(2) الإسراء والمعراج وبيَان مُعْجزات الأنبيَاء
الحمد الله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأشهد أن لا إله إلا الله، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله الصادق المأمون. اللهم صل على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فقد قال الله سبحانه: ﴿نَحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ أَحۡسَنَ ٱلۡقَصَصِ بِمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلۡغَٰفِلِينَ ٣﴾ [يوسف: 3].
إن هذا القرآن الكريم يقص علينا خبر من كان قبلنا، ونبأ ما سيكون بعدنا، وهو الحكم العدل فيما بيننا.
يذكر سبحانه بأنه أرسل رسله بالبينات، وبالبراهين والمعجزات، يدعون الناس إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة ما سواه، وليحكموا بين الناس بالقسط. فمن الناس من استجاب لدعوتهم، وانقاد لطاعتهم، وصدق نبوتهم ومعجزات آياتهم. ومن الناس من بغى وطغى، فلم يستجب لداعي الهدى، وأصر على عصيانهم ولم يتعظ بما يراه من معجزات نبوتهم ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتۡ عَلَيۡهِمۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ ٩٦ وَلَوۡ جَآءَتۡهُمۡ كُلُّ ءَايَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِيمَ ٩٧﴾ [يونس: 96-97] فهؤلاء لما عصوا رسله، وكذبوا بآياته، واستكبروا عن عبادته ﴿وَٱتَّبَعُوٓاْ أَمۡرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٖ﴾ [هود: 59] عوقبوا بما تسمعون من قوله سبحانه: ﴿فَكُلًّا أَخَذۡنَا بِذَنۢبِهِۦۖ فَمِنۡهُم مَّنۡ أَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِ حَاصِبٗا وَمِنۡهُم مَّنۡ أَخَذَتۡهُ ٱلصَّيۡحَةُ وَمِنۡهُم مَّنۡ خَسَفۡنَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ وَمِنۡهُم مَّنۡ أَغۡرَقۡنَاۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظۡلِمَهُمۡ وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ ٤٠﴾ [العنكبوت: 40].
إن الناس في المعجزات والأمور المغيبات على قسمين:
أحدهما: المؤمنون الذين آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين، فهم يؤمنون ويصدقون بكل ما أخبر الله به في كتابه، من معجزات أنبيائه، تصديقًا جازمًا، سواء أدركوا سر معرفته بعقولهم أو لم يدركوه؛ لأن عدم علمهم بالشيء ليس دليلاً على عدمه، فقد أتت الرسل بمحارات العقول، فهم الذين يؤمنون بالغيب على صفة ما أثبته القرآن ويقولون: آمنا بالله وما جاء من الله على مراد الله.
لأن المسلم الحق متى آمن بالله القادر على كل شيء، والذي إذا أراد أمرًا قال له: كن. فيكون، فإنه لن يعسر عليه التسليم لكل ما أخبر الله به في كتابه من معجزات أنبيائه، فقد أجرى الله سبحانه خوارق العادات في خلقه؛ من معجزات أنبيائه التي تجري على خلاف السنن المطردة والمعروفة المألوفة عند الناس، مما يدل على قدرة الرب الذي أوجدها، وصدق النبي الذي جاء بها. وإنما سميت معجزة لكون الناس يعجزون عن الإتيان بمثلها، لكونها من صنع الله لا من صنع الرسول ولا البشر. ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بَِٔايَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ لِكُلِّ أَجَلٖ كِتَابٞ﴾ [الرعد: 38] وتسمى الآية والبينة والبرهان. ولكل نبي معجزة تناسب حالة قومه ومجتمعهم.
والحكمة في المعجزات أنها تعزيز دين الأنبياء، وتستدعي قبول دعوتهم والإيمان بهم.
فمن المعجزات: خلق آدم من تراب ثم قال له: كن. فكان فصار بشرًا سويًّا. وكخلق حواء من ضلع آدم، وخلق عيسى من أم بلا أب. ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَۖ خَلَقَهُۥ مِن تُرَابٖ ثُمَّ قَالَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ٥٩﴾ [آلعمران: 59]
ومثله عصا موسى؛ وهي عود من الشجر يتوكأ عليها، ويهش بها على غنمه، وإنما صارت آية ومعجزة حين أمره ربه أن يلقيها، فقال سبحانه: ﴿فَأَلۡقَىٰهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٞ تَسۡعَىٰ ٢٠ قَالَ خُذۡهَا وَلَا تَخَفۡۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا ٱلۡأُولَىٰ ٢١﴾ [طه: 20-21] فإنه حين ألقاها صارت ثعبانًا عظيمًا بإذن الله، ولما أمره ربه أن يأخذها صارت عصًا كعصا أحدنا في يده.
وكمعجزة الريح لنبي الله سليمان عليه السلام حين قال الله: ﴿فَسَخَّرۡنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجۡرِي بِأَمۡرِهِۦ رُخَآءً حَيۡثُ أَصَابَ ٣٦ وَٱلشَّيَٰطِينَ كُلَّ بَنَّآءٖ وَغَوَّاصٖ ٣٧ وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي ٱلۡأَصۡفَادِ ٣٨ هَٰذَا عَطَآؤُنَا فَٱمۡنُنۡ أَوۡ أَمۡسِكۡ بِغَيۡرِ حِسَابٖ ٣٩﴾ [ص: 36-39] فكان يبسط البسط، ويجلس عليها هو وجميع جنوده على كثرتهم، فتنقلهم غدوها مسيرة شهر، ورواحها مسيرة شهر.
وكمعجزة نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام حين أنطقه الله في المهد: ﴿قَالَ إِنِّي عَبۡدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ ٱلۡكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّٗا ٣٠ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيۡنَ مَا كُنتُ وَأَوۡصَٰنِي بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيّٗا ٣١ وَبَرَّۢا بِوَٰلِدَتِي وَلَمۡ يَجۡعَلۡنِي جَبَّارٗا شَقِيّٗا ٣٢﴾ [مريم: 30-32]. وكان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله.
وأنه لولا هذا القرآن المنزل على محمد عليه أفضل الصلاة والسلام - يقص علينا خبر معجزات الأنبياء التي تعزز دينهم، وتستدعي قبول دعوتهم - لكَذَّب الناس بهم، وبالكتب النازلة عليهم.
﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَكۡثَرَ ٱلَّذِي هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ ٧٦ وَإِنَّهُۥ لَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ ٧٧﴾ [النمل: 76-77].
فالتصديق بهذه المعجزات هي عقيدة المؤمنين، ومن كذب بها فقد كفر.
الصنف الثاني: الماديون الطبيعيون الذين ينسبون كل شيء إلى الطبيعة؛ بمعنى أنها المُوجِدة لها من دون الله - حاشا لله - فهم ينكرون ويكذبون بكل ما لم يدركوه بحواسهم، فينكرون وجود الرب، ويكذبون بالملائكة، ويكذبون بالبعث بعد الموت، ويكذبون بالجنة والنار.
وفيهم أنزل الله: ﴿بَلۡ كَذَّبُواْ بِمَا لَمۡ يُحِيطُواْ بِعِلۡمِهِۦ وَلَمَّا يَأۡتِهِمۡ تَأۡوِيلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَٱنظُرۡ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلظَّٰلِمِينَ ٣٩ وَمِنۡهُم مَّن يُؤۡمِنُ بِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن لَّا يُؤۡمِنُ بِهِۦۚ وَرَبُّكَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُفۡسِدِينَ ٤٠﴾ [يونس: 39-40].
فهم يبادرون إلى إنكار كل ما سمعوه من الخوارق والمعجزات، والأمور المغيبات، فهذا دأبهم في نظرياتهم العلمية. ومن لا يؤمن إلا بما يدركه بحواسه، فإنه يعتبر كافرًا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله.
أما معجزات نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فإنها كثيرة جدًّا. ولسنا بصدد إحصائها في هذا المقام الضيق، فمنها: نبع الماء من بين أصابعه، ومنها تكثير الطعام القليل حتى يشبع منه الخلق الكثير، ومنها قصة الأعرابية صاحبة السطيحتين- أي الراويتين- وحاصلها ما رواه البخاري في صحيحه عن عمران بن الحصين قال: «كنا في سفر مع النبي ﷺ فاشتكى إليه الناس من العطش، فدعا عليًّا وفلانًا، فقال: «اذهبا، فابتغيا الماء» فانطلقا فلقيا امرأة بين سطيحتين من ماء على بعير لها. فقالا لها: أين الماء؟ فقالت: عهدي بالماء أَمْسِ هذه الساعة. فقالا لها: انطلقي. قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله. قالت: الذي يقال له: الصابئ؟ قالا: هو الذي تعنين. فجاءا بها إلى رسول الله، ودعا النبي ﷺ وأطلق العزالي[9]ونودي في الناس: اسقوا، واستقوا. فملؤوا قربهم وقدورهم وأوانيهم، وأعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء فقال: «اذهب فأفرغه عليك». وايم الله لقد أقلع عنها، وإنه ليخيل إلينا أنها أشد ملاءة منها حين ابتدأها. وقال لها رسول الله: «تَعْلَمِينَ مَا رَزِئْنَا[10] مِنْ مَائِكِ شَيْئًا، وَلَكِنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي أَسْقَانَا». فأتت أهلها، وقالوا: ما حبسك عنا؟ قالت: العجب؛ لقيني رجلان، فذهبا بي إلى هذا الذي يقال له: الصابئ. ففعل كذا وكذا، فوالله إنه لأسحر ما بين هذه وهذه، تعني السماء والأرض، أو إنهلرسول الله حقًّا. وبسبب هذه المعجزة أسلم قومها».
وكان العرب يسمون الرسول الصابئ؛ من أجل أن الناس يصبون إليه؛ أي يميلون إليه ويدخلون في دينه. ومثله ما جرى له مع شاة أم معبد وكانت عجفاء هزيلة لا تطيق المشي مع الصحاح، فمسح ضرعها، وسمى الله عليها؛ فتفاجت، واجترت، ودرت، ثم انفجرت باللبن[11].
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها
فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
لكن المعجزة الخالدة الدائمة إلى يوم القيامة هي معجزة القرآن الحكيم، الذي تحدى الله به جميع الأولين والآخرين، على أن يأتوا بسورة من مثله، فعجزوا مع بلاغتهم، وشدة فصاحتهم ﴿قُل لَّئِنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٖ ظَهِيرٗا ٨٨﴾ [الإسراء: 88].
فهو معجزة الدهور، وآية العصور، وسفر السعادة، ودستور العدالة، وقانون الفريضة والفضيلة، والواقي من الرذيلة. وفي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «إِنَّهُ مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أُوْتِيَ مِنْ الْآيَاتِ مَا آمَنَ بِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِى أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَىَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[12].
الله أكبر إن دين محمد
وكتابه أقوى وأقوم قيلا
إن معجزات سائر الأنبياء قد وقعت بوقتها، ومضت بمُضِيِّ زمنها، بحيث لا يشاهدها الناس الآن، غير أن المسلمين يؤمنون بها بدون أن يشاهدوها، تبعًا لإيمانهم بسائر المغيبات التي أخبر الله بها.
وإنما المعجزة الخالدة الدائمة، والمشاهدة بالأبصار إلى يوم القيامة، هي معجزة القرآن الذي فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم. يقول الله سبحانه: ﴿كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيۡكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ مَا قَدۡ سَبَقَۚ وَقَدۡ ءَاتَيۡنَٰكَ مِن لَّدُنَّا ذِكۡرٗا ٩٩ مَّنۡ أَعۡرَضَ عَنۡهُ فَإِنَّهُۥ يَحۡمِلُ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وِزۡرًا ١٠٠﴾ [طه: 99-100]. إذ لا يمكن إثبات معجزات الأنبياء السابقين إلا عن طريق القرآن الكريم النازل على محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم. فمن هذه المعجزات معجزة الإسراء والمعراج، قال تعالى: ﴿سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ ١﴾ [الإسراء: 1].
فاستفتح سبحانه خبر هذه المعجزة العظمى بقوله: ﴿سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ﴾ . وكان من هدي النبي ﷺ أنه إذا أعجبه شيء إما سبح، وإما كبر آخذًا من القرآن. وقد استبدل الناس بهما التصفيق بالأيدي! والتسبيح والتكبير خير لهم لو كانوا يعلمون. والصحيح من أقوال العلماء أنه أُسرِيَ برسول الله ﷺ بروحه وجسده، لكون المقام، وفحوى المقال، ينبئ عن معجزته العظمى في خبر الإسراء.
فأثبت القرآن أن الله أسرى بعبده ورسوله محمد ﷺ ليلاً من المسجد الحرام. فقيل: أُسرِيَ به من الحجر، وهو الصحيح. وقيل: من بيت أم هانئ. إلى المسجد الأقصى الذي هو بيت المقدس. وهذا الإسراء معجزة عظمى خارقة للعادة، والمعجزة كاسمها بحيث يعجز الناس عن معارضتها والإتيان بمثلها وهي تدل على صدق نبوة من أتى بها.
وذكر أنه أُتي بالبراق - وهو دون الفرس وفوق الحمار - وسمي براقًا لأنه مشتق من البرق في سرعته، ليريه من آياته، وعجائب مخلوقاته في المسجد الأقصى، وفي السماء. وأنه من بعد وصوله إلى بيت المقدس صلى بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وصلاته بهم إنما هي بأرواحهم وإلا فإنهم قد دُفِنوا في الأرض، ويحتمل أنهم تشكلوا له بصورهم في الدنيا كما أخبر عن بعض أوصافهم، ومنه قوله في يوسف وأنه قد: «أعطي شطر الحسن» [13]. أي الجمال، كما كان جبريل يتشكل بصورة بعض الرجال.
ثم إنه عُرِجَ به إلى السماء في صحبة جبريل عليه السلام، فاستفتح السماء الدنيا، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمد. قالوا: أأرسل إليه؟ قال: نعم. فقالوا: مرحبًا به فنعم المجيء جاء. ثم استفتح كل سماء مثل هذا، حتى انتهى إلى سدرة المنتهى. وأخبر أنه رأى الأنبياء في صورهم ومنازلهم من السماء. وفرض الله عليه الصلوات الخمس، مع فرض الوضوء على القول الصحيح. فقال: «هِيَ خَمْس، وَهِيَ خَمْسُونَ»[14] أي في مضاعفة الأجر.
والصحيح من أقوال العلماء، ومن نصوص القرآن والسنة، أن الرسول لم ير ربه تلك الليلة، لكون رؤية الرب مستحيلة في الدنيا كما حكى الله عن نبيه موسى. ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِيٓ أَنظُرۡ إِلَيۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِي﴾ [الأعراف: 143].
يقول الله سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡيًا أَوۡ مِن وَرَآيِٕ حِجَابٍ أَوۡ يُرۡسِلَ رَسُولٗا فَيُوحِيَ بِإِذۡنِهِۦ مَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ عَلِيٌّ حَكِيمٞ ٥١﴾ [الشورى: 51].
ولما سئل النبي ﷺ: هل رأيت ربك؟ قال: «نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ؟»[15] أي حال دون رؤيته نور. قالت عائشة: من حدثكم أن رسول الله رأى ربه فقد أعظم الفرية عليه. ثم استدلت بقوله: ﴿لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَهُوَ يُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ ١٠٣﴾ [الأنعام: 103]. [16]. وأما قوله سبحانه: ﴿لَقَدۡ رَأَىٰ مِنۡ ءَايَٰتِ رَبِّهِ ٱلۡكُبۡرَىٰٓ ١٨﴾ [النجم: 18]. فإنه جبريل حين رآه في صورته التي خلقه الله عليها بمنظر عظيم هائل.
وهذا الإسراء والمعراج حصلا في ابتداء نبوته، وليس عندنا دليل يثبت تعيين يومه أو شهره بطريق صحيح.
فالقول بأنه في شهر رجب، هو قول لا صحة له، ولا يستند إلى دليل، ولم يكن من عادة الصحابة ولا التابعين التجمع للإسراء والمعراج، وليس له عندهم أي عمل أو اهتمام، وإنما يؤمنون بما قص الله في القرآن من خبره. وما يفعله بعض الناس في هذا الزمان، وفي بعض البلدان، من التجمعات للإسراء، والمولد، وليلة النصف من شعبان، كله من البدع المحدثة، التي ما أنزل الله بها من سلطان، وإنما سميت البدعة بدعة لكونها زيادة في الدين، ومن عادة البدعة التمدد والزيادة كل عام.
والحكمة من ذكر الإسراء في القرآن، هو الإيمان به، والعمل بما أوجب الله من المحافظة على الصلوات الخمس التي افترضها، فهي أول ما افترض من الشرائع، كما أنها آخر ما يفقد من دين كل إنسان. فاقتصاد في سُنة خير من اجتهاد في بدعة، ومحبة الرسول ﷺ تظهر حقيقتها في طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع.
فقول بعضهم: إنها بدعة حسنة. خطأ، فليس في الإسلام بدعة حسنة، بل كل بدعة ضلالة وكل بدعة سيئة.
وقد وردت أحاديث في أمور رآها رسول الله ﷺ في الإسراء، منها قوله: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِى رِجَالاً تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلاَءِ قَالَ هَؤُلاَءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتك الذين يقولون ما لا يفعلون». رواه البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد.
قال: «ورأيت رجالاً على أقبالهم رقاع وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الأنعام، ويأكلون الضريع والزقوم ورضف جهنم. فقلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين منعوا زكاة أموالهم وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون».
قال: «ورأيت قومًا يزرعون في يوم، ويحصدون في يوم. فإذا حصدوا عاد كما كان. فقلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، فما أنفقوا من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين». رواه البزار من حديث أبي هريرة، وفي سنده ضعف.
فهذا ملخص حديث الإسراء برسول الله ﷺ يؤمن به المؤمنون، ويكذب به الزنادقة الملحدون ﴿وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمۡ عَمَلُكُمۡۖ أَنتُم بَرِيُٓٔونَ مِمَّآ أَعۡمَلُ وَأَنَا۠ بَرِيٓءٞ مِّمَّا تَعۡمَلُونَ ٤١﴾ [يونس: 41].
وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين
[9] العزالي جمع عزلاء، وهو مصب الماء من القربة ونحوها. [10] ما رزئنا: أي ما أنقصنا. [11] أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث حبيش بن خويلد. [12] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [13] أخرجه الإمام أحمد من حديث أنس. [14] حديث الإسراء والمعراج حديث متفق عليه من حديث أبي ذر. [15] رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر. [16] رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه.