعلاج الأمراض، والوقاية من البلاء والوباء، فهي بالحقيقة من مخلوقات الله التي أنبتها في أرضه، رحمة منه لعباده بإيصال نفعها إليهم، وخص كل نوع منها بمرض يزاوله ويشفيه. فهي من قدر الله التي يقدر الله بها دفع البلاء ورفعه؛ لكون الدواء أمانًا للصحة وقت المهلة.
فالقائلون: ألقاه في اليم مكتوفًا: هم الجبرية الذين يحتجون بالقدر يحاولون أن ينزهوا أنفسهم عن سوء ما فعلوا من المنكرات وترك الطاعات. ويحيلون جورهم وفجورهم، من تركهم الطاعات، وارتكابهم المنكرات، وشرب المسكرات، إلى القضاء والقدر، وما أذنب القضاء والقدر، ولكنهم هم المذنبون. فلو تعدى ظالم على أحد هؤلاء بضربه، أو أخذ ماله، أو انتهاك محارمه، ثم احتج على سوء فعله بالقضاء والقدر، فإنه لن يقبل منه هذا الاحتجاج؛ لعلمه أنه احتجاج باطل حاول به التوصل إلى باطل ببديهة العقل. فكيف يقبل على الله في ترك طاعاته، وارتكاب محرماته؟!!.
ولهذا يدعو بعض العلماء أن يجاوب الجبرية بالصفع على الوجه، ويقال: هذا قضاء الله وقدره. كما كنت تحتج به.
ولما جيء إلى عمر بن الخطاب بسارق قد سرق، واعترف. فقال له عمر: ما حملك على السرقة؟ قال: حملني عليها قضاء الله وقدره!! فقال: وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره. ثم أمر به فقطعت يده[120].
ومثله احتجاج بعضهم بقول الشاعر:
جرى قلم القضاء بما يكون
فسيان التحرك والسكون
وهذا أيضًا يعد من أفسد الشعر، يتمشى على عقيدة الجبر كما ذكرنا فيما سبق. وهذا القول وهذا الاعتقاد باطل بمقتضى النقل والعقل. فهم يصورون القضاء والقدر في نفوسهم، بمثابة الغُلِّ في العنق، والقيد في الأرجل، بحيث لا يتفصى[121] أحد عنه، ولا محيص للناس منه. وهو مدفوع بقول النبي ﷺ في هذا الحديث: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ»[122].
والله سبحانه لم يخلق الخلق في الدنيا سدى مهملين، مضيعين مكتوفين. بل خلقهم عاملين متحركين مختارين. ونحن نؤمن بأن الله على كل شيء قدير، وأنه فعال لما يريد، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وقد جعل الله لكل شيء سببًا ﴿وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ١٠٥﴾ [التوبة: 105] ومن بطأ به عمله، لم يسرع به اتكاله على قضاء الله وقدره.
وحقيقة القدر: هو الإخبار عن سبق علم الله بالأشياء قبل كونها، وأنه يعلم ما كان، وما سيكون كيف يكون؛ لأنه لا تخفى عليه خافية من أعمال عباده. فعلمه بالأشياء قبل وقوعها شيء، والجبر منه عليها شيء آخر. فقد ثبت في صحيح مسلم، من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ». وهذه الكتابة هي عبارة عن سبق علم الله بالأشياء قبل أن تقع وتكون.
قال ابن عباس: إن الله خلق الخلق وعلم ما هم عاملون، ثم قال لعلمه: كن كتابًا. فكان كتابًا، فأنزل: ﴿أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّ ذَٰلِكَ فِي كِتَٰبٍۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ ٧٠﴾ [الحج: 70] ذكره شيخ الإسلام ابن تيميه في كتاب الإيمان ص199.
وثبت أن الله يدفع القدر بالقدر، وأن الله يمحو القدر بالقدر. وسمع من دعاء عمر أنه يقول: اللهم إن كنت كتبتني في أم الكتاب شقيًّا فامحني وأثبتني سعيدًا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت[123]. والله يقول: ﴿يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ ٣٩﴾ [الرعد: 39] مما يدل على أن هذا المحو قد أزيل به قدر كتاب سابق.
وفي حديث ثوبان أن النبي ﷺ قال: «وَلاَ يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلاَّ الدُّعَاءُ وَلاَ يَزِيدُ فِى الْعُمُرِ إِلاَّ الْبِرُّ، وإن الصدقة لتدفع مِيتَةَ السُّوءِ»[124] وفي دعاء القنوت: «وقنا واصرف عنا شر ما قضيت»[125] فأثبت في هذا الحديث كون الدعاء يرد القدر والقضاء. كما أن الصدقة تدفع ميتة السوء. وكذا قوله: «وَلا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلا الْبِرُّ»[126] سواء حملناه على زيادة الأيام والليالي، أو على البركة في العمر، والكل واقع بقضاء الله وقدره.
فالأنبياء والعلماء دينهم الأمر، ويقدمونه على القدر. فقول الشاعر:
جرى قلم القضاء بما يكون
فسيان التحرك والسكون
هو قول باطل قطعًا، فلا يكون التحرك مثل السكون، إذ إن مدار الشرع على الأمر والنهي، وأصدق الأسماء: حارث وهمام، فالهمام: هو الذي يهم بقلبه: سأفعل كذا. والحارث: هو الذي يسعى بيديه ورجليه إلى تحقيق آماله والسعي في أعماله. وقد قيل:
المسلم الحق يصلي فرضَهُ
ويأخذ الفأس ويسقي أرضَهُ
يجمع بين الشغل والعبادَهْ
ليكفل الله له السعادَهْ
وقد قلنا بأن المرض الذي يصاب به الشخص؛ هو من قضاء الله وقدره، وأن الدواء الذي يعالج به ليشفيه، هو من قضاء الله وقدره أيضًا. فهم يشربون الدواء الكريه المر؛ ليقيهم من الوقوع في الضر. كما قيل:
وخذ مرًّا تصادف منه نفعًا
ولا تعدل إلى حلو يضـرُّ
فإن المر حين يسـر حلو
وإن الحلو حين يضـر مرُّ
وقد ثبت في الحديث: «بادِرُوا بالصدقة، فإنَ البلاء لا يتخطَّاها»[127] وفي مراسيل الحسن أن النبي ﷺ قال: «حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ، وَدَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ، واستعينوا على حمل البلاء بالدعاء والتضرع»[128] والدعاء يتعالج مع البلاء بين السماء والأرض. فلا يعجز أحدكم عن الدعاء ويقول: إن كان هذا الأمر مكتوبًا لي فسوف يأتيني، دعوت أو لم أدع. فإن هذه طريقة الملاحدة الذين يحاولون إبطال عبودية الدعاء، وقد قدر الله بعض الأشياء، ولا يحصلها الإنسان إلا عن طريق الدعاء. وإن لم يدع لم تحصل له ﴿وَمَن يَبۡخَلۡ فَإِنَّمَا يَبۡخَلُ عَن نَّفۡسِهِۦۚ وَٱللَّهُ ٱلۡغَنِيُّ وَأَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُ﴾ [محمد: 38].
فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
[114] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [115] رواه الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في المستدرك، والطبراني في المعجم الكبير، والبيهقي في السنن الكبرى، كلهم من حديث ابن مسعود. [116] رواه ابن ماجه وأحمد من حديث أسامة بن شريك. [117] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [118] رواه أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري. [119] أخرجه مسلم من حديث ابن عباس. [120] أخرجه الرامهرمزي في المحدث الفاصل من حديث عمر. [121] أي لا يتخلص. [122] رواه مسلم من حديث أبي هريرة. [123] ذكره ابن بطة في الإبانة الكبرى. [124] رواه ابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرطهما. [125] متفق عليه من حديث الحسن بن علي. [126] أخرجه أحمد من حديث ثوبان. [127] أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث علي بن أبي طالب بلفظ: «باكروا». [128] رواه أبو داود في مراسيله عن الحسن البصري.