(39) التذكير بعيد الفطر
الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين على أمور الدنيا والدين، ونحمده ونشكره ونكبره أن جعلنا مسلمين، ثم يكبر تسعًا متوالية ويقول: الله أكبر كلما هل هلال وأبدر، الله أكبر كلما صلى مصل وكبر، الله أكبر كلما صام صائم وأفطر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
الحمد لله الذي شرع لعباده طريقة العبادة، ويسر وأنار قلوب أوليائه بنور طاعاته وبصر، ونقاهم بصالح أعمالهم من دون الذنوب وطهر، وجعل لهم بكمال صومهم عيدًا يعود في كل سنة ويتكرر، أحمده وهو المستحق لأن يحمد ويشكر، وأشهد أن لا إله إلا الله خلق فقدر، وشرع فيسر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صاحب اللواء والكوثر، نبي الله، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع هذا قام على قدمه الشريف حتى تفطر، وجاهد في الله حق جهاده فما توانى ولا تأخر، اللهم صل على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا الله وأطيعوه، وامتثلوا أمر ربكم ولا تعصوه، فإن أطعتموه لم يصلكم شيء تكرهونه، وإن عصيتموه عاقبكم بما لا تطيقونه، واعلموا رحمكم الله أنكم خرجتم إلى هذا المكان السعيد لقصد أداء صلاة العيد، تأسيًا بنبيكم عليه الصلاة والسلام، وإظهارًا لشكر نعمة إتمام الصيام، والهداية إلى الإسلام، وإن يومكم هذا يدعى يوم الجوائز، وهو أن كل إنسان لأجر عمله حائز، لأن سعيكم شتى، فمنكم من حظه القبول والغفران، ومنكم من حظه الخيبة والحرمان. فأما المحافظون على فرائض الطاعات، والمجتنبون للمنكرات، فعملهم مبرور، وسعيهم مشكور، وعيدهم عيد الفرح والسرور، قد حصلوا الحسنتين وفازوا بالفرحتين، فللصائم فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، فهنيئًا لهم، تقبل الله منهم.
أما التاركون لفرائض الطاعات، المرتكبون للمنكرات، وشرب المسكرات، فعيدهم عيد الخيبة والندامة، وغضب الرب عليهم يوم القيامة، ﴿فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ ٣١ وَلَٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ٣٢ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ يَتَمَطَّىٰٓ ٣٣ أَوۡلَىٰ لَكَ فَأَوۡلَىٰ ٣٤ ثُمَّ أَوۡلَىٰ لَكَ فَأَوۡلَىٰٓ ٣٥ أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَن يُتۡرَكَ سُدًى ٣٦﴾ [القيامة: 31-36].
«قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فَقَالَ: قَدْ أَبْدَلَكُمْ اللَّهُ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ »[359] هما عيدا أهل الإسلام، فلأجله شرع إظهار التجمل والزينة فيهما، والجهر بالتكبير في ليلتيهما، وعند الخروج إليهما، إشهارًا لشرفهما. وإكبارًا لأمرهما ﴿وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ [البقرة: 185].
الله أكبر، الله أ كبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عباد الله: إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه.
والدين - هو هذا السمح السهل الموصل بمن تمسك به إلى سعادة الدنيا والآخرة - رأسه الإسلام، وعموده الصلاة، وبقية أركانه الصيام والزكاة والحج. فالإسلام ليس هو محض التسمي به باللسان، والانتساب إليه بالعنوان، ولكنه ما وقر في القلب، وصدقته الأعمال، وقد جعل الله الصلاة والزكاة والصيام بمثابة محك التمحيص لصحة الإيمان، بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان، كما أنها الفرقان بين المسلمين والكفار، والمتقين والفجار؛ لأن الإسلام علانية، والإيمان في القلب.
فالمسلم حقًّا هو من يصلي مع المصلين، ويصوم مع الصائمين، ويؤدي زكاة ماله إلى الفقراء والمساكين، فيظهر إسلامه علانية للناس، بحيث يشهدون له بموجبه، والناس شهداء الله في أرضه، وهذه الشرائع تهذب الأخلاق، وتطيب الأعراق، وتزيل الكفر والشقاق والنفاق؛ لأنها تنزيل الحكيم العليم، شرعها من يعلم ما في ضمنها من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وأنها هي أسباب سعادتهم الدينية والدنيوية؛ لأن الله سبحانه لا يوجب شيئًا من العبادات، كالصلاة والزكاة والصيام، إلا ومصلحته راجحة، ومنفعته واضحة، ولا يحرم شيئًا من المحرمات، كالزنا والربا والقمار وشرب الخمر، إلا ومضرته واضحة، ومفسدته راجحة. فالتكاتف على العمل بشرائع الإسلام، هو الذي يوحد المسلمين ويؤلف بين قلوبهم، ويصلح ذات بينهم، ويجعلهم مستعدين للنصر على عدوهم.
دين من قام به ساد، وسعدت به البلاد والعباد، ومن ضيعه سقط في الذل والهوان والفساد ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍ﴾ [الحج: 18].
دين يحترم الدماء والأموال، ويقول: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»[360] ويقول: «لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ منه»[361]. أي بموجب الرضا التام، وفي محكم القرآن، ﴿وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ١٨٨﴾ [البقرة: 188].
دين صالح لكل زمان ومكان، قد نظم أحوال الناس في حياتهم أحسن نظام، فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه، وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء؛ لأنه ﴿يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ﴾ [الإسراء: 9] ولما تدفقت جحافل الصحابة المظفرة على بلاد الأكاسرة، وعلم رستم قائد الفرس الأعلى أنها الهزيمة لا محالة، أرسل إلى سعد بن أبي وقاص، أن أخبرونا بما تريدون منا، وما الغرض الذي أقدمكم على بلادنا؟ فكان جوابهم الذي لم يختلف، أن قالوا: نريد أن نخرج الناس من عبادة المخلوق إلى عبادة الله وحده، وأن نخرجهم من ضيق الدنيا إلى سعتها، وأن نخرجهم من جور الأديان إلى عدل الإسلام.
فهذا صنيع سلفكم الكرام من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، قد جاهدوا فيه بالحجة والبيان، والسيف والسنان، حتى اتسعت حضارة الإسلام اتساعًا عظيمًا لا يماثل ولا يضاهى ولا يضام، فاختطوا المدن، وأنشأوا المساجد، وأشادوا المكارم والمفاخر، ونشروا العلوم والمعارف، وأزالوا المنكرات والخبائث، فأوجدوا حضارة نضرة، جمعت بين الدين والدنيا، أسسوا قواعدها بالطاعة فدامت بقوة الاستطاعة، وغرسوا فيها الأعمال البارة، فأينعت بالخيرات الدارة. أمدهم الله بالمال والبنين، وجعلهم أكثر أهل الأرض نفيرًا.
وإنما ضعف المسلمون في هذه القرون الأخيرة، وساءت حالهم، وأنقص الأعداء أكثر بلدانهم، وذلك حينما ضعف عملهم بالإسلام، وساء اعتقادهم فيه، وصار فيهم منافقون يدعون إلى نبذه، وإلى عدم التقيد بحدوده وحكمه، ويدعون إلى تحكيم القوانين بدله، فعظم الخطب، واتسع الخرق، واشتدت غربة الدين.
ثم إنه نجم في هذه الأزمنة دعايات مبتدعة، كلها تحوم حول تنقص الإسلام، وعدم التسمي به، والانتساب إليه، وهي دعوة البعثية، ودعوة الشيوعية الاشتراكية، ودعوة القومية العربية. ولكل واحدة أنصار وأعوان، فتقطعت وحدة الإسلام إربًا وأوصالاً، وصاروا شيعًا وأحزابًا، ففشى من بينهم الفوضى والشقاق، وقامت الفتن على قدم وساق، يقتل بعضهم بعضًا، ويسبي بعضهم أموال بعض، بحجة الاشتراكية المبتدعة، التي ما أنزل الله بها من سلطان، وهذا العذاب الواقع بهم من التلاحم والتطاحن بينهم، فإنه والله لن يرفع عنهم حتى يراجعوا دينهم الكفيل بنجاح علاج عللهم، وإصلاح مجتمعهم. ومن نصائح نبيكم لكم، أنه ما نقض قوم عهد الله وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم شديدًا. ولن ننسى في هذا المقام مقالة ذلك الإمام - أي مالك بن أنس - عليه الرحمة والرضوان، قال: والله لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.
وفي الختام فإنه ما من بلد يفشو فيها الإلحاد والزندقة، فيكفر أهلها بالشريعة الإسلامية، ويتركون الصلاة والصيام الفرضية، وسائر الطاعات المرضية، ويستبيحون الجهر بالمنكرات، وشرب المسكرات الوبيئة، إلا فتح عليهم من الشر كل باب، وصب عليهم ربك سوط عذاب ﴿وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٢٥﴾ [الأنفال: 25].
فأفيقوا من رقدتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وتمسكوا بدينكم، قبل ﴿أَن تَقُولَ نَفۡسٞ يَٰحَسۡرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنۢبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّٰخِرِينَ ٥٦﴾ [الزمر: 56].
* * *
[359] أخرجه النسائي من حديث أنس بن مالك. [360] أخرجه البخاري من حديث أبي بكرة. [361] أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني والدارقطني من حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه.