(9) القوانين وسُوء عواقبها على الدّين
الحمد لله الذي وفق من أراد هدايته إلى الإسلام، فانقادت للعمل به الجوارح والأركان، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة من قال: ربي الله ثم استقام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاعلموا رحمكم الله، أن نعم الله على العباد كثيرة وأجلها وأعظمها الهداية إلى الإسلام، وتحكيم شريعته وحدوده وحقوقه بين سائر الأنام، فقد أفلح من هدي إلى الإسلام.
إن الله سبحانه أنزل كتابه الحكيم، وبعث نبيه محمدًا الصادق الأمين ﷺ رحمة للعالمين، وحجة على الخلق أجمعين، فقال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَمَا وَصَّيۡنَا بِهِۦٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِۚ كَبُرَ عَلَى ٱلۡمُشۡرِكِينَ مَا تَدۡعُوهُمۡ إِلَيۡهِۚ ٱللَّهُ يَجۡتَبِيٓ إِلَيۡهِ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَن يُنِيبُ ١٣﴾ [الشورى: 13]. فجاء رسول الله ﷺ بشريعة سمحة سهلة، مهيمنة على جميع الشرائع قبلها، فهي خاتمة الشرائع، كما أن محمدًا رسول الله ﷺ هو خاتم النبيين، ورسول الله إلى الخلق أجمعين، وقد جاء بدين كامل وشرع شامل صالح لكل زمان ومكان، قد نظم حياة الناس أحسن نظام، بالحكمة والمصلحة والعدل والإصلاح والإحسان، فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه، وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء؛ لأنه يهدي للتي هي أقوَم. وقد سماه الله شفاءً لعلاج أسقام العقائد، وإزالة الشُّبه والشكوك، وسوء الطرائق، قال تعالى: ﴿قُلۡ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞۚ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٞ وَهُوَ عَلَيۡهِمۡ عَمًى﴾ [فصلت: 44].
ففي نظام شريعة الإسلام حل مشاكل سائر الناس، وكل ما يتنازعون فيه؛ لأن الله سبحانه قد نصب الشريعة لعباده في الدنيا بمثابة الحكم العدل تقطع عن الناس النزاع، وتعيد خلافهم إلى مواقع الإجماع. يقول الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا ٥٩﴾ [النساء: 59].
واتفق العلماء على أن الرد إلى الله، هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول ﷺ هو الرد إلى سنته، قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡ﴾ [الأحزاب: 36]. وقال: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوۡلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذَا دُعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ أَن يَقُولُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٥١﴾ [النور: 51].
ففي شريعة الإسلام حل جميع ما يحتاج إليه الناس، يقول تعالى: ﴿وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡ﴾ [النساء: 83].
ففي الشريعة أحكام البيع والشراء، والأخذ والعطاء، والوقف والوصية، وقسمة التركات. وفيها العهد والأمان، والحرب والسلم، والنكاح والطلاق، والقصاص وأحكام الجروح والشجاج. وفيها تحريم الربا والزنا وشرب الخمر، وإقامة الحدود التي هي من أسباب تقليل فشو الجرائم، وفي الشريعة الحث على كسب المال من حله، ثم الجود بواجب حقه؛ من أداء زكاته، والصدقة منه. وفيه بيان فضل حفظه بنمائه، وتحريم تبذيره، وفضل التجارة المباحة.
وبالجملة فإن الشريعة الإسلامية كفيلة بحل مشاكل العالم، بحيث يسود العاملين بها سربالُ الأمن والإيمان، والسعادة والاطمئنان، وهذا هو حقيقة ما وصى به النبي ﷺ أمته، حيث قال: «تَركتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِى وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَىَّ الْحَوْضَ»[64].
وقال: «مَا نَقَضَ قَوْمٌ عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِى أَيْدِيهِمْ وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيْدًا»[65] وهذا أمر واضح يشهد به الواقع المحسوس.
هذا وإن لسلطان الدين السيطرة الفعالة على قلوب الناس، وخاصة المؤمنين، بحيث يزعهم إلى الفرائض والفضائل، ويردعهم عن منكرات الأخلاق والرذائل، فهم يخضعون لسلطان شريعة الدين، سامعين مطيعين، فمتى قيل للخصم اللجوج: هذا حكم الله؛ وقف على حده وقنع بحقه، وعرف حينئذ أنه لا مجال للجدل بعد حكم الله. فلا يجادلون فيه بعد وضوح صبحه، وبراهين صحته، فالمحكمة الشرعية المبنية على أساس العلم والعدل، والسياسة الحكيمة، هي أكبر معين للحاكم وللرئيس، على سيادة رعيته، وسياسة مملكته، لكون حكم الشرع يوقف الخصم اللدود على حده، ويقنعه بحقه، وإنما سمي دينًا، من أجل أن الناس يدينون به، أي يخضعون لحكمه، كما سميت شريعة، لكون الناس يشرعونها ويشربون منها، ثم ينصرفون راضين بها، ولأنها مقتبسة من شرع الله ورسوله، ولهذا نرى البلدان التي يُحكم فيها بشريعة الإسلام، والتي تُقام فيها الحدود، ويُستوفى فيها الحقوق، نجدها آخذة بنصيب وافر من الإيمان، والسعادة والاطمئنان، آمنة من الزعازع والافتتان، والضد يظهر حسنه الضد، وإنما تتبين الأشياء بأضدادها، بخلاف البلدان التي تحكم بالقوانين التي هي شريعة الكافرين نرى أهلها من أسوأ الناس حالاً، وأشدهم اضطرابًا وزلزالاً، قد ابتلوا بفنون من الفتن والاضطراب، وعدم أمن الجناب، إلى حالة كثرة القتل والنهب، وحرق الحوانيت المملوءة بالأموال، واختطاف النساء والغلمان، وهذه الأعمال تزداد عامًا بعد عام، كلها نتيجة أو عقوبة عزل شريعة الدين، والرضا بحكم القوانين، التي هي آراء شرعها قوم ﴿لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ﴾ [التوبة: 29] وهي مبنية على عزل الدين عن الدولة، تبيح للناس ما حرم الله عليهم من الربا والزنا وشرب الخمر، أي أنها لا تعاقب على هذه الأعمال، وتحكم بصحة ما يترتب عليها من المال الربوي، والمكتسب من القمار، لكون الرضا بهذه الأعمال المحرمة، هي شريعة المتعاقدين، حتى ولو خالفت شرع الله ورسوله، يقول الله تعالى: ﴿أَمۡ لَهُمۡ شُرَكَٰٓؤُاْ شَرَعُواْ لَهُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمۡ يَأۡذَنۢ بِهِ ٱللَّهُ﴾ [الشورى: 21] ترفع سلطان الولي عن موليته، وتبيح لها أن تتصرف بنفسها كيف شاءت، غير محجور عليها في نفسها، تبيح لكل ملحد كافر أن يجهر بعقيدته وكفره، غير محجور عليه في أمره ولا رأيه.
والشريعة الإسلامية مبنية على حماية الدين والأنفس، والأموال والعقول والأعراض، فهي تهذب الأخلاق وتطهر الأعراق، وتزيل الكفر والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق. وقد قال رجل من حكماء النصارى اسمه هربرت سبنسر قال: إن آداب الأمم وفضائلها التي هي قوام مدنيتها مستمدة كلها من الدين، وقائمة على أساسه، وإن بعض العلماء يحاولون تحويلها عن أساس الدين، وجعلها على أساس العلم والعقل، وإن الأمة التي يجري فيها هذا التحويل لا بد أن تقع في فوضى أدبية لا يعرف عاقبتها ولا يحد ضررها.
ومن عادة محاكم القوانين تمديد الخصومة بالنقض والإبرام، للحصول على ما يترتب عليها من المدعي والمدعى عليه، فمن أجل كثرة الترديد والتلديد يحدث بين الناس القلق والاضطراب.
وليعتبر المعتبر بالبلدان التي أُغلِقت فيها محاكم شريعة الدين، وفُتِحت فيها محاكم القوانين، كيف حال أهلها، وما دخل عليهم من النقص والجهل والكفر وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال، حتى صاروا بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات، لا يعرفون صيامًا ولا صلاة، ولا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون من قبيح، ولا يهتدون إلى حق، لهذا صار المحبون لها هم أشد الناس سخطًا عليها وبغضًا لها؛ لأنهم ذاقوا مرارتها، وعرفوا مضرتها، ولن تجد شخصًا مسلمًا يحبها، أو يرضى بها إلا أن يكون مجبورًا عليها، أو أن له غرضًا بإضرار خصمه.
لقد مكث المسلمون ثلاثة عشر قرنًا يتحاكمون إلى الشريعة الإسلامية، ويعتزون بها، وحكام المسلمين وسلاطينهم يسمون أنفسهم عبيد الشرع، كما قال صلاح الدين الأيوبي لرجل شكى إليه: لقد نصبت قضاة الشرع ليحكموا لك، أو عليك، وما أنا إلا عبد للشريعة أنفذ حكمها.
وقد فتحت محاكم القوانين في البلدان الإسلامية والعربية رغمًا عن أهلها، وذلك أن النصارى لما كانت لهم السلطة والسيطرة على بلدان المسلمين العربية، وكانوا يحبون كون الناس على دينهم، ففتحوا محاكم القوانين بالرغم من المسلمين. ﴿أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠﴾ [المائدة: 50].
وعلى أثر فتح محاكم القوانين في بلدان المسلمين، واستمرار التحاكم إليها، قد وقع بالناس ما حذرهم منه نبيهم ﷺ حيث قال: «وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ شديدًا»[66] وصدق الله ورسوله، وهذا الحديث بمثابة الصبح الساطع، والبرهان القاطع، وخير الناس من وعظ بغيره، فقد رأينا الذين استبدلوا القوانين الوضعية بدلاً عن المحاكم الشرعية، رأيناهم من أسوأ الناس حالاً وأبينهم ضلالاً، وأشدهم اضطرابًا وزلزالاً، وصاروا جديرين بزوال النعم، والإلزام بالنقم؛ لأن دين الإسلام منجاة عن الغرق في الفوضى والشقاق، وبمثابة سفينة نوح، من لجأ إليها نجا، ومن تخلف عنها غرق.
وقد عُرِف بالتجربة أن القوانين الوضعية منصوبة لسلب أموال الناس، وإماتة حقوقهم وحدودهم، فهم معها دائمًا بين إبرام ونقض، وحكم واستئناف، والله تعالى يقول: ﴿وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ﴾ [المائدة: 44].
إن أعداء الإسلام قد شوهوا سمعة الإسلام، وألبسوه أثوابا من الزور والبهتان، والتدليس والكتمان، فوصفوه بالقِدم، وكونه لا يتلاءم الحكم به مع القرن العشرين، وأن شرائعه تكاليف شاقة، وأنه ينبغي عزل الدين عن الدولة، ونحو ذلك، مما يقولون ويأفكون، ﴿كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا﴾ [الكهف: 5].
ولا عجب فإن القائلين بهذا هم أعداء الإسلام، الذين يحاولون هدمه، ودعوة الناس إلى الخروج عليه ﴿يُرِيدُونَ لِيُطۡفُِٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٨﴾ [الصف: 8].
صديقك لا يثني عليك بطائل
فماذا ترى فيك العدو يقول
إن أكبر ما ينقم أعداء الإسلام على الإسلام، كونه يحكم بالقصاص بقتل القاتل، وقطع يد السارق، وجلد شارب الخمر، وينسبون هذه الحدود إلى الوحشية، وهي شكاة قد ذهب عنا عارها، ما هي إلا بمثابة التجريح والتقطيع لبعض أجزاء الجسم في سبيل إصلاح بقيته، لكون المضار الفردية تغتفر في ضمن المصالح العمومية، وإقامة هذه الحدود، هي الدواء الوحيد في تقليل الجرائم التي تغص بها السجون، فهي تغني عن الكثير من الحرس والجنود ﴿وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ﴾ [النور: 2] لكن هؤلاء نسوا ما صنعوا من القنبلة الذرية التي تقضي بفناء الملايين من الآدميين، ما بين شيوخ ونساء وحوامل وبهائم، وتفسد الحرث والنسل، فهذه - والله - هي الأخلاق الوحشية، لا الحدود الدينية.
لقد مكث المسلمون ثلاثة عشر قرنًا ودستورهم القرآن والسنة التي هي سفر السعادة، وقانون العدالة. قد فتحوا المحاكم الشرعية في سائر مشارق الأرض ومغاربها، يتحاكم جميع الناس من المسلمين والكفار إليها؛ لأن شريعة الإسلام كافلة لحل جميع مشاكل العالم، ما وقع في هذا الزمان وما سيقع بعد أزمان. فلا تقع مشكلة ذات أهمية إلا وفي الشريعة الإسلامية طريق حلها، وبيان الهدى من الضلال فيها، كما أنه لا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما يدحضها، ويبين بطلانها، لكنه لما ضعف الإسلام في هذا الزمان، وضعف عمل الناس به، وساء اعتقادهم فيه، صار فيهم منافقون يدعون إلى نبذه، وإلى عدم التقيد بحدوده وحكمه، ويدعون إلى تحكيم القوانين بدله ﴿وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيًۡٔاۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ﴾ [المائدة: 41].
وفات على هؤلاء أن أساطين حكام المسلمين من الصحابة والتابعين، وكذا خلفاء بني أمية، وبني العباس، ونور الدين، وصلاح الدين، وغيرهم من حكام المسلمين الفاتحين، إنما شاع لهم الذكر الجميل والثناء الحسن، والتمكين في الأرض، واتساع الفتوح، كله من أجل تمسكهم بالدين، وتحكيم شرائعه بين الناس أجمعين، وصدق عليهم قوله تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ ٤١﴾ [الحج: 41].
وإنه من الجائز شرعًا والواقع عرفًا، إبدال قاض بقاض أحسن منه، أما إبدال شرع الله الحكيم بشريعة القوانين، فإنه حرام بإجماع علماء المسلمين. وإن حكام المسلمين والزعماء العاقلين، في هذا الزمان لما عرفوا مضار القوانين، وكونها تبعدهم عن الدين وتوقعهم في الفتن والاضطراب، وفي الفوضى والشقاق وفساد الأخلاق، وكونها فرقت شملهم وفلت حدهم وأفسدت مجتمعهم، لهذا أخذوا يتداعون إلى الرجوع إلى أخلاق دينهم، وتحكيم شريعة الإسلام فيما بينهم، يتداعون بهذه عند مناسبة اجتماعهم، وتبادل آرائهم في علاج عللهم، فيما يصلح مجتمعهم، وسيكون لهذا التداعي تجاوب ولو بعد حين، ﴿فَإِن يَكۡفُرۡ بِهَا هَٰٓؤُلَآءِ فَقَدۡ وَكَّلۡنَا بِهَا قَوۡمٗا لَّيۡسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ﴾ [الأنعام: 89] ولن أنسى في هذا المقام، مقالة ذلك الإمام - أي مالك بن أنس - عليه الرحمة والرضوان حيث قال: والله لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.
فهذه نصيحتي لكم، والله خليفتي عليكم ﴿فَسَتَذۡكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمۡۚ وَأُفَوِّضُ أَمۡرِيٓ إِلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَصِيرُۢ بِٱلۡعِبَادِ ٤٤﴾ [غافر: 44].
فأفيقوا من رقدتكم، وتوبوا من زللكم، وتمسكوا بدينكم، ﴿وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾ [الأنفال: 1].
* * *
[64] رواه الحاكم من حديث أبي هريرة قال: خطب المصطفى ﷺ الناس في حجة الوداع... فذكره. [65] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس. [66] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس.