متقدم

فهرس الكتاب

 

(43) الذكرى في أول شَوال وفضل نوافل الصّلاة والصّيام

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ونشكره أن وفقنا لإتمام شهر الصيام والقيام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من قال ربي الله ثم استقام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن الشهور والأعوام، والليالي والأيام، كلها مواقيت الأعمال، ومقادير الآجال، فهي تنقضي جميعًا، وتمضي سريعًا، والذي أوجدها وخصها بالفضائل، وأودعها باق لا يزول، ودائم لا يحول. هو في كل الحالات إله واحد، ولأعمال عباده رقيب مشاهد، يقلب عباده بفنون الخدم، ليسبغ عليهم فواضل النعم، ويعاملهم بغاية الجود والكرم.

فقد مضى شهر الصيام، ثم أقبلت أشهر الحج إلى بيت الله الحرام، فما من يوم من الأيام، إلا ولله فيه على عباده وظيفة من وظائف طاعاته، يتقرب بها إليه، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته، يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته عليه، فالسعيد من اغتنم ممر الليالي والأيام والساعات، وتقرب إلى الله بما فيها من فرائض الطاعات، ونوافل العبادات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة يأمن فيها من النار وما فيها من اللفحات.

وفي الحديث: «أطْلُبُوْا الخَيْرَ دَهْرَكُمْ كُلَّهُ، وَتَعَرَّضُوْا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ لِلَّهِ نَفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيْبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وسَلُوْا اللَّهَ تَعَالَى أنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكمْ، وَأَنْ يُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ»[377].

وقد أمر الله عباده بأن يعبدوه حتى يلقوه؛ لأنه لم يجعل لعمل المؤمن منتهى إلا الموت، قال الله تعالى: ﴿ وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ ٩٩ [الحجر: 99].

وإن من الحزم وفعل أولي العزم، كون الإنسان إذا عمل عملاً كصيام رمضان، فإنه يحافظ على إتقانه، وعدم إحباطه وإبطاله. وقد قيل: إن من علامة قبول الطاعة أن توصل بطاعة بعدها، ومن علامة ردها أن تعقب تلك الطاعة بمعاصٍ بعدها تحبطها.

يقول الله سبحانه: ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمۡ أَن تَكُونَ لَهُۥ جَنَّةٞ مِّن نَّخِيلٖ وَأَعۡنَابٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ لَهُۥ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ وَأَصَابَهُ ٱلۡكِبَرُ وَلَهُۥ ذُرِّيَّةٞ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعۡصَارٞ فِيهِ نَارٞ فَٱحۡتَرَقَتۡ [البقرة: 266]، وهذا مثل ضربه الله لمن له أعمال صالحات؛ من صلاة وصيام وصدقات، فكانت أعماله الصالحة بمثابة الحديقة فيها من كل الثمرات، ثم إنه سلط عليها في آخر عمره بفعل المنكرات، وترك الطاعات، فنزل على حديقته عاصف من العذاب فأحرقها، فلم ينتفع بشيء من ثمرها، مع مسيس حاجته إليها، وكذلك المعاصي تحرق الطاعات وتوبقها.

فما أحسن الحسنات بعد الأعمال الصالحات تتلوها، وما أقبح المنكرات بعد الأعمال الصالحات تمحقها وتعفوها، «فَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ». رواه مسلم.

وروى مسلم أيضًا أن النبي ﷺ قال: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ»[378]، لأن الحسنة بعشر أمثالها، وفعله هذا يدل على رغبته في الخير، وفي العمل الصالح في رمضان وفي غير رمضان.

ولما قيل لبعض السلف: إن قومًا يتعبدون في رمضان، ولا يتعبدون في غيره، فقال: بئس القوم قوم لا يعرفون لله حقًّا إلا في رمضان، كن ربانيًّا ولا تكن رمضانيًّا. ولما قال أناس من الصحابة: إنا إذا أدينا الفرائض لم نبال ألا نزداد. فقال لهم بعض من سمعهم من الصحابة: ويحكم. والله لا يسائلكم الله إلا عما افترض عليكم، وما أنتم إلا من نبيكم، وما نبيكم إلا منكم، والله لقد قام رسول الله ﷺ حتى تفطرت قدماه، وإنكم تخطئون بالليل والنهار، وإن النوافل يكمل بها خلل الفرائض[379].

