متقدم

فهرس الكتاب

 

(7) نظَام شَرع الإسلام وكونه صَالحًا لكلّ زَمانٍ ومَكان

الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مُبَرَّأة من كل قول واعتقاد لا يحبه الله ولا يرضاه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي اصطفاه من بين خلقه واجتباه. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه ومن والاه. وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فيا أيها الناس اتقوا الله الملك العلام، والتزموا ما أوجبه عليكم من حقوق الإسلام، واعلموا أن نعم الله على العباد كثيرة وأجلها وأفضلها الهداية للإسلام، كما في الحديث: «قد أفلح من هُدِيَ للإسلام ورُزِقَ كفافًا وقنَّعه الله بما آتاه»[48] ﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِۖ [الأنعام: 125] فيفرح بذكره، ويندفع إلى القيام بفرضه ونفله، منشرحًا بذلك صدره، طيبة به نفسه، وإذا حلت هداية الإسلام في قلب إنسان نشطت في مرادها الأجسام ﴿وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُۥ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجٗا [الأنعام: 125] أي ضيقًا بذكر الإسلام، وحرجًا من أمره ونهيه، وحلاله وحرامه، وصلاته وصيامه، فهو ممن قال الله فيهم: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ ٨ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ٩ [البقرة: 8-9] فتجد مَن هذه صفته يألف البطالة، وينفر عن الطاعة، ويبغض أهل الإيمان، ويميل بمحبته إلى مصاحبة أهل الكفر والفسوق والعصيان؛ لأن شبيه الشيء منجذب إليه، والمرء على دين خليله.

إن أكثر الناس في هذا الزمان يتسمون بالإسلام وهم منه بعداء، وينتحلون حبه وهم له أعداء، يعادون بنيه، ويقوضون مبانيه. فتجد أكثرهم يقولون: نشهد أن لا إله إلا الله، ونشهد أن محمدًا رسول الله، ويصلون عليه عند ذكره، ويشهدون أن دينه هو الحق، وهم يتوسلون بالمقبورين ويسألونهم قضاء حوائجهم، وتفريج كربهم، وما شعروا أن هذا هو الشرك الأكبر؛ المحبط لصلاتهم وصيامهم وصالح أعمالهم. وقد أخبر الله بأنه لا أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون، وقد أخبر النبي ﷺ أن أمته تفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة. قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: «مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي»[49].

إن السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابع التابعين، وكذا نور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي، وعماد الدين، وأمثالهم من سلاطين المسلمين، إنما شاع لهم الثناء العاطر، والذكر الجميل، وصاروا في الفتوح والتاريخ هم الصدر المقدم، والسيد المرهوب، كله من أجل تمسكهم بالإسلام، وعملهم بشرائعه على التمام. حيث جعلوا القرآن لهم بمثابة الإمام؛ فقادهم إلى الأمن والإيمان، والسعادة والاطمئنان، فعاشوا في ظله في نعمة باسقة، وعافية واسعة، عرفوا حلاوته حين ذاقوا ثمرته، وقد قيل: من ذاق عرف، ومن حُرِم انحرف. وفي الحديث: «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِىَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً»[50].

فالتكاتف على التمسك بالإسلام والعمل بشرائعه على التمام؛ هو الذي يوحد المسلمين، ويؤلف بين قلوبهم، ويصلح ذات بينهم، ويجعلهم مستعدين للنصر على عدوهم، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: إن الله قد أعزكم بالإسلام، ومهما طلبتم العز في غيره يذلكم.[51] وقد ذكر عباده المؤمنين في كتابه المبين بهذه الوحدة فقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ ١٠٢ وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ [آل‌عمران: 102-103] فحبل الله الإسلام والعمل بالقرآن، فهو حبله المتين، ودينه القويم، وصراطه المستقيم.

الإسلام دين السلام والأمان، دين العزة والقوة والنظام، المطهر للعقول من خرافات البدع والضلالة والأوهام، دين العدل والمساواة بين الشريف والوضيع، والخاص والعام، في الحدود والحقوق والأحكام. لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأسود على أحمر إلا بالطاعة والإيمان.

دين يوجب على المؤمنين أن يكونوا في التعاطف كالإخوان، وفي التعاضد والتساعد كالبنيان ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖ [المائدة: 54]. ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرۡحَمُهُمُ ٱللَّهُۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ ٧١ [التوبة: 71].

دين يحترم الدماء والأموال، ويقول: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»[52]. ويقول: «لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ منه»[53] أي بموجب الرضا التام.

دين من قام به ساد وسعدت به البلاد والعباد، ومن ضيعه سقط في الذل والفساد ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍ [الحج: 18].

دين صالح لكل زمان ومكان، قد نظم حياة الناس أحسن نظام بطريق العدل والإنصاف والإتقان ﴿وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقٗا وَعَدۡلٗاۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ ١١٥ [الأنعام: 115] أي صدقًا في الأقوال، وعدلاً في الأحكام، فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه، وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء، ولما حصل بينهم بغي ولا طغيان ولا اعتداء؛ لأنه ﴿يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرٗا كَبِيرٗا [الإسراء: 9].

لقد مكث المسلمون ثلاثة عشر قرنًا من بعثة النبي ﷺ ودينهم الإسلام، ودستورهم السنة والقرآن؛ لأن الله نصبهما حكمًا عدلاً يقطعان عن الناس النزاع، ويعيدان خلافهم إلى مواقع الإجماع. ولأنه لم يمت رسول الله ﷺ حتى أكمل الله به الدين وأتم به النعمة على المسلمين؛ باع واشترى، وأجر واستأجر، ونكح وطلق، وحارب وسالم. وأنزل الله عليه في حجة الوداع وهو واقف بعرفة: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا [المائدة: 3] وخطب الناس فقال: «لَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلا هَالِكٌ»[54].

فشريعته كاملة شاملة صالحة لحل جميع مشاكل العالم، ما وقع في هذا الزمان، وما سيقع في الزمان القابل، ولا يأتي صاحب باطل بحجة ولا مشكلة من مشكلات العصر إلا وفي القرآن والسنة بيان حلها وطريق الهدى من الضلال فيها.

غير أن أعداء الإسلام قد شوهوا سمعة الإسلام، وألبسوا شريعته أثوابًا من الزور والبهتان، والتدليس والكتمان، فصاروا يعيبونه بالقدم، وأنه لا يتلاءم الحكم به في القرن العشرين، وأنه ينبغي عزل الدين عن الدولة. وأن شريعته تكاليف شاقة. ونحو ذلك مما يقولون ويفترون ﴿كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا [الكهف: 5]. وغير ذلك من الألفاظ المقتضية لصد الناس عنه، وتنفيرهم منه وهم أعداؤه، فلا عجب إذا أكثروا من الحمل عليه والطعن فيه. وقد قيل:
صديقك لا يثني عليك بطائل
فماذا ترى فيك العدو يقول
وإنما ضعف المسلمون في هذه القرون الأخيرة وساءت حالهم، وانتقص الأعداء كثيرًا من بلدانهم من أجل انتشار هذه الأفكار بينهم، ومن أجل ضعف عملهم بالإسلام، فساء اعتقادهم فيه، ومن أجل أنه صار فيهم منافقون يدعون إلى نبذه، وإلى عدم التقيد بحدوده وحكمه، ويدعون إلى تحكيم القوانين الوضعية بدله، ومن أجل أن القوانين تبيح لهم الربا والزنا وشرب الخمور، وتبيح لهم الرقص والخلاعة والسفور، وقد رضوا بها حكمًا بديلاً عن حكم الله عز وجل ﴿أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠ [المائدة: 50] فصاروا بهذه الأعمال من أسوأ الناس حالاً، وأبينهم ضلالاً، وأشدهم اضطرابًا وزلزالاً، وصاروا جديرين بزوال النعم، والإلزام بالنقم، وصدق عليهم قول النبي ﷺ: «مَا نَقَضَ قَوْمٌ عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِى أَيْدِيهِمْ وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ»[55] وقد وعد الله - ووعده حق وصدق - كل من اتبع هداه وتمسك بدينه وشرعه بألا يضل ولا يشقى في الدنيا، ومن أعرض عن ذكره وترك طاعة ربه وشرعه فإن له معيشة ضنكًا في الدنيا ويحشر يوم القيامة أعمى. والمشاهدة في الحاضرين تكفي لتصديق قواعد الدين.

إنه من الجائز إبدال قاض بدل قاض، وأمير بدل أمير، أما إبدال شرع الله الحكيم بالقوانين فإن هذا يعد من الضلال المبين. يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ [المائدة: 44]. ويرحم الله الإمام مالك حيث يقول: والله لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.

ذلك بأنه لما انتشرت الفتوح الإسلامية وامتد سلطان المسلمين على الأقطار الأجنبية؛ لم يقصروا نفوسهم على استلذاذ الترف ورخاء العيش، وتزويق الأبنية فحسب، بل عكفوا جادين على تمهيد قواعد الدين، وهدم قواعد الملحدين، وترقية العلوم الإسلامية، ونشر اللغة العربية.

فاستنبطوا الأحكام وبينوا للناس الحلال والحرام، وكشفوا عن قلوبهم خرافات الضلال والأوهام فرَقَتْ حضارة الإسلام رقيًّا لا يماثَل ولا يضاهَى ولا يضام. فاختطوا المدن، وأنشؤوا المساجد، وأشادوا المكارم والمفاخر، فأوجدوا حضارة جديدة نضرة، جمعت بين الدين والدنيا. أسسوا قواعدها على الطاعة، فدامت بقوة الاستطاعة. وغرسوا فيها الأعمال البارّة فأينعت لهم بالأرزاق الدارة. أمدهم الله بالمال والبنين وجعلهم أكثر أهل الأرض نفيرًا.
آثارهم تنبيك عن أخبارهم
حتى كأنك بالعيان تراهم
تالله لا يأتي الزمان بمثلهم
أبدًا ولا يحمي الثغور سواهم
ثم دخل النقص حين ضعف عملهم بشرائع الإسلام، وحين أعرضوا عن هداية القرآن. وإنه ما من بلد يكفر أهلها بالشرائع الإسلامية، ويتركون الصلاة الفرضية، وسائر الطاعات المرضية، إلا فتح عليها من الشر كل باب، وصب عليها ربك سوط عذاب ﴿وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٢٥ [الأنفال: 25].

* * *

[48] أخرجه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه من حديث عمرو بن العاص بلفظ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا». [49] أخرجه ابن بطة في الإبانة من حديث عبد الله بن عمرو. [50] رواه مسلم من حديث العباس بن عبد المطلب. [51] أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث عمر. [52] متفق عليه من حديث جابر. [53] أخرجه الدارقطني من حديث أنس بن مالك. [54] أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم من حديث العرباض بن سارية.. [55] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس.