مقدمة المؤلف
إنني أحمد الله على نعمه، وأستزيده من فضله وكرمه، وأصلي وأسلم على رسوله محمد وآله وصحبه، وبعد:
فقد قال الله تعالى: ﴿وَمَنۡ أَحۡسَنُ قَوۡلٗا مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ٣٣﴾ [فصلت: 33]. إن لكل إنسان حاجة، ولكل حاجة غاية. وما حاجتي في مؤلفاتي إلا الدعوة إلى دين ربي، ونصيحة أمتي، بالحكمة والموعظة الحسنة، ابتغاء الثواب من ربي، والدعاء من إخواني، إذ هذه أمنيتي، وغاية بغيتي ورغبتي، «وَاللهُ سُبْحَانَهُ عِنْدَ لِسَانِ كُلِّ قَائِلٍ وَقَلْبِهِ»[1].
﴿وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ١٠٥﴾ [التوبة: 105].
لقد أعجبتني كلمة قالها الإمام ابن الجوزي حيث قال: إن مؤلَّف العالم هو ولده المخلد الصالح، إذ إن الإنسان إذا مات «انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ»[2].
وإن من الخسران كون الإنسان يعلم علمًا مما علمه الله، ثم يموت علمه في صدره، بحيث لا يعلمه ولا يدعو الناس إليه، حتى يموت بموته ويدفن معه في قبره، فيكون علمه بمثابة الخسران على العباد والبلاد.
﴿قُلۡ إِنَّ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَأَهۡلِيهِمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ﴾ [الزمر: 15].
والله سبحانه خلق الإنسان وعلمه البيان، وجمله بالنطق، وشرفه بالإيمان، وفضله بالعلم والعقل على سائر الحيوان، وجعله بحسن مقاصده وشرف مميزاته أفضل من ملائكة الرحمن.
ولقد عملت عملي وبذلت جهدي وجهادي في هذا المجموع، الذي هو حصاد ما زرعته فوق الثلاثين من السنين، حتى صار من توفيق الله بمثابة الجنة العلمية فيه ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين من العلوم النافعة، والبحوث المتنوعة، مما قل أن يوجد مثلها في غيره، ولا أقول بعصمته، فقد يخفى على قائله ما عسى أن يظهر لقارئه ﴿وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ﴾ [يوسف: 76].
ولم أصنعه بصفته لأن يكون ديوان خطب منبرية فحسب، بل هو في نفسي، وفي موضوعه أعلى وأجل وأكمل وأجمل، فاتصافه بالرسائل العلمية أشبه من تسميته بالخطب المنبرية، فأنا أتحاشى عن تسميته بالخطب وإن كان فيه بغية الخطيب، لكنني عملته لأن يكون موردًا عذبًا يرده أهل الإرادة، ويختلفون فيما يردون ويريدون ﴿قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٖ مَّشۡرَبَهُمۡۖ كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ مِن رِّزۡقِ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ﴾ [البقرة: 60] فيأخذ منه المحاضر رغبته، والمناظر بغيته، ويستعين به المؤلف على تنظيم رسالته، والواعظ في موعظته، ويأخذ منه الناقد لدحض حجة خصمه قدر حاجته، إذ إنه كنز من كنوز العلوم النافعة، مملوء بالحكم والأحكام، ومحاسن الإسلام، وأمور الحلال والحرام، ومحاربة الشرك والبدع، وفنون الضلال والأوهام، يدعو إلى إصلاح الدنيا والدين، وإلى مصلحة الروح والجسد، والمال والولد، يهذب الأخلاق، ويحارب الكفر والشقاق والنفاق، ولن يستغني عنه عالم نحرير، ولا كاتب أديب، ولا عاقل أريب. فإن أردت تحقيق ذلك، فانظر إلى بديع أي رسالة منه؛ كرسالة مولد الرسول وبركة بعثته على أمته، ثم انظر إلى الإسراء والمعراج وحكمته، ثم إلى فضل الإسلام وبداية قوته في نشأته، ثم انظر إلى حقيقة الكلام في تفسير غربته، وهكذا سائر مذكراته. وقد سميته: الحكم الجامعة لشتى العلوم النافعة.
وما يوجد فيه من أساليب البلاغة والبيان، وانسجام الألفاظ، مما يعد من علم الجناس، فهو من نتيجة القريحة، والسجية السمحة غير المتكلفة. ولقد سمعت من بعض علمائنا من يصف كلامنا بأنه من السهل الممتنع، ونسأله سبحانه الهدى والسداد.
وقدوتي في ذلك كتاب الله؛ إذ إن فيه من البلاغة والبيان ما يعجز عن وصفه كل إنسان؛ يقول الله تعالى: ﴿وَقُل لَّهُمۡ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَوۡلَۢا بَلِيغٗا﴾ [النساء: 63] أي يبلغ من أفهامهم، ويعلق بأذهانهم.
ويوجد فيه من العظات ما يظن بأنها من المكررات، وهذا لا يوجد فيه إلا من قبيل الندور، فإن كل ما يوجد فيه مما يظن أنه متفق في الرسم والعنوان؛ لكنه يفترق في العلم والبيان، ولنا الأسوة بكتاب ربنا حيث يذكر القصة مبسوطة في مكان، ومتوسطة ومختصرة في مكان، فمن ذلك: ذكريات الصيام، وذكريات الحج، وذكريات أعياد الإسلام، فإنها متنوعة في العلم والبيان، وقد جعلت لكل عيد ثلاث عظات متنوعة، لكون النفوس تمل وتسأم دائمًا من ترجيع ذكرى واحدة للعيد في كل زمان وتشتاق إلى التنقل في تنويع التذكير بالأحكام، وأمور الحلال والحرام لكونه أدعى إلى القبول والإقبال، ولأن لكل حادث حديثًا، ولكل مقام مقالاً.
وإنني عندما أطرق موضوعًا من مواضيع البحوث العلمية التي يحسن التذكير بها، وبمحاسنها ومساوئها، وحكمها وأحكامها، فإنني آخذ للبحث بغيتي، وغاية رغبتي، مما وصل إليه فهمي وعلمي، حتى ولو طال ذيل البحث، ولن أقتصر فيه على بلغة العجلان، ورغبة العاجز الكسلان، إذ إن الناس يتفاوتون في قوة الإيراد والتعبير، وفي حسن المنطق وجمال التحبير، والعلم شجون يستدعي بعضه بعضًا، ويأخذ بعضه برقاب بعض، وَعَدُّوا من عيوب الكلام وقوع النقص من القادر على التمام، ووقوع الانفصام والانفصال في مواقع الاتصال.
هذا: وإن جميع الناس من شتى الأقطار، وأكثر الأمصار، حينما يسمعون صوت التذكير الذي نلقيه في المسجد الجامع بقطر، والذي تنشره الإذاعة بين الناس مرتين، مرة عند صلاة الجمعة، والأخرى في المساء من ليلة السبت؛ فيودون ويتمنون لو جمعت لهم هذه المذكرات المتنوعة في شتى العلوم النافعة؛ من المصالح والنصائح العمومية، التي تعالج سائر المشاكل الاجتماعية. وعلى أثره صار أكثر العلماء، وبعض الأمراء والزعماء، يطالبوننا بضم ما يسمعون، ثم إخراجه للناس في مجموع ينتفعون به، فصاروا يطالبوننا في ذلك دائمًا، صباحًا ومساءً، ونحن نعدهم ونمنيهم بلعل وعسى، وهم يكررون علينا الطلب من شتى البقاع، ويحذرونني من عواقب سوء التأخير، وفي مفاجأة الأجل قبل تنجيز هذا العمل؛ لأن في الدنيا معوقات، وللتأخير آفات، وأنا أعرف حقيقة ما يقولون، وفضل ما يبتغون، لهذا أوجبت لهم الحق عليَّ في إنجاز ما يطلبون.
غير أنني أعرف أهل زماني، وخاصة إخواني وأقراني، وأنهم على اتباع زلاتي، وإحصاء سيئاتي، وستر حسناتي أحرص منهم على الانتفاع بعظاتي، لكنني أسلِّي نفسي بالتأسي بالعلماء الفضلاء قبلي الذين دب إليهم داء الحسد من أقرانهم، لكون الرجل الفاضل مهما هذب نفسه، وحاول كف ألسنة الناس عن عذله ولومه فإنه لن يسعه ذلك، لأن كل ذي نعمة محسود كما قيل:
ليس يخلو المرء من ضد ولو
حاول العزلة بأعلى الجبل
لهذا نرى أحد هؤلاء عندما يعرض عليه شيء من رسائلنا، ثم يرى فيها قولاً مما يخالف رأيه واعتقاده - وإن كان حقا في نفس الأمر والواقع - فتراه يبادر بالركض إلى مدير الجريدة، لينشر نقده الباطل، ليعلم به جميع الناس، العام منهم والخاص، كأنها زراية وهي صحيحة في الرواية والدراية.
وقد قال لي أحد هؤلاء الأقران الكرام عندما زرته للسلام، وكنت أحمل معي شيئًا من الرسائل العلمية فبادرني بقوله: إنني لم أقرأ شيئًا من رسائلك أبدًا. وسبق أن قال لي مثل هذه الكلمة من مدة تزيد على ثلاث سنين، وقد أعادها الآن. فقلت له: عسى ألا يكون فيها إلحاد وزندقة؟ فقال: لا، إلا أنني مشغول عنها. ثم قال: إن فلانًا يشتغل بكتابة رد عليك. فقلت له: أهلا بمن يرد الباطل في وجه قائله، وإنني مستعد لقبول الحق منه، ورد الباطل عليه. ثم تفرقنا من غير رضى مني.
هذا وإنني كنت جالسًا عند أحد الأمراء الكرام بالطائف، وبين أيدينا رسائل علمية، يسألني عن شيء من مشاكلها، إذ دخل علينا رجل من كبار العلماء، أعرفه ويعرفني. فسلم على الأمير، وسلمت عليه، ورحب بي. وبعد جلوسه واطمئنانه في مكانه قال له الأمير: يا شيخ، ما بالكم إذا جاءكم شيء من الرسائل العلمية من أحد العلماء - أو قال: من أحد إخوانكم - فما بالكم تقابلونها بالنفرة والكراهية؟ وكيف لا تقابلونها بالرحب، وسعة الصدر، ودراستها بالتدبر والتفكر، ثم عمل المناقشة مع مؤلفها؟ فما كان جوابه إلا السكوت.
إن مما يزيد في أملي، ويقوي رجائي على صواب علمي، وحسن عملي - ولا أزكي نفسي عند ربي - الثناء الحسن من العلماء الغرباء والبعداء عن بلداننا؛ حينما أسمعهم يلهجون بالدعاء والثناء على حسن ما يسمعونه ويرونه من كتب العلم والحكمة، والتي هي مبتكرات من مشكلات العلوم النافعة، فكان أبعد الناس منا هم أقربهم مودة إلينا، ووقع بنا ما قيل من أن أزهد الناس في عالم هم: أهله وجيرانه، ومن يعيش بين ظهرانيهم. كما حكى الله سبحانه في كتابه المبين عن فرعون، لما جاءه نبي الله موسى برسالة من ربه. فكان جوابه له أن قال: ﴿قَالَ أَلَمۡ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدٗا وَلَبِثۡتَ فِينَا مِنۡ عُمُرِكَ سِنِينَ ١٨﴾ [الشعراء: 18] فكانت تربيته فيهم، وبداءة نشأته عندهم، هو من أسباب عدم قبولهم لدعوته، والاحتقار منهم للحق الذي جاء به. ولن ننسى عداوة قريش لرسول الله ﷺ، وتكبرهم عن قبول دعوته، من أجل نشأته بينهم، حتى سعد بالسبق إليه الأنصار، وهم أبعد من قريش في النسب والبلد.
ولا ينبغي أن ننسى فتنة شيخ الإسلام ابن تيمية مع العلماء المعاصرين له في زمانه ومكانه، وكيف تألبوا عليه بالعداوة بداعية الحقد والحسد على ما آتاه الله من فضله، من سعة العلوم؛ في شتى الفنون التي بهرت العقول والتي يعجزون عن الإتيان بمثلها. فهم يحاولون إطفاء نور هذا العلم عنه؛ بكثرة الطعن فيه ويأبي الله إلا أن يتم نوره. فكانوا يترددون على الحاكم في زمانهم ويطلبون منه قتله، أو اعتقاله بدعوى أنه غيّر الإسلام، وأنه يبيح للناس الفرج الحرام، وأنه يبغض الرسول ويمنع من زيارته، وأنه مشبه يصف الرب بما يوصف به الخلق، وحتى كفره بعضهم ورموه بخفة الرأي، والاستخفاف بالأحكام الشرعية، فابتلي هذا الحاكم بسماع حجتهم وتنفيذ رغبتهم حيث إنهم علماء البلد، فكان يدخله السجن ثم يخرجه، ثم يدخله ثم يخرجه، وفي الثالثة توفي في السجن رحمه الله.
ثم إنه حصحص الحق حقيقته، وعقيدته، وحسن طريقته بعد موته، فسمِّي شيخ الإسلام وتقي الدين تسمية أنطق الله بها ألسنة الناس، ولم يكن اخترعها أو اختارها لنفسه، واتفق جميع العلماء بعد موته على أن باعث الطعن فيه من أضداده هو محض الحسد منهم له على ما آتاه الله من فضله.
كما قال عمر بن الوردي:
عثا في عرضه قوم سلاط
لهم من نثر جوهره التقاط
تقي الدين أحمد خير حبر
خروق المعضلات به تخاط
همُ حسدوه لما لم ينالوا
مناقبه فقد مكروا وشاطوا
وكانوا عن طرائقه كسالى
ولكن في أذاه لهم نشاط
هذا وإنني لم أخرج رسالة علمية ذات أهمية إلا وأنا متحقق من حاجة المجتمع إليها، وإلى التنبيه على مدلولها، وكونها من المبتكرات التي لم نُسبق إليها، وكم ترك أول لآخر، وإن أردت تحقيق ذلك؛ فانظر إلى رسالة يسر الإسلام في حج بيت الله الحرام، ثم انظر إلى الدلائل العقلية والنقلية في تفضيل الصدقة عن الميت على الأضحية، وكيف أسقطت عن الناس الآصار والأغلال فيما يتعلق بالأضاحي عن الأموات. ثم انظر إلى أحكام عقد التأمين ومكانها من شريعة الدين، وما فيه من التفصيل.
وهكذا سائر رسائلنا على كثرتها. ونحن نسير في تذكير الناس يوم الجمعة إلى شيء منها.
وإن مما ندرك على بعض الإخوان، وبعض العلماء الكرام كون أحدهم متى ظفر برسالة منا تبحث عن حقيقة عقيدة أو طريقة أو مقالة مشكلة، مما عسى أن يقع فيها الجدال، وكثرة القيل والقال، فهذه الرسالة تكشف لهم الإشكالات، وتزيل الشكوك والشبهات، فيكون حظ أحدهم منها هو: محض النظر في عنوانها مع شدة كراهيته لها، وعسى أن ينشط للنظر في الوجه الأول منها، ثم يصفق بأجنحتها ويودعها في سلة المهملات وهو آخر عهده بها، ثم يستمع ما يقوله الناس فيها. فيقول بقولهم بدون تفكر، ولا حسن تدبر؛ لأنه بزعمه يعيش في زمان السرعة فكل شيء يراه ثقيلاً في نفسه.
نسأل الله سبحانه علمًا نافعًا مبرورًا، وعملاً صالحًا مشكورًا، ونعوذ بالله أن نقول زورًا، أو نغشى فجورًا.
الشيخ
عبد الله بن زيد آل محمود
رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية
الدوحة في21 ذي القعدة 1398هـ
* * *
[1] رواه الحكيم الترمذي من حديث ابن عباس وأبو نعيم في الحلية من حديث ابن عمر. [2] رواه مسلم من حديث أبي هريرة.