(12) فضْل القرآن وتفسير قوله: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتۡلُونَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ ﴾ [فاطر: 29]
الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، ومن همزات الشياطين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، وحجة على الخلق أجمعين. اللهم صل على نبيك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتۡلُونَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ يَرۡجُونَ تِجَٰرَةٗ لَّن تَبُورَ ٢٩ لِيُوَفِّيَهُمۡ أُجُورَهُمۡ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضۡلِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ غَفُورٞ شَكُورٞ ٣٠﴾ [فاطر: 29-30].
وقال تعالى عن هذا القرآن: ﴿هَٰذَا بَلَٰغٞ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِۦ وَلِيَعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٥٢﴾ [ابراهيم: 52] وقال: ﴿كِتَٰبٞ فُصِّلَتۡ ءَايَٰتُهُۥ قُرۡءَانًا عَرَبِيّٗا لِّقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ٣ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا فَأَعۡرَضَ أَكۡثَرُهُمۡ فَهُمۡ لَا يَسۡمَعُونَ ٤﴾ [فصلت: 3-4]. فهو حبل الله المتين، ودينه القويم، ونوره المبين، وصراطه المستقيم، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يزيغ فيستعتب، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يمل سماعه، فهو معجزة الدهور، وآية العصور، وسفر السعادة، ودستور العدالة، وقانون الفريضة والفضيلة، والواقي عن الوقوع في الرذيلة، يقول الله تعالى: ﴿قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ كَثِيرٗا مِّمَّا كُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖۚ قَدۡ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ١٥ يَهۡدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ وَيُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِهِۦ وَيَهۡدِيهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ١٦﴾ [المائدة: 15-16]. فلو تدبر أحدكم كتاب الله وعمل بما فيه من الوصايا الفصيحة، والنصائح الصحيحة، لصار سعيدًا في نفسه، سعيدًا في أهله، سعيدًا في مجتمع قومه.
فتلاوة القرآن بالتدبر، وتوطين النفس للعمل به عبادة، وللقارئ بكل حرف عشر حسنات، مع ما يكتسبه من رفيع الدرجات في الجنات، فإنه يقال للقارئ: اقرأ وارق في درج الجنة.
وإنما نزل القرآن للعمل به لا لمجرد التغني بتلاوته، والذي يقرأ القرآن ولا يعمل به قد ضرب الله به مثل السوء، أي كمثل الحمار يحمل أسفارًا أي كتبًا لا يدري ما فيها. وكما قيل:
زوامل للأخبار لا علم عندهم
بمتقنها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا
بأوساقه أو راح ما في الغرائر
يقول الله تعالى: ﴿مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ ثُمَّ لَمۡ يَحۡمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلۡحِمَارِ يَحۡمِلُ أَسۡفَارَۢاۚ بِئۡسَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ ٥﴾ [الجمعة: 5].
وهذه الآية وإن نزلت في اليهود الذين كُلِّفوا العمل بالتوراة ثم لم يعملوا بها، فإنها منطبقة بالدلالة والمعنى على الذين كُلِّفوا العمل بالقرآن ثم لم يعملوا به؛ لأن الاعتبار في القرآن يكون لعموم لفظه لا بخصوص سببه، فقوله: ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَسۡتُمۡ عَلَىٰ شَيۡءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡۗ﴾ [المائدة: 68]. هو بمعنى قوله: يا أهل القرآن لستم على شيء حتى تقيموا القرآن.
تدبر كتاب الله ينفعك وعظه
فإن كتاب الله أبلغ واعظ
وبالقلب ثم العين لاحظه واعتبر
معانيه فهو الهدى للملاحظ
وما تلا أحد كتاب الله في بيته إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، وينبسط الرزق ويكثر الخير في ذلك البيت الذي تصلى فيه النوافل ويتلى فيه القرآن، لقول النبي ﷺ: «لَا تَجْعَلُوا بُيُوتكُمْ قُبُورًا»[78] أي تهجروها من فعل نوافل الصلاة فيها، وتلاوة القرآن.
ثم إن القرآن يبعث يوم القيامة شافعًا مشفعًا، وماحلاً مصدقًا، من جعله إمامه وعمل بأوامره، واجتنب نواهيه، صار خصمًا دونه يقول: يا رب حَمَّلْتَه إياي، فخير حامل، حفظ حدودي، وعمل بطاعتي، واجتنب معصيتي. ولا يزال يلقي إليه بالححج، حتى يدخله الجنة. وإن كان غير ذلك صار القرآن خصمًا له يحاجه عند ربه، فيقول: يا رب حَمَّلْتَه إياي فبئس حاملاً ضيع حدودي، وترك طاعتي، وارتكب معصيتي. ولا يزال يلقي إليه بالحجج، حتى يقال: شأنك به. فيأخذه ويكربسه على وجهه في نار جهنم.
يقول الله تعالى: ﴿وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يَٰرَبِّ إِنَّ قَوۡمِي ٱتَّخَذُواْ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ مَهۡجُورٗا ٣٠﴾ [الفرقان: 30] وهذا الهجران يُحمَل على هجر التلاوة، وهجران العمل به، نزلت حيث أصرت قريش على معصية الرسول، وعدم الإصغاء إلى القرآن الذي جاء به. وهو ينطبق على كل من هجر تلاوة القرآن، وهجر العمل به. ورب تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه. يتلو قوله: ﴿حَٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ﴾ [البقرة: 238] وهو مضيع لها، ويتلو قوله: ﴿وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ﴾ [البقرة: 277] وهو يأكلها، ويتلو قوله: ﴿إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ﴾ [الملك: 90] وهو يدمن شرب الخمر صباحًا ومساءً.
إنه يُستحَب تحسين الصوت بالقرآن، لحديث: «حَسِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ، فَإِنَّ الصَّوْتَ الْحَسَنَ يَزِيدُ الْقُرْآنَ حُسْناً»[79]. وقال: «مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآنِ فَلَيْسَ مِنَّا»[80] والتغني تحسين الصوت، لكون تحسين الصوت به مدعاة إلى الإصغاء والاتعاظ والاعتبار. وقال: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَىْءٍ -أي ما استمع الله لشيء- كإذنه -أي كاستماعه- لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ»[81].
كثيرًا ما يقرن سبحانه بين تلاوة القرآن وإقامة الصلاة، كما في هذه الآية: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتۡلُونَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ يَرۡجُونَ تِجَٰرَةٗ لَّن تَبُورَ ٢٩﴾ [فاطر: 29]؛ لأن القرآن يذكر بإقامة الصلاة لله. يقول الله تعالى: ﴿ٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَصۡنَعُونَ ٤٥﴾ [العنكبوت: 45].
وقال: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَإِذَا تُلِيَتۡ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنٗا وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ ٢ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ ٣ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُمۡ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمۡ وَمَغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ ٤﴾ [الأنفال: 2-4].
فقد أوجب الله على أهل الإسلام المؤمنين بالقرآن بأن يقيموا الصلاة المفروضة على التمام، ثم إن التعبير بإقامة الصلاة: هو أكمل وأشمل من التعبير بالإتيان للصلاة، لأن معنى إقامة الصلاة: هي أن تأتي بالصلاة مقومة معدلة بخشوع وخضوع في السجود والركوع، على صفة ما شرعه رسول الله ﷺ بقوله: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»[82] وكثير من الناس يأتي بصورة الصلاة على سبيل العادة لا العبادة، ولا صلاة له لكونه لم يطمئن في ركوعه ولا سجوده، ولم يتم إحكام صلاته. فهذه الصلاة قد أماتها صاحبها ولم يقمها، فجديرة بأن تلف كما يلف الثوب الخلق، فيضرب بها وجه صاحبها، وتقول: «ضَيَّعَكَ اللَّهُ كَمَا ضَيَّعْتَنِي»[83].
إن للصلاة ميزانًا توزن به. ولا تسمى صلاة حتى تكون على وفق ما شرعه رسول الله ﷺ في الأقوال والأفعال.
إن الصنيعة لا تعد صنيعة
حتى يصاب بها طريق المصنع
وميزان الصلاة الشرعي: هو ما بينه النبي ﷺ لذلك الأعرابي المسيء في صلاته حين ساقه الله لتعليم الناس كيفية الصلاة المشروعة. وحاصله ما ثبت في البخاري ومسلم، أن النبي ﷺ كان جالسًا في المسجد فدخل رجل أعرابي فصلى، ثم جاء إلى النبي ﷺ فقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال: «وَعَلَيْكَ السَّلامُ، ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ». فعل ذلك ثلاث مرات. فقال: والذي بعثك بالحق لا أُحسن غير هذا، فعلمني. فشرع النبي ﷺ في تعليمه الصلاة المشروعة.
وإنه يجب علينا الآن بأن نصغي إلى هذا التعليم بالآذان، وأن نفرغ له الأذهان، ثم نوطن أنفسنا على العمل به على التمام. فإن فائدة الاستماع الاتباع. وقد مدح الله الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
لهذا شرع النبي ﷺ في تعليم هذا الجاهل فقال: «إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ». فأمره بإسباغ الوضوء وهو إيصال الماء إلى مواضع الأعضاء؛ لأن مفتاح الصلاة الطهور، ولا يقبل الله صلاة من أحد حتى يتوضأ. وفي حديث ثوبان: أن النبي ﷺ قال: «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلاَةَ، وَلَنْ يُحَافِظَ عَلَى الْوُضُوءِ إِلاَّ مُؤْمِنٌ»[84] والوضوء مأخوذ من الوضاءة وهي النظافة؛ لأن دين الإسلام دين النظافة؛ ثم إن الوضوء يكسب الأعضاء نشاطًا وقوة عند القيام للصلاة، كما أنه سبب في تكفير السيئات.
ثم قال: «ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَكَبِّرْ». فأمره باستقبال القبلة عند الشروع في الصلاة، لأنها شرط في حق من قدر على ذلك، أما إذا كان في طائرة، أو في سيارة فإنه يصلي حيث توجهت به الطائرة أو السيارة، مستقبل القبلة أو مستدبرها، إذ لا يمكنه إلا ذلك. ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها ﴿فَأَيۡنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجۡهُ ٱللَّهِ﴾ [البقرة: 115]. قال: «فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَكَبَّرَ» وهذا يفيد عدم مشروعيته الجهر بالنية للدخول في الصلاة؛ لأن النية قلبية، كان النبي ﷺ يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله. كما ثبت ذلك من حديث عائشة أي أنه لا يتلفظ بالنية عند التكبير، ولم تثبت عند أحد من الصحابة ولا التابعين. قيل للإمام أحمد: تقول قبل التكبير: نويت أن أصلي كذا؟ قال: لا. إذ لم ينقل عن النبي ولا عن أحد من أصحابه، ولقد كان لكم في رسول الله ﷺ أسوة حسنة.
ومن السنة أن الإنسان إذا كبر تكبيرة الإحرام، فإنه يضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره، حتى يكون كالأسير الذليل عند ربه، ولأن هذا أعون على حضور قلبه وخشوعه في صلاته: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ١ ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي صَلَاتِهِمۡ خَٰشِعُونَ ٢﴾ [المؤمنون: 1-2].
قال: «ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ» ولم يذكر فاتحة الكتاب، لأن الناس حديثو عهد بجاهلية. وأكثر الأعراب لا يحفظون فاتحة الكتاب، وقد جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله إني لا أحسن شيئًا من القرآن في الصلاة، فعلمني. قال: ««قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ للَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ». قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَمَا لِى قَالَ «قُلِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى وَارْحَمْنِى وَعَافِنِى وَاهْدِنِى وَارْزُقْنِى»»[85].
وأما من يحفظ الفاتحة فإن قراءتها ركن في الصلاة، لقول النبي ﷺ: «لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ»[86].
قال: «ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا». ومعنى تطمئن أي تسكن وتركد في ركوعك، لأن لُبَّ الصلاة الخشوع. وأدنى الكمال هو أن يقول الإنسان في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاث مرات، والسنة أن يساوي رأسه بظهره فلا يرفع رأسه ولا يخفضه. قال: «ثم ارفع» أي من الركوع: «حَتَّى تَطْمَئِنَّ قَائِمًا» أي يعتدل جسمك. ففي الحديث: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُقِمْ صُلْبَهُ مِنَ الرُّكُوعِ»[87] قال: «ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا». ويجب أن يسجد على سبعة أعضاء: الوجه ومنه الأنف، واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين. قال: «ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ جَالِسًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا» فهذه هي الصلاة المشروعة الجديرة بأن تصعد إلى الله، فتشفع لصاحبها، وتقول: «حَفِظَكَ اللَّهُ كَمَا حَفِظْتَنِي»[88] وما نقص من الصلاة الموصوفة منها، فإنه بمثابة الاختلاس. وأسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته، فلا يتم ركوعها ولا سجودها.
أما ترك الصلاة بالكلية، فإنه حقيقة في الكفر بمقتضى الدليل والبرهان والسنة والقرآن، فقد قال علماء الإسلام: إنه لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة. وفي صحيح مسلم عن جابر أن النبي ﷺ قال: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ».
أما قوله: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتۡلُونَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ يَرۡجُونَ تِجَٰرَةٗ لَّن تَبُورَ ٢٩ لِيُوَفِّيَهُمۡ أُجُورَهُمۡ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضۡلِهِۦٓۚ﴾ [فاطر: 29-30]. فكثيرًا ما يقرن القرآن بين إقامة الصلاة وبين النفقات في الزكاة والصدقات؛ لأن المسلم بما أنه متعبد بالصيام والصلاة، فإنه متعبد أيضًا بالزكاة والصدقات؛ لأن المال مال الله والله مستخلفه عليه، وناظر كيف يعمل فيه.
يقول الله تعالى: ﴿وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسۡتَخۡلَفِينَ فِيهِۖ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَأَنفَقُواْ لَهُمۡ أَجۡرٞ كَبِيرٞ﴾ [الحديد: 7] وقال: ﴿وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقۡنَٰكُم مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنِيٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ١٠﴾ [المنافقون: 10] وفي الحديث: «مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ يوم إِلَّا وَمَلَكَانِ يُنَادِيَانِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ، فَإِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى، اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلْفًا وَأَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا». رواه أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم.
فأثر هذا واقع محسوس، وإن المتصدقين هم أسعد الناس في الدنيا والآخرة، فإنها ما نقصت الصدقة مالاً بل تزيده ﴿قُلۡ إِنَّ رَبِّي يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَيَقۡدِرُ لَهُۥۚ وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَهُوَ يُخۡلِفُهُۥۖ وَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ ٣٩﴾ [سبأ: 39].
فمن رزقه الله من هذا المال رزقًا حسنًا، فليبادر بأداء زكاته، ولينفق منه سرًّا وعلنًا، حتى يكون أسعد الناس بماله، فإنما للإنسان ما قدم ﴿وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾ [التغابن: 16].
أسأل الله سبحانه أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
* * *
[78] أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة. [79] رواه الدارمي ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة، والحاكم من حديث البراء ابن عازب. [80] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [81] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [82] رواه البخاري من حديث مالك بن الحويرث. [83] رواه الطبراني في الأوسط من حديث أنس بسند ضعيف، والطيالسي والبيهقي في الشعب من حديث عبادة بن الصامت بسند ضعيف، ونحوه العراقي في تخريج أحاديث الإحياء. [84] رواه الإمام أحمد وابن ماجه والدارمي وابن حبان في صحيحه من حديث ثوبان. [85] رواه أبو داود والإمام أحمد وابن حبان في صحيحه والدارقطني من حديث عبد الله بن أبي أوفى. [86] متفق عليه من حديث عبادة بن الصامت. [87] رواه النسائي وابن ماجه والترمذي والدارمي وابن حبان والدارقطني من حديث أبي مسعود الأنصاري. [88] رواه الطيالسي والبزار من حديث عبادة بن الصامت.