(44) فضل عشر ذي الحجّة وفضل الصّيام فيها والصّدَقة
الحمد لله المعبود على الدوام، المعروف بالكرم والإحسان، كل يوم هو في شأن، وكل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من قال ربي الله ثم استقام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه البررة الكرام.
أما بعد:
فإن الله سبحانه جعل الشهور والأعوام، والليالي والأيام، كلها مواقيت الأعمال، ومقادير الآجال، فهي تنقضي جميعًا، والذي أوجدها وخصها بالفضائل وأودعها هو باق لا يزول، ودائم لا يحول، هو في كل الحالات إله واحد، ولأعمال عباده رقيب مشاهد، يقلب عباده بفنون الخدم، ليسبغ عليهم فواضل النعم، ويعاملهم بغاية الجود والكرم.
وهذه الأيام العشر هي الأيام المعلومات، المخصوصة بالتفضيل في محكم الآيات. في قوله تعالى: ﴿وَٱلۡفَجۡرِ ١ وَلَيَالٍ عَشۡرٖ ٢﴾ [الفجر: 1-2] فأقسم الرب بها لشرفها على حسب ما قيل في تفسيرها. والتي قال النبي ﷺ فيها: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ»[394]. وهذا العمل الصالح الذي يحب الله الإكثار منه في خاصة هذه الأيام، يشمل الصلاة والصيام، والصدقة بالمال، وسائر أفعال البر والإحسان، وللصدقة فيها شأن كبير، وأجر من الله كثير، لكون الصدقة في هذه الأيام تصادف من الفقير موضع حاجة، وشديد فاقة، لما يتطلبه الفقير من حاجة العيد من النفقة والكسوة، وسائر المؤنة الضرورية، فهذا من العمل الصالح المتعدي نفعه إلى الغير.
ومن العمل الصالح أيضًا الصيام في هذه الأيام، فقد كان بعض السلف يصومون عشر ذي الحجة كلها. وبعضهم يصوم بعضها؛ لأن هذه الأيام هي أفضل أيام الدنيا؛ من أجل أن فيها يوم عرفة، الذي قال النبي فيه: «أفضل أيامكم يوم عرفة، وأفضل مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ»[395]. ولما سئل النبي ﷺ عن صوم يوم عرفة قال: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ». رواه مسلم عن أبي قتادة، أي يكفر الصغائر؛ ولهذا يستحب الجهر بالتكبير في عشر ذي الحجة في المساجد وفي الأسواق والطرق، جهرًا لا يؤذي به أحدًا. وفي البخاري أن ابن عمر وأبا هريرة كانا يخرجان إلى السوق فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما حتى إن للسوق لضجة بالتكبير، وصفته أن يقول: الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
والأضحية سنة ثابتة بالكتاب والسنة، وثابتة من فعل النبي ﷺ وقوله، وفعل أصحابه. وقد قال بعض العلماء بوجوبها على الغني المقتدر، لكونها من شعائر الدين، ومن الطاعة لرب العالمين. فذبحها أفضل من الصدقة بثمنها بإجماع أئمة المذاهب الأربعة؛ لأنها من القرابين التي تقربونها لرب العالمين.
وفيها التشريف لعيد الإسلام، وعيد حج بيت الله الحرام، وفي فعلها إظهار لشكر نعمة الغنى، حيث جعل من يضحي من الأغنياء المقتدرين ولم يجعله من الفقراء العاجزين.
ولا ينبغي أن يحزن العاجز الفقير، فقد ضحى عنه البشير النذير.
وأعلى الأضاحي ذبيحتان، وتجزئ الذبيحة الواحدة عن الرجل وأهل بيته. وهنا حديث رواه مسلم عن أم سلمة أن النبي ﷺ قال: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن أخذ شعره وأظفاره».
وهذا الحديث قد اختلف العلماء فيه؛ فمنهم من حمل النهي على الكراهة كما هو الظاهر من مذهب الشافعي ومالك، ورواية عن الإمام أحمد، والكراهة تزول بأدنى حاجة. وقال أبو حنيفة: لا يكره أخذ الشعر ولا الظفر، كما لا يكره ملامسة النساء والطيب والثياب.
وقال كثير من فقهاء الحنابلة: إن النهي للكراهة، ورجحه في الإنصاف، وقد أنكرت عائشة على أم سلمة هذا الحديث، وقالت، إنما قاله رسول الله ﷺ في حق من أحرم بالحج، وقد فتلت هدي قلائد النبي ﷺ، فلم يمتنع عن شيء كان يفعله.
فمتى قلنا إن النهي للكراهة - وهو الصحيح - فإن الكراهة تزول بأدنى حاجة، وقد شاع واشتهر عند العامة، أن كل من أخذ من شعر رأسه، أو قلم أظافره، فإنه لا يجوز له أضحية، وهذا خطأ. ولم يقل به أحد من العلماء.
وعلى كلا القولين فإنه لو أخذ الشخص شيئًا من شعر رأسه، أو لحيته أو أظافره في عشر ذي الحجة، ثم أراد أن يضحي فإنه يجوز له أن يضحي، وأضحيته صحيحة بإجماع أهل العلم، وكذلك المرأة لو نقضت شعر رأسها فتساقط منه شعر، فإن ذلك لا يمنعها من فعل الأضحية، بل تضحي وأضحيتها صحيحة. ويجوز لها استعمال الطيب والحناء والخضاب، وكل شيء في عشر ذي الحجة[396].
والأفضل الإمساك عن أخذ الشعر والظفر فإن فعل لم يمنع من فعل الأضحية.
وما شاع على ألسنة العامة في هذه البلاد من قولهم إن من أراد أن يضحي فإنه ينبغي له أن يحرم فهذا قول باطل ولا صحة له، فلا إحرام إلا لمن أراد أن يحج أو يعتمر، وحتى صار الكثير من الناس يمتنعون عن الأضحية عند أخذهم لشيء من الشعر لظنهم أنها لا تصح أضحيتهم، فلو كان الكف عن أخذ الشعر والظفر واجبًا في حق كل من يضحي، لما خفيت على عائشة أم المؤمنين، وهي في بيت رسول الله ﷺ، وهي أفقه وأعلم بالسنة من أم سلمة. ورسول الله ﷺ كان يضحي كل سنة عنه، وعن أهل بيته. فمثله لا يخفى لو كان صحيحًا.
وقد اعترضت عائشة على أم سلمة في هذا الحديث. وقالت: إنما قاله رسول الله ﷺ في حق من أحرم بالحج. وهذا معقول المعنى؛ فإن الحاج إذا أحرم لا يجوز له أن يأخذ شيئًا من شعره ولا أظافره. وحسبك في فضل الأضحية أن للمضحي بكل شعرة حسنة، حتى من الصوف، كما في حديث زيد بن أرقم قال: «قلنا، أو قالوا: يا رسول الله مَا هَذِهِ الأَضَاحِىُّ قَالَ «سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ». قَالُوا فَمَا لَنَا فِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «بِكُلِّ شَعَرَةٍ حَسَنَةٌ». قَالُوا فَالصُّوفُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ «بِكُلِّ شَعَرَةٍ مِنَ الصُّوفِ حَسَنَةٌ»»[397].
ولا يترتب عليها هذه الفضائل إلا إذا وقعت موقعها من الصفة والصحة المأمور بها على الوجه المطابق للحكمة في مشروعيتها بأن قصد بها امتثال أمر الله، واتباع سنة رسوله ﷺ، وتجردت عن البدع الخاطئة، والتصرفات السيئة، فيكون ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها؛ لأن في ذبحها إحياء لسنتها، وامتثالاً لطاعة الله فيها، وخروجًا من عهدة من قال بوجوبها، ولكونه يتمكن من الصدقة كل وقت، ولا يتمكن من فعل الأضحية إلا في الوقت المحدد لها، أشبه العقيقة. فإن ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها بالإجماع. أما إذا وقعت على غير ما شرعه الله ورسوله ﷺ فإنها تكون شاة لحم قدمها لأهله.
أما الأضحية عن الميت فإنه بمقتضى التتبع والاستقراء لكتب الصحاح والسنن والمسانيد، لم نجد حديثًا صحيحًا، ولا دليلاً صريحًا من كتاب الله ولا سنة رسوله ﷺ، يأمر فيه بأضحية عن الميت، أو يشير إلى وصول ثوابها إليه، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه ضحى لميته، أو أنه أوصى أن يضحى عنه بعد موته، أو أوقف وقفًا في أضحية، فليس لها ذكر عندهم، لا في أوقافهم، ولا وصاياهم، ولا تبرعاتهم لموتاهم. فلو كانت الأضحية عن الميت من السنة، أو أنه يصل إلى الميت ثوابها، لسبقونا إليها. فعدم فعلها يعد من الأمر المجمع عليه زمن الصحابة، واستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع حجة. كما أن الظاهر من مذهب الإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أبي حنيفة أنه لا أضحية للميت لعدم مشروعيتها. فهي شاة لحم لكون الأضحية الشرعية: إنما شرعت في حق الحي تشريفًا لعيد الإسلام وإظهارًا للفرح به والسرور، أو الشكر على بلوغه.
والنبي ﷺ قد أرشد الأولاد بأن يتصدقوا عن والديهم الميتين، ولم يأمرهم بأن يضحوا عنهم، فمن ذلك ما روى البخاري ومسلم أن سعد بن عبادة قال للنبي ﷺ: يا رسول الله ﷺ إن أمي افتلتت نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت. أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: «نعم تصدق عن أمك». ولم يقل: ضح عن أمك.
وروى مسلم في صحيحه أن رجلاً قال: «إِنَّ أَبِى مَاتَ وَتَرَكَ مَالاً وَلَمْ يُوصِ فَهَلْ يُكَفِّرُ عَنْهُ أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهُ قَالَ «نَعَمْ تصدق عن أبيك»»[398].
ومثله ما روى أبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه، أن رجلاً من بني ساعدة جاء إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله إن أبوي قد ماتا، فهل بقي علي من برهما شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: «نَعَمِ الصَّلاَةُ عَلَيْهِمَا وَالاِسْتِغْفَارُ لَهُمَا وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِى لاَ تُوصَلُ إِلاَّ بِهِمَا وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا»[399] فهذه وصايا رسول الله ﷺ بالأمر بالصلة والصدقة، وبالدعاء الذي يصل إليهما نفعهما. ولو كانت الأضحية عنهما بعد موتهما أنها من البر، أو أنه يصل إليهما ثوابها، لأرشده النبي ﷺ إلى فعلها. ومثله صدقة عمر التي استشار النبي ﷺ فيها: فقال له: «احْبِسْ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْ بِثَمَرَتِهَا»[400] فتصدق بها عمر على الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف. لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم صديقًا غير متمول مالاً.
ولو كانت الأضحية من عمل البر، أو أنه يصل إليه ثوابها بعد موته، لما ساغ لعمر أن ينساها لنفسه. وفي صحيح مسلم. أن النبي ﷺ قال: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ»[401]. ولم يقل أو أضحية تذبح له بعد موته. ولا تسمى الأضحية صدقة. لكنه لو ضحى بقصد الصدقة عن والديه أو أحدهما بذبيحة يدخلها على أهل بيت من الفقراء؛ فإنها نعم الصدقة، ويصل إليهما ثوابها. إذ هي من الصدقة المستحبة. وحيث لم يثبت عن النبي ﷺ أنه أمر أحدًا أن يضحي عن ميته، ولم يثبت عن أحد من الصحابة أنه ضحى عن ميته، ولا أوصى أن يضحى عنه بعد موته، علمنا حينئذ أنها ليست بمشروعة، ولا مرغب فيها، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، إلا أن يذبحها ليتصدق بلحمها على الفقراء والمساكين فجائز. لكن الصدقة بثمن الأضحية عن الميت أفضل من ذبح الأضحية عنه، لكون الصدقة خاصة في عشر ذي الحجة تصادف من الفقير موضع حاجة وشدة فاقة، لما يتطلبه العيد من الحاجة والنفقة والكسوة له ولعياله، فتقع هذه الصدقة من الفقير بالموقع الذي يحبها الله، من تفريج كربته، وقضاء حاجته، وإدخال السرور عليه وعلى أهل بيته، والقرآن مملوء بذكر الحث على الصدقة، وأنها لا تنقص المال، بل تزيده. وهي من العمل الصالح الذي يحبه الله خاصة في هذه الأيام العشر يقول الله تعالى: ﴿يَسَۡٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلۡ مَآ أَنفَقۡتُم مِّنۡ خَيۡرٖ فَلِلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِۗ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٞ ٢١٥﴾ [البقرة: 215] وقد مدح الله من آتى المال على حبه ﴿ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ﴾ [البقرة: 177] ولا أفضل من كون الإنسان يرى صدقته ماضية في حال صحته وحياته، كما في الصحيح أن النبي ﷺ قال: «الرُّوحُ أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَأْمُلُ الْغِنَى وتَخْشَى الْفَقْرَ، وَلاَ تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الروح الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلاَنٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ»[402] وأكثر الناس إنما يتصدق عند الموت، ثم يأكل الوصي صدقته، ولا ينفذها في سبيلها. فما نفع الإنسان مثل اكتسابه لنفسه بدون أن يتكل على وصيه.
وحسن ظنك بالأيام معجزة
فظن شرا وكن منها على حذر
غاض الوفاء وفاض الغدر وانفرجت
مسافة الخلف بين القول والعمل
أسأل الله سبحانه أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
* * *
[394] أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس. [395] أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو. [396] قال في المغني ص 15 - 5 ج 3 بعد سياقه للخلاف في المسألة قال: فإن حلق شعره، أو قلم أظفاره، فإنه يستغفر ولا فدية عليه بإجماع العلماء سواء فعله عامدًا أو ناسيًا. [397] أخرجه ابن ماجه من حديث زيد بن أرقم. [398] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [399] أخرجه أبو داود وابن حبان من حديث أبي أسيد. [400] أخرجه الدارقطني من حديث ابن عمر. [401] أخرجه مسلم وأصحاب السنن من حديث أبي هريرة. [402] متفق عليه من حديث أبي هريرة.