فهدا محض الفقه. فإن الإنسان لا بد أن يحصل منه شيء من النقص أو التقصير في الفرائض، فتكون النوافل بمثابة الترقيع لخلل الفرائض، كما أن الغيبة تخرق الصيام والاستغفار يرفعه. وفيه حديث مرفوع. وهو أن الله سبحانه أول ما ينظر في أعمال العبد يوم القيامة في صلاته. فإن كملت فقد أفلح ونجح. وإن نقصت، فقد خاب وخسر. ثم يقول الله سبحانه انظروا ما كان لعبدي من تطوع، فكملوا به فريضته، وكذلك الأعمال تجري على هذا المنوال. ثم إن المحافظة على النوافل هي من الأسباب التي تحبب الرب إلى العبد وتجعله من أوليائه المقربين، وحزبه المفلحين. كما في البخاري أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِى لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ»[380].

فالذي يصوم رمضان، ثم يصوم بعده ستة أيام من شوال، فيكون كصيام الدهر كله، وكذلك صيام ثلاثة أيام من كل شهر؛ فإن فيها فضلاً كبيرًا، ويترتب عليها أجرًا كثيرًا، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: أوصاني خليلي ﷺ بثلاث: «أن أصلي ركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام، وأن أصوم من كل شهر ثلاثة أيام».

أما صلاة ركعتي الضحى فإنها بمثابة الصدقة عن سائر أعضاء الإنسان وجسمه، لحديث أن النبي ﷺ قال: « يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلاَمَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى»[381] رواه مسلم.

وقال: «رَكْعَتَا الضُّحَى خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»[382] والأفضل أن تفعل هذه الصلاة في البيت لقول النبي ﷺ: «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم؛ فإن الله جاعل من صلاتكم في بيوتكم خيرًا ولا تجعلوا بيوتكم قبورًا»[383] أي تهجرونها من فعل الصلاة فيها، فالبيت الذي تصلى فيه النوافل، ويقرأ فيه القرآن، ينبسط فيه الرزق، وتنزل فيه البركة، وتغشى أهله الرحمة.

وكذلك صيام ثلاثة أيام من كل شهر، فإنه بمثابة زكاة البدن، ففي الحديث: «لِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ، وَزَكَاةُ الْجَسَدِ الصَّوْمُ»[384] وقال: «صُوْمُوْا تَصِحُّوْا»[385] وكل من تأمل أحوال الناس فإنه يرى أن الذين يتنفلون بالصوم والصلاة إنهم من أصح الناس أجسامًا، وأطول الناس أعمارًا، وإن الله يمتعهم في الدنيا متاعًا حسنًا، نتيجة أعمالهم الصالحة؛ لأن الصوم والصلاة بما أنهما من العبادات الدينية، فإنهما أيضًا من الرياضات البدنية التي تعود على البدن بالنشاط والصحة. وللطاعة ضياء في الوجه، وقوة في الجسم، وسعة في الرزق.

وآكد النوافل الوتر. فقد قال النبي ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ»[386] وقال: «أَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ»[387] وقال: «لْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا»[388] ومن كل الليل قد أوتر رسول الله. وسأل النبي ﷺ أبا بكر فقال: «متى توتر؟» فقال: أوتر قبل أن أنام. ثم سأل عمر قال: أوتر من آخر الليل. فقال رسول الله ﷺ: «أما أبو بكر فأخذ بالحزم ونام على الوتر، وأما عمر فأخذ بالقوة. فمن خاف ألا يقوم من آخر الليل، فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم من آخر الليل، فليوتر آخر الليل. فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل. وأعلى الوتر إحدى عشرة ركعة، وأقله ركعة واحدة. والوتر حق. فمن أحب أن يوتر بسبع فليفعل، ومن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوثر بثلاث فليفعل». وكان النبي ﷺ يحافظ على عشر ركعات؛ وهي؛ ركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل صلاة الفجر وركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها. فهذه هي السنن التي ينبغي للإنسان أن يداوم عليها، وإن فاته شيء منها سن له قضاؤه.

أما السنن التي لها سبب فمثل تحية المسجد. ففي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ»[389] سواء كان في وقت نهي كبعد العصر، أو غيره.

وحتى الذي يدخل المسجد يوم الجمعة والخطيب يخطب، أو المؤذن يؤذن، فإنه لا يجلس حتى يركع ركعتين؛ لما في الصحيح «أن النبي كان يخطب. فدخل رجل يقال له: سليك الغطفاني، فجلس. فقطع النبي خطبته، ثم قال له: «يَا سُلَيْكُ، أَصَلَّيْتَ الرَّكْعَتَيْنِ». فَقَالَ: لاَ قَالَ:«قُمْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا». أي: خففهما»[390].

وعلى كل حال؛ فإنه لا أفضل من مؤمن يعمر في الإسلام لفعل صلاة أو صيام أو صدقة، وإن الموتى في قبورهم يتحسرون على زيادة في أعمالهم، ويتمنون الرجعة إلى الدنيا ليعملوا أعمالاً صالحة، ويقول المفرط منهم: ﴿رَبِّ ٱرۡجِعُونِ ٩٩ لَعَلِّيٓ أَعۡمَلُ صَٰلِحٗا فِيمَا تَرَكۡتُ [المؤمنونك 99-100] فلا يجابون إلى ما سألوا وقد حيل بينهم وبين العمل، وغلقت منهم الرهون.

وروى الإمام أحمد أن النبي ﷺ قال: «جَاءَنِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مَفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ»[391]. واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وأن عزه استغناؤه عن الناس.

وإذا كان للرجل أو المرأة عادة من فعل الصلاة أو الصيام ثم أقعد عنها بمرض أو كبر، بحيث لا يستطيع أحدهما أن يعملها، فإن الله يقول لملائكته: «أجروا لِعَبْدِى مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ»[392]. فتجري له أعمالاً صالحة وهو مضطجع على فراشه.

وإذا أتى الإنسان إلى فراشه - ومن نيته أن يقوم آخر الليل - فغلبته عيناه كتب له قيام ليله، وكان نومه عليه صدقة، وعلى كل حال فإن الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء.

ولما مر النبي ﷺ على قبر حديث عهد بدفن، قال: ««ما هذا القبر؟» قالوا: قبر فلان التاجر. فقال: «والله لصلاة ركعتين أحب إلى صاحب هذا القبر من الدنيا وما فيها»»[393].

فالدنيا مزرعة الآخرة، تزرع فيها الأعمال الصالحة. من خرج منها فقيرًا من الحسنات والأعمال الصالحات، ورد على الآخرة فقيرًا وساءت له مصيرًا.
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألا تكون كمثله
وأنك لم ترصد لما كان أرصدا
فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وتزودوا من دنياكم لآخرتكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.

[377] رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الفرج بعد الشدة، والحكيم في نوادره، والبيهقي في الشعب، وأبو نعيم في الحلية، كلهم من حديث أنس بن مالك. [378] رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والطبراني من حديث أبي أيوب رضي الله عنه. [379] أخرجه الطبراني بمعناه في مسند الشاميين عن عائشة وهو في مختصر قيام الليل للمروزي. [380] رواه البخاري من حديث أبي هريرة. [381] رواه مسلم من حديث أبي ذر. [382] رواه مسلم والنسائي والترمذي وأحمد من حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ: «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا». [383] متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر بلفظ «اجْعَلُوا مِنْ صَلاَتِكُمْ فِى بُيُوتِكُمْ وَلاَ تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا». [384] رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة. [385] رواه ابن السني وأبو نعيم في الطب النبوي من حديث أبي هريرة وإسناده ضعيف. [386] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [387] أخرجه أصحاب السنن من حديث علي. [388] أخرجه أبو داود من حديث بريدة، كررها ثلاثًا. [389] متفق عليه من حديث أبي قتادة. [390] أخرجه مسلم من حديث جابر. [391] أخرجه الطبراني من حديث سهل بن سعد. [392] أخرجه الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو. [393] أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة.