(40) نوع ثانٍ في التذكير بعيد الفطر
الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، ونحمده ونشكره ونكبره أن جعلنا مسلمين. ثم يكبر تسعًا نسقًا، ويقول: الله أكبر كلما هل هلال وأبدر. الله أكبر كلما صلى مصل وكبر. الله أكبر كلما صام صائم وأفطر. الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
الحمد لله الذي شرع لعباده طريق العبادة ويسر، وأنار قلوب أوليائه بنور طاعته وبصر، وجعل لهم بكمال صومهم عيدًا يعود في كل سنة ويتكرر. أحمده وهو المستحق لأن يحمد ويشكر، وأشهد أن لا إله إلا الله، خلق فقدر، وشرع ويسر، وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله، صاحب اللواء والكوثر. اللهم صل على نبيك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه الذين أذهب الله عنهم الشرك وطهر، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا الله وأطيعوه، وامتثلوا أمر ربكم ولا تعصوه، فإن أطعتموه لم يصل إليكم شيء تكرهونه، وإن عصيتموه عاقبكم بما لا تطيقونه، واعلموا رحمكم الله، أنكم خرجتم إلى هذا الصعيد لقصد أداء صلاة العيد، تأسيًا بنبيكم عليه الصلاة والسلام، وإظهارًا لشكر إتمام الصيام، والهداية إلى الإسلام. وإن يومكم هذا يدعى يوم الجوائز، وهو أن كل إنسان لأجر عمله حائز؛ لأن سعيكم شتى، فمنكم من حظه القبول والغفران، ومنكم من نصيبه الخيبة والحرمان.
فأما المحافظون على فرائض الطاعات، والمجتنبون للمنكرات، فعملهم مبرور، وسعيهم مشكور، وعيدهم عيد الفرح والسرور، قد حصلوا الحسنتين، وفازوا بالفرحتين. فللصائم فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، فهنيئًا لهم، تقبل الله منا ومنهم.
أما التاركون لفرائض العبادات، والمصرون على المنكرات، وشرب المسكرات، فعيدهم عيد الخيبة والندامة، وغضب الرب عليهم يوم القيامة ﴿فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ ٣١ وَلَٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ٣٢ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ يَتَمَطَّىٰٓ ٣٣ أَوۡلَىٰ لَكَ فَأَوۡلَىٰ ٣٤ ثُمَّ أَوۡلَىٰ لَكَ فَأَوۡلَىٰٓ ٣٥ أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَن يُتۡرَكَ سُدًى ٣٦﴾ [القيامة: 31-36].
إن شهر رمضان هو غرة الزمان، ومتجر أهل الإيمان، وقد قوضت الآن منه الخيام، وتقلصت منه الليالي والأيام. وإنه لنعم الشاهد بما عملتموه، والحافظ لما أودعتموه، وإنه لأعمالكم بمثابة الخزائن المحصونة، والصناديق المصونة، وستدعون يوم القيامة لفتحها، يوم تجد كل نفس ما لها وما عليها، والرب ينادي عليها، «يَا عِبَادِى إِنَّمَا هِىَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ»[362].
«صعد النبيﷺ المنبر فقال: «آمين، آمين، آمين». قالوا: على ما أمنت يا رسول الله؟ قال: «جاءني جبريل، قال: يا محمد، رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان، ثم خرج فلم يغفر له، فأدخله الله النار. فأبعده فيها، قل: آمين. فقلت: آمين»».[363] فهذا الرجل الذي دخل عليه شهر رمضان، شهر البركات، شهر إقالة العثرات، شهر مضاعفة الحسنات. ثم خرج ولم يحظ منه لا بمغفرة، ولا بإقالة عثرة، ولا بقبول توبة، إنه لرجل سوء، قد سد باب الخير والرحمة عن نفسه، حيث ساءت طباعه، وفسدت أوضاعه، فرضي لنفسه بأن يخسر حين يربح الناس، وأن يقعد ويرقد حين يصلي الناس، وأن يأكل ويشرب حين يصوم الناس، وإن هذا هو الغاية في الإفلاس والإبلاس، ولا يرضى به سوى من سفه نفسه من الناس، كهؤلاء الإباحيين الملحدين الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وخرقوا سياج الشرائع، واستخفوا بحرمات الدين، واتبعوا غير سبيل المؤمنين، ويدعي أحدهم الإسلام بمعنى الجنسية، لا بالتزام أحكامه الشرعية.
«قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فَقَالَ: قَدْ أَبْدَلَكُمْ اللَّهُ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ»[364] فهما عيدا أهل الإسلام؛ فلأجله شرع إظهار التجمل والزينة فيهما، والجهر بالتكبير في ليلتهما، وعند الخروج إليهما، إشهارًا لشرفهما، وإكبارًا لأمرهما، ﴿وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ [البقرة: 185]. الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عباد الله إن الله سبحانه لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم. وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه.
والدين هو هذا السمح السهل الموصل لمن تمسك به إلى سعادة الدنيا والآخرة رأسه الإسلام، وعموده الصلاة، وبقية أركانه الزكاة وصيام رمضان وحج البيت الحرام، وقد جعل الله هذه الأركان بمثابة البنيان للإسلام، بل هي الإسلام لمن سأل عن الإسلام. كما أنها الفرقان بين المسلمين والكفار، والمتقين والفجار، وكما أنها محك التمحيص لصحة الإيمان. بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان.
فالمسلم الحق هو من يصلي مع المصلين، ويصوم مع الصائمين، ويؤدي زكاة ماله إلى الفقراء والمساكين، فيظهر إسلامه علانية للناس بحيث يشهدون له بموجبه، والناس شهداء الله في أرضه، لأن للإسلام صوًى ومنارًا كمنار الطريق، يعرف به صاحبه.
ومن صفة المؤمنين ما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرۡحَمُهُمُ ٱللَّهُۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ ٧١﴾ [التوبة: 71].
أما من يتسمى بالإسلام، وهو لا يصلي الصلوات الخمس المفروضة، ولا يؤدي الزكاة المفروضة، ولا يصوم رمضان، فلا شك أن إسلامه مزيف مغشوش، لا حقيقة له، بل هو إسلام باللسان، يكذبه الحس والوجدان، والسنة والقرآن. ومن ادعى ما ليس فيه، فضحته شواهد الامتحان.
إن الإسلام ليس هو محض التسمي به باللسان، والانتساب إليه بالعنوان، ولكنه ما وقر في القلب، وصدقته الأعمال، فاعملوا بإسلامكم تعرفوا به. وادعوا الناس إليه، تكونوا من خير أهله. فإنه لا إسلام بدون عمل.
إن مدار الإسلام على الأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن الشرك به، وإن أكثر الناس في هذا الزمان يتسمون بالإسلام اسمًا. والله تعالى يقول: ﴿وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣﴾ [يوسف: 103].
لأن الإسلام هو الاستسلام لله بالإيمان، والانقياد لطاعته بالصلاة والزكاة والصيام، والبراءة من الشرك وعبادة الأوثان، فلا يكون مسلمًا إلا بذلك. وقد سمعنا عن بعض البلدان العربية الإسلامية التي أهلها مسلمون، والتي يزعم حكامها بأنهم مسلمون، بأنه قد تفشى وانتشر فيها الشرك، وعبادة الأوثان، وصاروا يعبدون قبور الأولياء والصالحين، ويدعونهم ويستغيثون بهم في قضاء حاجاتهم، وتفريج كرباتهم، ويسألونهم الشفاعة، ويقربون لهم القرابين من الذبائح، مما أهل به لغير الله. وهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفر؛ لكونه مفسدًا للعقول وللفطر، ولسائر البشر، ومحبط لسائر الأعمال من الصلاة والصيام.
﴿وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا﴾ [النساء: 116]، ﴿إِنَّهُۥ مَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ ٱلۡجَنَّةَ وَمَأۡوَىٰهُ ٱلنَّارُۖ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ ٧٢﴾ [المائدة: 72]. ومع السكوت عنه، وإقرار أهله عليه، فإنه ينتشر ويشتهر، ويغرق عامة الناس فيه. ومع هذا نرى هؤلاء الحكام الذين يزعمون بأنهم مسلمون يقرون قواعد هذا الشرك في بلادهم، ويحمونها ويحترمون أهلها، وهذا عمل مناف لصحة إسلامهم؛ فإن الإسلام الصحيح ينفي الشرك ويحاربه، ويعلن البراءة من أهله. يلتمس رضا الله بسخطهم، فإن من التمس رضا الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس. والله أكبر على من طغى وكفر وتكبر.
وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو قوام الدنيا والدين، وصلاح المخلوقين ﴿وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٠٤﴾ [آلعمران: 104].
لقد خسر الناس التواصي بالحق، والتناهي عن المنكر، فأدخلوا الشرك الأكبر، وعبادة القبور في سياسة حكام البشر، فلا يتعرض أحد لإنكارها، ونسوا أمر الله الذي أوجب الكفر بها وبأهلها، وحرم إقرارها والسكوت عنها.
وإن سنة رسول الله ﷺ، وسيرة أصحابه في فتوح البلدان؛ أنهم يبدؤون قبل كل شيء بإزالة معابد الشرك والأوثان، ليطهروا عقول الناس وعقائدهم من خرافات الشرك والأوثان.
من ذلك أنه لما تدفقت جحافل الصحابة المظفرة على بلاد الأكاسرة، وعلم رستم قائد الفرس الأعلى أنها الهزيمة لا محالة، أرسل إلى سعد بن أبي وقاص أن أخبرونا بالأمر الذي تريدون منا، وما الغرض الذي أقدمكم على بلادنا؟ فكان جوابهم الذي لم يختلف أن قالوا: إنا نريد أن نخرج الناس من الشرك وعبادة المخلوقين إلى عبادة الله وحده، وأن نخرجهم من جور الأديان إلى عدل الإسلام، وأن نخرجهم من ضيق الدنيا إلى سعتها.
فهذا صنيع سلفكم الكرام من الصحابة والتابعين، وتابعيهم بإحسان، قد جاهدوا عليه بالحجة والبيان، والسيف والسنان، حتى اتسعت حضارة الإسلام اتساعًا عظيمًا لا يماثل ولا يضاهى ولا يضام، فاختطوا المدن، وأنشأوا المساجد، وأشادوا المكارم والمفاخر، ونشروا العلوم والمعارف وأزالوا الشرك والمنكرات والخبائث، فأوجدوا حضارة نضرة جمعت بين الدين والدنيا؛ أسسوا قواعدها على الطاعة، فدامت لهم بقوة الاستطاعة، وغرسوا فيها الأعمال البارة، فأينعت لهم بالأرزاق الدارة، أمدهم الله بالمال والبنين، وجعلهم أكثر أهل الأرض نفيرًا.
ذلك بأنها لما اتسعت الفتوح الإسلامية، وامتد سلطان المسلمين على الأقطار الأجنبية، لم يقصروا نفوسهم على استلذاذ الترف، ورخاء العيش وتزويق الأبنية فحسب، بل عكفوا جادين على تمهيد قواعد الدين، وهدم قواعد الملحدين، ونشر العلوم الإسلامية، وتعليم اللغة العربية.
ولما عرف سائر الأمم محاسن الإسلام وسماحته، وذاقوا حلاوته وعدل سادته، أخذوا يدخلون في دين الله أفواجًا أفواجًا طائعين ومختارين، ومن أراد البقاء منهم على دينه، فإنه آمن على نفسه وماله، لهم ما لنا وعليهم ما علينا.
وإنما ضعف المسلمون في هذه القرون الأخيرة، وساءت حالهم، وانتقص الأعداء بعض بلدانهم، ودخلت الوثنية في بعض بلدانهم، إنما كان ذلك كله من أجل أنه ضعف عملهم بالإسلام، وساء اعتقادهم فيه، وصار فيهم منافقون، يدعون إلى نبذه، وإلى عدم التقيد بحدوده وحكمه، ويدعون إلى تحكيم القوانين بدله؛ ولأجله صاروا من أسوأ الناس حالاً وأبينهم ضلالاً، وأشدهم اضطرابًا وزلزالاً، وصاروا جديرين بزوال النعم، والإلزام بالنقم.
فتقطعت وحدة المسلمين إربًا وأوصالاً، وصاروا شيعًا وأحزابًا؛ ففشى فيهم الفوضى والشقاق، وقامت الفتن على قدم وساق، يقتل بعضهم بعضًا، ويسبي بعضهم أموال بعض. ولن يرتفع عنهم هذا التطاحن والتلاحم إلا بمراجعة دينهم الكفيل بعلاج عللهم، وإصلاح مجتمعهم، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وتمسكوا بدينكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
[362] رواه مسلم من حديث أبي ذر عن الرسول ﷺ فيما يرويه من ربه عز وجل. [363] رواه ابن خزيمه وابن حبان من حديث أبي هريرة. [364] رواه النسائي من حديث أنس رضي الله عنه.