(10) غُربة الإسلام وفسَاد النّاس في آخر الزّمَان
الحمد لله الذي وفق من أراد هدايته للإسلام، فانقادت للعمل به الجوارح والأركان؛ فأقام الصلوات، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وحج بيت الله الحرام. وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة من قال: ربي الله ثم استقام. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام. اللهم صل على نبيك ورسولك محمد، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإنه من المعلوم بمقتضى النصوص وبالواقع المحسوس، أن الناس يزدادون إسرافًا في الرذائل وفي ترك الفرائض والفضائل عامًا بعد عام، وأن للدين إقبالاً وإدبارًا، وقوة وضعفًا.
فمن إقبال الدين أن تتفقهه القبيلة بأسرها، وتتمسك بعزائم دينها، حتى لا يكون فيها إلا الفاسق أو الفاسقان، فهما مقهوران ذليلان إن تكلما قُمِعا.
وإن من إدبار الدين أن تجفوا القبيلة بأسرها، وتنحل عن عزائم دينها، وتفسق عن أمر ربها، حتى لا يكون فيها إلا الفقيه أو الفقيهان، فهما مقهوران ذليلان.
وإن صفوة الأمة هم أصحاب النبي ﷺ الذين هم أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، ثم التابعون لهم بإحسان الذين تلقوا العلم عنهم فهم من خير الناس بعدهم؛ لما في الصحيحين عن عمران بن حصين أن النبي ﷺ قال: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم - لا أدري أذكرهم مرتين أو ثلاثة - ثم يجيء قوم يشهدون ولا يُستشهدون، ويخونون ولا يُؤتمنون، ينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن»؛ أي من أجل غرقهم في الترف وسائر الأكل المسمن للجسم. وفي رواية: «تَسْبِق شَهَادَة أَحَدهمْ يَمِينه. وَيَمِينه شَهَادَته»[67] وهذا مما يدل على فساد الناس في آخر الزمان، كما يشهد به الواقع المحسوس.
ويدل له ما روى البخاري في صحيحه أن النبي ﷺ قال: «يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ، ثُمَّ تَبْقَى حُفَالَةٌ» وفي رواية: «حُثَالَةٌ كَحُثَالَةِ الشَّعِيرِ أَوِ التَّمْرِ، لاَ يُبَالِيهِمُ اللَّهُ بَالَةً»[68].
ومن المعلوم أنه متى ذهب الصالحون المصلحون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؛ فإنه يخلو الجو للفاسدين الفاسقين، فيبيضون ويصفرون. ومن أشراط الساعة أن يذهب العلم ويفيض الجهل، كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا». ولهذا حث النبي ﷺ على التمسك بسنته أي بدينه عند فساد أمته. وقال في حديث العرباض بن سارية: «إِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِى فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ». رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان. وقال الترمذي: حسن صحيح. ويدل له ما رواه ابن عباس أن النبي ﷺ قال: «الْمُتَمَسِّكُ بِسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي لَهُ أَجْرُ مِائَةِ شَهِيدٍ». رواه البيهقي والطبراني.
وقد سماه النبي ﷺ بأيام الصبر وقال: ««إن من ورائكم أيام الصبر، القابض فيهن على دينه كالقابض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين منكم» قالوا: كيف يكون له أجر خمسين منا؟ قال: «إنكم تجدون على الحق أعوانًا، وهم لا يجدون»». رواه الترمذي عن أبي ثعلبة الخشني.
إن أكثر الناس في هذا الزمان يتسمون بالإسلام وهم منه بعداء، وينتحلون بأنهم من أهله وهم له أعداء، يعادون بنيه، ويقوضون مبانيه. لم يبق معهم منه سوى محض التسمي به، والانتساب إليه بدون عمل به ولا انقياد لحكمه. فترى أكثرهم لا يصلون الصلوات الخمس المفروضة، ولا يؤدون الزكاة الواجبة، ولا يصومون رمضان، ويستحلون الربا وشرب الخمر، فهم في جانب والإسلام الصحيح في جانب آخر، فهؤلاء أكثر الناس، والله تعالى يقول: ﴿وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣﴾ [يوسف: 103] وقد قيل: الركب كثير، والحاج قليل.
ما أكثر الناس لا بل ما أقلهم
والله يعلم أني لم أقل فندا
إني لأفتح عيني حين أفتحها
على كثير ولكن لا أرى أحدا
يقول بعض الناس: إن الدين إذا فسد العمل به صار آلة ضعف وانحطاط، ونحن نقول: إنه متى فسد العمل بالدين فلا دين، كما أنها متى فسدت الصلاة فلا صلاة. ومتى فسد الصيام فلا صيام، لكون الدين عند الإطلاق ينصرف إلى الدين الصحيح.
إن الصنيعة لا تعد صنيعة
حتى يصاب بها طريق المصنع
فمتى أفسد الناس الدين بترك أوامره، وارتكاب نواهيه، فقد خرجوا عن حده، واستبدلوا ضده، وكانوا بهذا الانقلاب جديرين بالضعف والانحطاط؛ لأن ذنوب الجيش جند عليه، ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡ﴾ [الرعد: 11].
فكل ضعف حصل بالمسلمين فبسبب ما ضيعوا من تعاليم الدين حتى التنازع والاختلاف والقتال بين حكام المسلمين، فكلها ذنوب تورث الضعف والذل وحلول الفشل.
ولضعف الدين عوامل عديدة تساعد على ضعف الناس منها: قول عمر بن الخطاب: إنه يفسد الإسلام ثلاثة أشياء: الأئمة المضلون، وزلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن[69]. وروى مسلم عن ثوبان أن النبي ﷺ قال: «إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِى الأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ».
والخطر المخوف من زلة العالم هو الاغترار به فيها ومتابعته عليها؛ إذ لولا التقليد والاتباع لما خيف على الإسلام وأهله من زلته، وكان ابن عباس يقول: ويل للأتباع من عثرات العالم[70]. وقد شبهوا زلته بغرق السفينة يغرق بغرقها الخلق الكثير. كما أن الأئمة المضلين هم أمراء الناس الذين تنكبوا الطريق المستقيم، وتركوا شريعة القرآن الحكيم وسنة رسول الله عليه أفضل الصلاة والتسليم، واستبدلوا بها شريعة القوانين فتبعهم الناس على ضلالهم، ووافقوهم على فسادهم واستبدادهم. والناس غالبًا على طرائق ملوكهم في الخير والشر، ومتى فسد الراعي فسدت الرعية.
ومنها دنيا تقطع أعناق الناس، حتى تجعلهم كالميتين عن مصالحهم الدينية، وعما يوجب قوتهم واستقامتهم، والاستعداد للجهاد في سبيل الله؛ لأن شغفهم بلذاتهم المادية قد شغلهم عن الأمور الدينية فلأجل حبها صارت هي الجيش الغازي بلاد الإسلام في هذا العصر، وكأنها الكافلة لأعداء الإسلام بالفتح والنصر بغير جموع ولا جنود، وبغير دفاع ولا امتناع، طبق ما روى الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، عن ثوبان أن النبي ﷺ قال: ««يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الأُكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا ». قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ قَالَ «أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ يَنْتَزِعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ وَيَجْعَلُ فِى قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ». قَالَ قُلْنَا وَمَا الْوَهَنُ قَالَ «حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ»». وكل ما كان أصلاً للفساد فإنه يكون سببًا لدخول الضعف منه على العباد.
وكل كسـر فإن الدين يجبره
وما لكسـر قناة الدين جبران
فهذا الضعف الحاصل بالمسلمين ليس من الدين وإنما حصل بسبب ما ضيعوه من تعاليم الدين.
ثم إن الضعف والغربة في الدين لا يلزم أن تدوم، بل قد تقع ثم تزول، إذ هي وصف عارض، كالأمراض الطبيعية. وربما صحت الأبدان بالعلل.
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت
ويبتلى الله بعض القوم بالنعم
فقد يعود الإسلام إلى قوته ويفيء من غربته، كما اشتد ضعفه وغربته زمن وفاة النبي ﷺ حتى ارتدت العرب عنه، ولم يبق مسجد يصلى فيه إلا مسجد مكة، ومسجد المدينة، ومسجد عبد القيس بجواثى أي الأحساء، ولهذا يقول شاعرهم:
والمسجد الثالث الشـرقي كان لنا
والمنبران وفصل القول والخطب
أيام لا منبر للناس نعرفه
إلا بطيبة والمحجوج ذي الحجب
وعلى أثر هذا الضعف، وهذه الغرب جاهد الصحابة في الله حق جهاده حتى استعادوا قوة الدين ونشاطه.
فقول النبي ﷺ: «بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كما بدأ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»، رواه مسلم من حديث أبي هريرة، ورواه الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث ابن مسعود، وفيه: قالوا: «يا رسول الله مَنِ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: «النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ»». وفي رواية قال: «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ». وفي رواية قال: «هم الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي».
وقد اتخذ الناس هذا الحديث بمثابة التخدير للهمم، والتخذيل للأمم، بحيث يتخذونه بمثابة العذر لهم عن القيام بما أوجب الله عليهم من الجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لله ولأئمة المسلمين وعامتهم، حتى كأن الرسول - بزعمهم - قصد بهذا الحديث الاستسلام لهذا الضعف المفاجئ للمسلمين ولهذه الغربة في الدين.
وإن هذه الغربة تقع في مكان دون مكان، وفي زمان دون زمان. فمثل الرسول ﷺ في الإخبار بها كمثل خريت الأسفار، يخبر قومه بمفاوز الأقطار، ومواضع الأخطار، ليتأهبوا بالحزم، وفعل أولي العزم من وسائل التعويق، ويحترسوا بالدفاع لقطاع الطريق، كما في صحيح مسلم من حديث ابن عمر قال: «كنا مع النبي ﷺ في سفر فنزلنا منزلاً، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من يصلح جشره، ومنا من ينتضل، إذ نادى منادي رسول الله: الصلاة جامعة. قال: فاجتمعنا، فقال النبي ﷺ: «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِىٌّ قَبْلِى إِلاَّ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِى أَوَّلِهَا وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاَءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا وَتَجِىءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا»». يعني الآخرة شر من الأولى.
فالعاقل لا يستوحش طرق الهدى من قلة السالكين، ولا يغتر بكثرة الهالكين التاركين للدين، فإن الله تعالى يقول: ﴿وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣﴾ [يوسف: 103] وقد ثبت في الصحيح أنه: «لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة»[71]. وإن الله سبحانه «لا يزال يغرس لهذا الدين غرسًا يستعملهم في طاعته[72]، ينفون عن الدين تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين»[73]. و: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»[74].
ومنها ما روى الترمذي عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: «مَثَلُ أُمَّتِى مَثَلُ الْمَطَرِ لاَ يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ».
فكل هذه الآثار تدل دلالة واضحة على تقلب الأحوال، وأن الدين محفوظ عن الزوال، لا يزال باقيًا دائمًا حتى تقوم الساعة، فمن ظن أن الله يديل الباطل على الحق إدالة مستمرة فقد ظن بالله السوء، ولكن المصارعة لا تزال قائمة بين الحق والباطل، والعاقبة للمتقين.
والدين منصور وممتحن فلا
تعجب فهذي سنة الرحمن
﴿ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖۗ ﴾ [محمد: 4]. ﴿وَلَنَبۡلُوَنَّكُمۡ حَتَّىٰ نَعۡلَمَ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰبِرِينَ وَنَبۡلُوَاْ أَخۡبَارَكُمۡ ٣١﴾ [محمد: 31]. وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
* * *
[67] متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود. [68] رواه البخاري من حديث مرداس الأسلمي. وأحمد في مسنده. [69] أخرجه ابن بطة في الإبانة عن عمر بن الخطاب. [70] أخرجه البيهقي في المدخل عن ابن عباس. [71] متفق عليه من حديث معاوية. [72] رواه الإمام أحمد في مسنده، وابن ماجه وابن حبان في صحيحه، جميعًا من حديث أبي عنبة الخولاني. [73] رواه أبو داود من حديث أبي هريرة، والحاكم في المستدرك. [74] أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة.