متقدم

فهرس الكتاب

 

(6) فضل الإسلام ومَا يشتمل عَليه من المحَاسن والمصَالح العظام

الحمد لله الذي وفق من أراد هدايته إلى الإسلام، فانقادت للعمل به الجوارح والأركان. وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة من قال: ربي الله ثم استقام. وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله سيد الأنام. اللهم صل على نبيك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه البررة الكرام، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن الله سبحانه بفضله ورحمته، قد أنعم على عباده بنعم كثيرة، وأجلها وأعظمها الهداية إلى الإسلام، والثبات عليه حتى يلقوا ربهم. كما في الحديث: «قد أفلح من هُدِيَ للإسلام، ورُزِقَ كفافًا، وقنعه الله بما آتاه»[43]. ومن دعاء النبي ﷺ: «اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْته مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ والسنة، وَمَنْ تَوَفَّيْته مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ»[44]. ﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِۖ [الأنعام: 125]. فيفرح بذكره، ويندفع إلى القيام بفرضه ونفله، طيبة بذلك نفسه، منشرحًا به صدره ﴿أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٖ مِّن رَّبِّهِۦ [الزمر: 22].

﴿ وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُۥ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَيِّقًا [الأنعام: 125] بذكر الإسلام،﴿ حَرَجٗا من أمره ونهيه وصلاته وصيامه، وحلاله وحرامه. يراه بمثابة التكاليف الشاقة عليه، ينفر عن الطاعة، ويألف البطالة، يبغض أهل الإيمان، ويميل بطبعه ومحبته إلى أهل الكفر والفسوق والعصيان؛ لأن شبيه الشيء منجذب إليه، والمرء على دين خليله وجليسه.
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا
تقييده بأوامر ونواهي
إن أكثر الناس في هذا الزمان يتسمون بالإسلام، وهم منه بعداء، وينتحلون حبه وهم له أعداء، يعادون بنيه، ويقوضون مبانيه، لم يبق معهم منه سوى محض التسمي به، والانتساب إليه بدون عمل به، ولا انقياد لحكمه، فترى الكثير منهم لا يصلون الصلوات المفروضة، ولا يؤدون الزكاة الواجبة، ولا يصومون رمضان، ﴿ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ [التوبة: 29]، من الربا وشرب الخمر،﴿ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ [التوبة: 29]، ويحبون أن يعيشوا في الدنيا عيشة البهائم، ليس عليهم أمر ولا نهي، ولا صلاة ولا صيام، ولا حلال ولا حرام، فهؤلاء هم العادمون للدين، والمعادون لأهله، فهم جديرون بكل شر، بعيدون عن كل خير. وعادم الخير لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه؛ لأن دين الإسلام يهذب الأخلاق، ويطهر الأعراق، ويزيل الكفر والشقاق والنفاق، وسوء الأخلاق، وإنما تنجم الأفعال الفظيعة، والأعمال الشنيعة، من العادمين للدين.

وليعتبر المعتبر بالبلدان التي قوضت منها خيام الإسلام، وترك أهلها فرائض الصلاة والزكاة والصيام، واستباحوا الجهر بمنكرات الكفر والفسوق والعصيان، كيف حال أهلها؟! وما دخل عليهم من النقص والجهل والكفر، وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال، حتى صاروا بمثابة البهائم، يتهارجون في الطرقات، لا يعرفون صيامًا ولا صلاة، ولا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون عن قبيح، ولا يهتدون إلى حق، قد ضرب الله قلوب بعضهم ببعض؛ لأن للمنكرات ثمرات، ولترك الطاعات عقوبات ﴿وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا قَرۡيَةٗ كَانَتۡ ءَامِنَةٗ مُّطۡمَئِنَّةٗ يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغَدٗا مِّن كُلِّ مَكَانٖ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ ١١٢ [النحل: 112].
هو الإسلام ما للناس عنه
إذا ابتغوا السلامة من غناء
إذا انـصرفت شعوب الأرض عنه
فَـبَشِّرْ كل شعب بالشقاء
نظام العدل يمنع كل شر
وطب الشـرع ينزع كل داء
وقد أشار النبي ﷺ إلى ذلك؛ يقول: «إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلاَقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِى الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لاَ يُحِبُّ وَلاَ يُعْطِى الدِّينَ إِلاَّ لِمَنْ أَحَبَّ فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ»[45].

والدين - هو هذا السمح السهل الموصل بمن تمسك به إلى سعادة الدنيا والآخرة - ليس بحرج ولا شاق، ولا يقيد عقل مسلم عن الحضارة، ولا التوسع في التجارة المباحة، بل هو سلم النجاح، وسبب الفلاح. رأسه: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وعموده: الصلاة، وبقية أركانه: الزكاة، والصيام، وحج بيت الله الحرام.

وقد جعل الله هذه الأركان بمثابة البنيان للإسلام، وبمثابة الفرقان بين المسلمين والكفار، والمتقين والفجار، وبمثابة محك التمحيص لصحة الإيمان، بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان. وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان؛ لأن الله سبحانه لم يكن ليذر الناس على حسب ما يدعونه بألسنتهم، بحيث يقول أحدهم: أنا مسلم أنا مؤمن، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، بدون اختبار لهم بالأعمال التي تصدق إسلامهم أو تكذبه، يقول الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ ٢ [العنكبوت: 2] أي لا يُختبَرون ولا يُمتحَنون على صحة ما يدعون ﴿وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ أي اختبرنا الأمم قبلهم بالشرائع من فعل الواجبات وترك المحرمات ﴿فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ أي في دعوى إيمانهم حيث قاموا بواجبات دينهم فصدق قولهم فعلهم ﴿وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ [العنكبوت: 3] أي الذين قالوا: آمنا بأفواههم، ولم تؤمن قلوبهم، ولم تنقد للعمل به جوارحهم، وصار حظهم من الإسلام هو محض التسمي به، والانتساب إليه، بدون عمل به، ولا انقياد لحكمه.

يقول الله تعالى: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ ٨ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ٩ [البقرة: 8-9] فاعملوا بإسلامكم تُعرَفوا به، وادعوا الناس إليه، تكونوا من خير أهله، فإن للإسلام صُوًى ومنارًا كمنار الطريق يُعرَف به صاحبه، وأنه لا إسلام بدون عمل.

وقد روى الإمام أحمد رحمه الله - من حديث أنس - أن النبي ﷺ قال: «الإِسْلاَمُ عَلاَنِيَةٌ وَالإِيمَانُ فِى الْقَلْبِ». ومعنى كون الإسلام علانية أن المسلم على الحقيقة لا بد أن يظهر إسلامه علانية للناس، بحيث يرونه يصلي الصلوات الخمس المفروضة، ويؤدي الزكاة الواجبة، ويصوم رمضان، فيظهر إسلامه علانية للناس، بحيث يشهدون له بموجبه. والناس شهداء الله في أرضه. وهذا معنى قول العلماء: إن الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة.

أما من يتسمى بالإسلام وهو لا يصلي، ولا يؤدي الزكاة الواجبة، ولا يصوم رمضان، ولا يصدق بالبعث بعد الموت للجزاء على الأعمال، ولا يصدق بالجنة والنار، فلا شك أن إسلامه مزيف مغشوش لا حقيقة له، بل هو إسلام باللسان، يكذبه الحس والوجدان، والسنة والقرآن. فمثل إسلامه كمثل البيت الخرب المتساقطة غرفه وعمدانه. وأكثر الناس لا يعرفون الإسلام على حقيقته، وإنما يعرفونه باسمه فقط. فالإسلام قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان.

إن دين الإسلام هو دين الفطرة السليمة، والطريقة المستقيمة، يجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، وبين مصالح الروح والجسد، فهو دين سعادة وسيادة. فمن ادعى عزل الدين عن الدولة فقد كذب.

فهو الدين الذي شرعه الله لعباده، وارتضاه دينًا للبشر كلهم: عربهم وعجمهم. لا دين لهم سواه، يقول الله سبحانه: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا [المائدة: 3] وقد «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِىَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا»[46]. ثبت بذلك الحديث. وقال سبحانه: ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُ [آل‌عمران: 19] وقال: ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥ [آل‌عمران: 85]. إن دين الإسلام هو دين السلام والأمان،، دين العزة والنظام، المطهر للعقول من خرافات البدع والضلال والأوهام. دين من قام به ساد، وسعدت به البلاد والعباد، ومن ضيعه سقط في الذل والفساد، ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍ [الحج: 18].

دين يحترم الدماء والأموال ويقول: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ»[47] فدين الإسلام صالح لكل زمان ومكان، قد نظم أحوال الناس أحسن نظام، بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان. فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه، وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء لأنه يهدي للتي هي أقوم.

إن أكثر الأمم في هذا الزمان لما خسروا الإسلام، ولم يكن لهم حظ ولا نصيب من العمل بالسنة والقرآن، أصبحوا فوضى حيارى، ليس لهم دين يعصمهم، ولا شريعة تنظمهم، فصاروا في أخلاق البهائم، يعتذرون بأنه ليس عليهم أمر ولا نهي، ولا صلاة ولا صيام، ولا حلال ولا حرام ﴿أَمۡ تَحۡسَبُ أَنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَسۡمَعُونَ أَوۡ يَعۡقِلُونَۚ إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ سَبِيلًا ٤٤ [الفرقان: 44].

إن أعداء الإسلام قد شوهوا سمعة الإسلام، وألبسوه أثوابًا من الزور والبهتان، ومن التدليس والكتمان، حيث وصفوه بأن فرائضه تكاليف شاقة، وأن حدوده آصار وأغلال، وأنه لا يتلاءم الحكم به مع القرن العشرين. ونحو ذلك مما يقولون: ﴿كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا [الكهف: 5].

فهذه الأقوال الكاذبة الخاطئة إنما خرجت من المستشرقين، أعداء الإسلام والمسلمين، قصدوا بها صد الناس عن الدين، لأنهم لم يعرفوا الإسلام، ولم يذوقوا حلاوته. من ذاق منه عرف، ومن حُرِم انحرف، فمن جهل الإسلام عابه وعاداه، وقد قيل:
صديقك لا يثني عليك بطائل
فماذا ترى فيك العدو يقول
لقد مكث المسلمون ثلاثة عشر قرنًا يحكمون بالشريعة الإسلامية الكفيلة بحل مشاكلهم، ما وقع في هذا الزمان، وما سيقع بعد أزمان. عملاً بقوله سبحانه: ﴿وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَ [المائدة: 49].

فكان الحكام المسلمون يحكمون بالقصاص، وقطع يد السارق، ويجلدون الزاني والقاذف وشارب الخمر، ولا تأخذهم في الله لومة لائم. فكانت لهم العزة والقوة والتمكين في الأرض، وهذه الحدود، وإن استوحش الناس منها واستشنعوها، لكنها بمثابة العلاج الوحيد لتقليل الجرائم، فهي العلاج الشافي النافع لعللهم، وإصلاح مجتمعهم ﴿قُلۡ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞۚ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٞ وَهُوَ عَلَيۡهِمۡ عَمًى [فصلت: 44]؛ لأن من لا يكرم نفسه لا يكرم. ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍ [الحج: 18]. والمضار الجزئية الفردية تُغتفَر في ضمن المصالح العمومية.

خرج الصحابة رضي الله عنهم من جزيرتهم والقرآن بأيديهم، يدعون الناس إليه، ويفتحون به ويسودون. فهو السبب الأعظم الذي نهضوا به، وفتحوا وسادوا وشادوا، وبلغوا المبالغ كلها من المجد والرقي، وتحولوا بهدايته من الفرقة والاختلاف، إلى الوحدة والإتلاف، ومن الجفاء والبداوة والهمجية، إلى الحضارة والعلم والمدنية، واستبدلوا بأرواحهم الجافية الجاهلية أرواحًا جديدة دينية، صَيَّرتهم إلى ما صاروا إليه من عز ومنعة ومجد وعلم وعرفان. وقد أنجزهم الله ما وعدهم به في القرآن بقوله: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡ‍ٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ٥٥ [النور: 55]. وصدق الله وعده، فكانوا هم ملوك الأمصار، بعد أن كانوا عالة في القرى والقفار، يعز على أحدهم شبع جوعته، وستر عورته. ولما تدفقت جحافل الصحابة المظفرة على بلاد الأكاسرة، وعلم رستم قائد الفرس الأعلى أنها الهزيمة لا محالة، أرسل إلى سعد بن أبي وقاص، أن أَخْبِرونا بالذي تريدون منا، وما الغرض الذي أقدمكم على بلادنا؟ فكان جوابهم الذي لم يختلف أن قالوا: نريد أن نُخرِج الناس من جور الأديان إلى عدل الإسلام، وأن نخرجهم من عبادة المخلوق إلى عبادة الله وحده، وأن نخرجهم من ضيق الدنيا إلى سعتها.

فهذا صنيع سلف المسلمين الكرام، من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان. قد جاهدوا عليه بالحجة والبيان، والسنة والقرآن، حتى اتسعت حضارة الإسلام اتساعًا عظيمًا، لا يماثل ولا يضاهى ولا يضام. ذلك بأنها لما اتسعت فتوحهم الإسلامية، وامتد سلطانهم على الأقطار الأجنبية، لم يقصروا نفوسهم على استلذاذ الترف ورخاء العيش، وتزويق الأبنية وخزن النقود فحسب، بل عكفوا جادين على تمهيد قواعد الدين، وهدم قواعد الملحدين، ونشر العلوم الإسلامية، والأحكام الشرعية، وتعميم اللغة العربية، فاختطوا المدن، وأنشؤوا المساجد، ونشروا المكارم والمفاخر وأزالوا المنكرات والخبائث، فأوجدوا حضارة نضرة، جمعت بين الدين والدنيا. أسسوا قواعدها على الطاعة، فدامت لهم بقوة الاستطاعة، وغرسوا فيها الأعمال البارة، فأينعت لهم بالأرزاق الدارة. أمدهم الله بالمال والبنين، وجعلهم أكثر أهل الأرض نفيرًا.

وإنما ضعف المسلمون في هذه القرون الأخيرة، وساءت حالهم وانتقص الأعداء بعض بلدانهم، كل ذلك من أجل أنه ضعف عملهم بالإسلام، وساء اعتقادهم فيه، وصار فيهم منافقون، يدعون إلى نبذه، وإلى عدم التقيد بحدوده وحكمه، ويدعون إلى تحكيم القوانين الوضعية بدله، ولأجله صاروا من أسوأ الناس حالاً، وأبينهم ضلالاً، وأشدهم اضطرابًا وزلزالاً، وصاروا جديرين بزوال النعم، والإلزام بالنقم؛ لأن الله سبحانه قال: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡ [الرعد: 11].

واقتضت حكمة الله المشاهدة بطريق الاعتبار والتجربة، أنه ما ظهر الإلحاد والزندقة في بلد فكفر أهلها بالشريعة الإسلامية، وتركوا الصلاة والزكاة والصيام، والتكاليف الشرعية، واستباحوا المنكرات، وشرب المسكرات الوبيئة، إلا فتح عليهم من الشر كل باب، وصب عليهم ربك سوط عذاب ﴿وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٢٥ [الأنفال: 25].

فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وتمسكوا بدينكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.

* * *

[43] رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه من حديث عمرو بن العاص بلفظ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا». [44] رواه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة. [45] رواه الإمام أحمد من حديث ابن مسعود. [46] أخرجه مسلم من حديث العباس بن عبد المطلب. [47] رواه مسلم من حديث جابر بن عبد الله.