متقدم

فهرس الكتاب

 

(1) مَولد الرّسول ﷺ وعموم بركة بعثته

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ومنَّ علينا ببعثة محمد عليه الصلاة والسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة من قال: ربي الله. ثم استقام، وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله سيد الأنام، اللهم صل على رسولك محمد وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فقد قال الله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّ‍ۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ ٢ [الجمعة: 2].

فأخبر سبحانه بامتنانه على عباده المؤمنين، ببعثة هذا النبي الكريم: ﴿لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨ [التوبة: 128]. وكما قال في الآية الأخرى: ﴿لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ ١٦٤ [آل‌عمران: 164]. فبعثة الرسول ﷺ هي ابتداء نزول الوحي عليه بنبوته حين أنزل الله عليه وهو بغار حراء ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ١ [العلق: 1] فهذا هو ابتداء البعثة، وبينها وبين المولد أربعون سنة.

بعث الله نبيه محمدًا ﷺ على حين فترة من الرسل، بدين كامل، وشرع شامل، صالح لكل زمان ومكان، قد نظم حياة الناس أحسن نظام، في زمان قد فشت فيه بين الناس الجهالة، وخيمت عليهم الضلالة، وصار لكل قوم آلهة يعبدونها من دون الله. فبصّر الناس من العمى، وأنقذهم من الجهالة، وهداهم من الضلالة، وفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غلفًا، فدخل الناس ببركة بعثته في دين الله أفواجًا أفواجًا، طائعين مختارين.

والأميون هم العرب، سموا بالأميين، لكون الأمية - أي عدم المعرفة للقراءة والكتابة - سائدة بينهم، ليس عندهم مدارس، ولا كتب، أشبه بالأعراب المتنقلة، وإنما تعلموا العلم بعد نزول القرآن وبعد بعثة محمد عليه الصلاة والسلام.

وكان أول ما أنزل الله عليه: ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ ٢ ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ ٣ ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ ٤ عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ ٥ [العلق: 1-5]. ففي هذه السورة: الإشعار بتعلم القلم أي: الكتابة المستلزم لمحو الأمية وتخفيفها عن الناس. فالفضل كل الفضل هو في بعثته؛ أي ابتداء نزول الوحي بنبوته، وذلك من بعد ولادته بأربعين سنة.

وسمى الله نبيه محمدًا أميًّا في قوله سبحانه: ﴿ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٥٧ [الأعراف: 156-157]. فسمى الله نبيه أميًّا من أجل أنه لا يكتب ولا يقرأ، صيانة للوحي النازل عليه؛ حتى لا تتطرق إليه الظنون الكاذبة، والأوهام الخاطئة، فيقولون: تعلمه من كذا، ومن كتاب كذا.

يقول الله: ﴿وَمَا كُنتَ تَتۡلُواْ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذٗا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ ٤٨ [العنكبوت: 48]. وأمية الرسول ﷺ هي معجزة من معجزات نبوته، وليست من سنته.

ثم قال: ﴿يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ القرآنية، ويفسرها لهم، ويسألونه عما أشكل عليهم منها. قال ابن مسعود: كنا إذا تعلمنا عشر آيات، لم نتجاوزهن حتى نتعلم معانيهن، والعمل بهن [3]. فهم يتعلمون القراءة والعلم والعمل معًا.

ثم قال: ﴿وَيُزَكِّيهِمۡ .أي بالمحافظة على الفرائض والفضائل، والتنزه عن منكرات الأخلاق والرذائل، لأن هذه هي التي تزكي النفوس وتشرفها، وتنشر في العالمين فخرها. ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ٩ وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا ١٠ [الشمس: 9-10]. وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى فكن طالبًا للنفس أعلى المراتب ثم قال: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ فالكتاب هو القرآن، والحكمة هي السنة فكان الصحابة يتعلمون السنة من النبي ﷺ كما يتعلمون القرآن.

والنبي ﷺ قال: «أَلاَ إِنِّى أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلاَ يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ، أَلا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ كمَا حَرَّمَ اللَّهُ»[4].

﴿وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ أي إن العرب قبل الإسلام وقبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام، كانوا في شر وشقاء، وضلالة عمياء: يقتل بعضهم بعضًا، ويسبي بعضهم نساء بعض، يعبدون الأشجار والأحجار، والقبور والطواغيت.

وكانوا مضطهدين بين كسرى وقيصر، قد سادهم الغرباء في أرضهم وأذلهم الأجانب في عقر دارهم، لم يستقلوا استقلالاً تامًّا إلا بالإسلام، ولم تعرفهم الأمم وتخضع لهم، وتخشى صولتهم إلا بعد الإسلام وبعد بعثة محمد عليه الصلاة والسلام.

وقد عاد كثير من الناس إلى حالة الجاهلية الأولى، حتى عبدوا المقبورين من الأولياء والصالحين، وتوسلوا بهم في قضاء حاجاتهم، وتفريج كرباتهم؛ نفس ما فعله المشركون الأولون، وذلك حين ضعف عملهم بالإسلام، وساء اعتقادهم فيه، وصار منهم منافقون يدعون إلى نبذه، وإلى عدم التقيد بفرائضه، وحدوده وحكمه، ويدعون إلى تحكيم القوانين بدله، من أجل أن القوانين تبيح لهم الربا والزنا، وشرب الخمور.

فلأجله صاروا من أسوأ الناس حالاً، وأبينهم ضلالاً، وأشدهم اضطرابًا وزلزالاً، وصاروا جديرين بزوال النعم، والإلزام بالنقم، ففشى بينهم الفوضى والشقاء، وقامت الفتن على قدم وساق، يقتل بعضهم بعضًا، ويسبي بعضهم أموال بعض بحجة الاشتراكية الشيوعية المبتدعة التي ما أنزل الله بها من سلطان.

ولن يرتفع عنهم هذا التطاحن والتلاحم الواقع بينهم، إلا بالرجوع إلى دينهم، الكفيل بعلاج عللهم، وإصلاح مجتمعهم، والذي اعتز به سلفهم، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

فالإسلام، أو العمل بالقرآن أنشأ العرب نشأة مستأنفة، فخرجوا من جزيرتهم والقرآن بأيديهم يتلونه، ويدعون الناس إليه، ويفتحون ويسودون. فهو السبب الأعظم الذي به نهضوا وفتحوا وسادوا وبلغوا المبالغ كلها من المجد والرقي، وتحولوا بهدايته من الفرقة والاختلاف إلى الوحدة والائتلاف، ومن الجفاء والقساوة إلى اللين والرحمة، ومن الهمجية والأمية إلى الحضارة والعلم والمدنية، واستبدلوا بأرواحهم الجافية الجاهلية أرواحًا جديدة دينية، صيرتهم إلى ما صاروا إليه، من عز ومنعة، ومجد وعرفان.

وقد أنجز لهم الله ما وعدهم به في القرآن في قوله: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡ‍ٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ٥٥ [النور: 55]. وصدق الله وعده، فكانوا هم ملوك الأمصار بعد أن كانوا عالة في القرى والقفار، يشق على أحدهم ستر عورته، وشبع جوعته، كما في صحيح مسلم عن عتبة بن غزوان أنه قال: لقد رأيتني وأنا سابع سبعة مع رسول الله ﷺ ما لنا طعام نأكله إلا ورق الشجر، حتى قرحت أشداقنا، وإني التقطت بردة، فشققتها بيني وبين سعد بن مالك، فاتزرت بنصفها، واتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميرًا على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيمًا، وعند الله حقيرًا.

ومثله قال قتادة: إن العرب قبل الإسلام، وقبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام كانوا أذل الناس ذلًّا، وأشقاهم عيشًا، وأجوعهم بطونًا، وأعراهم ظهورًا، وأبينهم ضلالاً، يؤكلون ولا يأكلون. والله ما نعلم من حاضر أهل الأرض شر منزلة منهم، حتى جاء الله بالإسلام، فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلهم به ملوكًا على رقاب الناس، فبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه فإن ربكم منعم يحب الشكر.[5]

ولد النبي ﷺ في ربيع الأول على القول الصحيح، فقيل: لثمان، وقيل: لاثنتي عشرة ليلة خلت، وهو الشهر الذي توفي فيه على القول الصحيح، ولم يشرع الرسول ﷺ لأمته تعظيم مولده، ولا مثل هذا الاحتفال، والتجمع فيه، بل ثبت ما يدل على النهي عنه. فقال في الحديث الصحيح: «لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ»[6]. وقال: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِى الدِّينِ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِى الدِّينِ»[7]. ولم يثبت عن الخلفاء الراشدين، ولا عن الصحابة والتابعين، ولا عن أئمة سائر المذاهب ولا عن سائر سلف العلماء الصالحين، أنهم يعظمون مولد الرسول ﷺ، أو يتجمعون فيه، أو يلقون الخطب والشعر في الإشادة بمولده، كما تفعل بعض البلدان في هذا الزمان، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه.

وكان النبي ﷺ يقول في خطبته: «إِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا»[8] فتعظيم المولد هو من محدثات الأمور، وتعظيم الإسراء والمعراج في رجب هو من محدثات الأمور، وتعظيم النصف من شعبان هو من محدثات الأمور، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، فاتبعوا ولا تبتدعوا.

وذكر صاحب كتاب الإبداع في مضار الابتداع: إن أول من أحدث بدعة المولد هم الفاطميون أهل مصر، لما رأوا النصارى يعظمون مولد المسيح ويجعلونه عيدًا لهم، بحيث يعطلون فيه الأعمال والمتاجر، أرادوا أن يضاهوهم على بدعتهم بتعظيم مولد الرسول ﷺ وتعطيل الأعمال والمتاجر فيه. قابلوا بدعة ببدعة، ومنكرًا بمنكر، فعلى من سنَّها وزرُ من عمل بها إلى يوم الحشر والنشور. فتعظيم المولد هو من تقليد النصارى والتشبه بهم، وليس من الإسلام ولا من عمل السلف الصالح الكرام في شيء. وقد قيل:
ثلاث تشقى بهن الدار
المولد والمأتم والزار
ولما أراد الصحابة الكرام أن يضيفوا تاريخًا للإسلام يعرفون به حوادث الزمان عدلوا عن التاريخ بمولد الرسول ﷺ؛ لكونه من صنيع النصارى والتشبه بهم، وأجمعوا على بداية التاريخ بهجرة الرسول ﷺ؛ لأنه الزمان الذي أعز الله به الإسلام ونصر، وأذل به الباطل وكسر.

وقد يحسنه للناس بعض المنتسبين إلى العلم، بحيث يقولون: إنه بدعة حسنة تبرهن عن محبة الرسول ﷺ وتعظيمه في قلوب العوام. وهذا القول باطل قطعًا، فإن كل بدعة ضلالة، وبالاستمرار على فعله في كل عام يصير عند العوام بمثابة السنة، ومتى غُيِّر قيل: غُيِّرت السنة. وقد عملوا فيه ما يستدعي إقبال الناس إليه، فكانوا يقولون: إن من يحضر المولد فإنه يحصل له من الربح كذا، أو يعافى في جسمه وأهله وعياله، أو من تغيّب عنه فإنه يخسر كذا، أو يصاب بالمرض وموت أولاده. ونحو ذلك من الإرهاصات الناشئة عن هذه البدعة، وهكذا البدعة تجر إلى ما هو أكبر منها، ونحمد الله أن كنا في عافية من هذه البدعة، فلا نسمع بها عندنا، ولا تعمل في بلداننا، لأنها من محدثات الأمور التي نهى عنها رسول الله ﷺ.

وسميت البدعة بدعة لكونها زيادة في الدين لم يشرعها الله ولا رسوله. ومثله ما يفعله الناس في رجب باسم الإسراء والمعراج. وكذا ليلة النصف من شعبان. وكل هذه من البدع التي تقود إلى الأعمال السيئة لكون البدع بريد الشرك، والعبادات الشرعية مبنية على التوقيف والاتباع لا على الاستحسان والابتداع، ﴿وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ [الحشر: 7]. فليس كل ما يستحسنه الناس يكون صحيحًا في نفس الأمر والواقع، ولهذا يقول بعض السلف: كل عبادة لم يتعبدها رسول الله ﷺ ولا أصحابه فلا تتعبدوها، فإن الأول لم يترك للآخر مقالاً. وقالوا: إنه ما ظهر في الناس بدعة إلا رفع مقابلها من السنة، فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة.

ولقد علمنا أن هؤلاء الذين يحتفلون بالمولد ويتجمعون فيه، وينفقون النفقات في سبيله، أن قصدهم محبة الرسول ﷺ وتعظيم أمره، بإحياء ذكرى مولده كل عام، لكن حسن المقاصد لا يبيح فعل البدع، والمحبة الطبيعية لا تغني عن المحبة الدينية شيئًا.

فهذا أبو طالب عم الرسول ﷺ كان يحب رسول الله أشد الحب، وقد تربى رسول الله ﷺ في حجره وبالغ في حمايته ونصرته، وشهد بصدق نبوته، لكنه لما لم يطع رسول الله ﷺ في أمره، ولم يجتنب نهيه، ولم يدخل في دينه، حشر يوم القيامة في ضحضاح من نار يغلي منها دماغه جزاء على كفره. وقد نُهي رسول الله ﷺ أن يستغفر له.

ولما ادعى الناس محبة الله ورسوله أنزل الله عليهم آية المحبة ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٣١ [آل‌عمران: 31] ومن المشاهد بالاعتبار والتجربة، أن البدع ينبوع كل شر، يقود بعضها إلى بعض، حتى تكون الآخرة شرًّا من الأولى.

فهذه الموالد في الأمصار، يُفعل فيها أشياء: من اجتماع الرجال بالنساء، والضرب بالمعازف والدفوف وشرب الخمور وغير ذلك من المفاسد والفجور، ويسندون هذه الأفعال إلى محبة الرسول ﷺ!!! وهي تنافي محبته وطاعته، وقد قيل:
لو كان حبك صادقًا لأطعته
إن المحب لمن يحب مطيع
إن الذي يحب الرسول ﷺ محبة حقيقية يجب عليه أن يطيعه في أمره، فيحافظ على الصلوات الخمس في أوقاتها جماعة، ويؤدي الزكاة الواجبة، ويصوم رمضان، ويجتنب الربا والزنا وشرب الخمر، وسائر الرذائل المحرمة.

إذ إن حق الرسول ﷺ على أمته طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع، وأن يكثروا من الصلاة والتسليم عليه في كل حالاتهم وسائر أوقاتهم؛ فإن كثرة الصلاة عليه من أفضل الطاعات، وأجل القربات، ومن صلى عليه مرة صلى الله عليه عشرًا، وأخبر أن صلاة أمته تعرض عليه، وقد أمر أمته أن يسألوا الله له الوسيلة والفضيلة، وأن يبعثه المقام المحمود الذي وعده.

فالرسول ﷺ حمى حمى التوحيد، وسد طرق الشرك. فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.

* * *

[3] أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث عبدالله بن مسعود. [4] رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث المقدام بن معد يكرب. [5] أخرجه ابن جرير في تفسيره، وابن المنذر وأبو الشيخ عن قتادة. [6] رواه البخاري من حديث عمر. [7] رواه أحمد في مسنده، والنسائي وابن ماجه والحاكم من حديث ابن عباس، وإسناده صحيح. [8] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله.