متقدم

فهرس الكتاب

 

(38) الذكرى الرابعة في العشر الأخيرة من رمضان وبيان زكاة الفطر

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحا ت، وبالعمل بطاعته تطيب الحياة، وتفيض الخيرات، وتنزل البركات، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن الله سبحانه خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بتوحيده وطاعته، أوجب ذلك عليهم في خاصة أنفسهم، وأن يجاهدوا عليه أهلهم وأولادهم، فأوجب سبحانه على عباده الصلوات الخمس؛ مفرقة في أوقاتها المعروفة، وجعلها عمود دينهم، ورأس إيمانهم وأمانتهم.

وفرض عليهم زكاة أموالهم؛ طهرة تطهرهم، وجعلها بمثابة الدليل والبرهان على صحة إيمانهم وأمانتهم.

وكما فرض صوم شهر رمضان؛ لتمحيص تقواهم، وتكفير ذنوبهم، وليتبين به حقيقة من يطيع ربه في سرائه وضرائه فيما يحب وفيما يكره، فيصبح صائمًا صابرًا عن مطعومه ومشروبه لقصد رضا ربه ومحبوبه.

والله تعالى يقول: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِى وَأَنَا أَجْزِى بِهِ»[351].

وهذه الشرائع هي أم الفرائض والفضائل والناهية عن منكرات الأخلاق والرذائل، تهذب الأخلاق، وتطهر الأعراق، وتزيل الكفر والشقاق والنفاق، وتطبع في القلب محبة الرب. كما أنها بمثابة الفرقان بين المسلمين والكفار، والمتقين والفجار، وبمثابة محك التمحيص لصحة الإيمان، بها يعرف صادق الإسلام من أهل الكفر والفسوق والعصيان، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان.

ذلك بأن الله سبحانه يختص برحمته من يشاء، فيفضل إنسانًا على إنسان، ومكانًا على مكان، وزمانًا على زمان، وقد خص الله بالتفضيل شهر رمضان حيث أنزل فيه القرآن، وأوجب فيه على المؤمنين الصيام، وجعله شهر جد واجتهاد، ومزرعة العباد، وتطهيرًا للقلوب من الفساد، وقمعًا لشهوة الشره والعناد، فمن زرع فيه خيرًا حمد عاقبة أمره وقت الحصاد. شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار.

وقد قوضت الآن منه الخيام، وتقلصت منه الليالي والأيام، وإنه لنعم الشاهد بما عملتموه، والحافظ لما أودعتموه، إنه لأعمالكم بمثابة الخزائن المحصونة، والصناديق المصونة، وستدعون يوم القيامة لفتحها، يوم تجد كل نفس ما لها وما عليها، والرب ينادي عليها: «يَا عِبَادِى إِنَّمَا هِىَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ»[352].

«صعد النبي المنبر فقال: «آمين، آمين، آمين» قالوا: علام أمنت يا رسول الله؟ فقال: «جاءني جبريل عليه السلام قال: يا محمد، رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له، فأدخله الله النار فأبعده فيها، قل: آمين. قلت: آمين»»[353] فهذا الرجل الذي دخل عليه شهر رمضان؛ شهر النفحات، شهر إقالة العثرات، شهر مضاعفة الحسنات، شهر تكفير السيئات، ثم خرج ولم يحظ منه لا بمغفرة ولا برحمة ولا بإقالة عثرة ولا بقبول توبة، إنه لرجل سوء، قد سد باب الخير والرحمة عن نفسه حتى لم يبق للصلاح منه موضع، ولا لحب الخير من قلبه منزع، قد رضي لنفسه بأن يخسر حين يربح الناس، وأن يقعد ويرقد حين يصلي الناس، وأن يأكل ويشرب حين يصوم الناس، وإن هذا والله لهو الغاية في الإفلاس والإبلاس، ولا يرضى به سوى من سفه نفسه من الناس، كهؤلاء الإباحيين الملحدين الذين لا يتقيدون بالدين، الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وخرقوا سياج الشرائع، واستخفوا بحرمات الدين، واتبعوا غير سبيل المؤمنين، ويدعي أحدهم الإسلام بمعنى الجنسية؛ لا بالتزام أحكامه الشرعية، فتراه لا يصلي ولا يصوم.

وقد قلنا غير مرة إنه لا يستحل ترك الصلاة والزكاة والصيام عمدًا من غير عذر، سوى مرتد عن دين الإسلام، ترونه يمشي مع الناس في صورة إنسان، لكنه يعيش بأخلاق أخس حيوان؛ فهو شر من الكلب والخنزير، قد ساءت طباعه، وفسدت أوضاعه، فعصى رب العالمين، واتبع غير سبيل المؤمنين، ولم يأمر الله على لسان نبيه بقتل المرتد التارك لدينه إلا رحمة بمجموع الأمة أن تفسد بهم أخلاقهم، فإن الأخلاق تتعادى، والطباع تتناقل، والمرء على دين خليله وجليسه.

قتل هذا الإنسان ما أكفره، أمره ربه بالصلاة فتركها، وأمره بالزكاة فأكلها، وأمره بالصيام فأكل وشرب في نهار رمضان، ومع هذا الكفر المتظاهر البواح، فإنه يتسمى بالإسلام، قد جمع بين ضلال مع إصرار، وكفر مع استكبار، لا ندم يعقبه ولا استغفار، ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ كَانُواْ مُسۡلِمِينَ ٢ ذَرۡهُمۡ يَأۡكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلۡهِهِمُ ٱلۡأَمَلُۖ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ ٣ [الحجر: 2-3] ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱرۡكَعُواْ لَا يَرۡكَعُونَ ٤٨ وَيۡلٞ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡمُكَذِّبِينَ ٤٩ [المرسلات: 48-49].

وقد أنزل الله على المؤمنين في كتابه المبين التعزية والتسلية عن هؤلاء المرتدين. فقال سبحانه: ﴿وَلَا يَحۡزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡكُفۡرِۚ إِنَّهُمۡ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيۡ‍ٔٗاۗ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلَّا يَجۡعَلَ لَهُمۡ حَظّٗا فِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٌ ١٧٦ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلۡكُفۡرَ بِٱلۡإِيمَٰنِ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيۡ‍ٔٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ ١٧٧ [آل‌عمران: 176-177]. وقال: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرۡتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدۡبَٰرِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡهُدَى ٱلشَّيۡطَٰنُ سَوَّلَ لَهُمۡ وَأَمۡلَىٰ لَهُمۡ ٢٥ [محمد: 25].

إنه ما ظهر الإلحاد والزندقة في بلد، فكفر أهلها بالشريعة الإسلامية وتركوا الصلاة، والصيام الفرضية، وسائر الطاعات المرضية، إلا فتح عليهم من الشر كل باب، ﴿فَصَبَّ عَلَيۡهِمۡ رَبُّكَ سَوۡطَ عَذَابٍ ١٣ [الفجر: 13] ﴿وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٢٥ [الأنفال: 25].

هذا وإن باب التوبة مفتوح ما دام الأجل مفسوح، والعمر بآخره، وملاك الأمر خواتمه.

﴿فَمَن تَابَ مِنۢ بَعۡدِ ظُلۡمِهِۦ وَأَصۡلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ ٣٩ [المائدة: 39] فـ«الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ»[354]. وفي العشر من آخر هذا الشهر ترجى ليلة القدر حيث العمل فيها خير من العمل في ألف شهر، وقد نوه القرآن بفضلها، وحث النبي ﷺ على طلبها فقال في الحديث الصحيح: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»[355].

وكان النبي ﷺ يخلط العشرين الأول من رمضان بنوم وقيام؛ فإذا دخلت العشر الأخيرة أحيا ليله، وأيقظ أهله، وهجر فراشه، واجتهد في العبادة.

وكان يوقظ أهله، ويطرق باب علي وفاطمة، ويقول: «أَلَا تَقُومَانِ فَتُصَلِّيَانِ؟»[356] ثم يتلو: ﴿وَأۡمُرۡ أَهۡلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصۡطَبِرۡ عَلَيۡهَاۖ لَا نَسۡ‍َٔلُكَ رِزۡقٗاۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكَۗ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلتَّقۡوَىٰ ١٣٢ [طه: 132].

وكان يعتكف في العشر الأخيرة حرصًا على طلبها، واعتكف أصحابه معه. والاعتكاف هو لزوم مسجد بنية لله لقطع أشغاله وتفريغ باله، وخلوه لمناجاة ربه، وذكره وشكره ودعائه.

واعلموا رحمكم الله أن الله أوجب عليكم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، من أداها قبل صلاة العيد فهي زكاة مشروعة. ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات. وليست من الفطرة في شيء.

ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين، وهي زكاة بدن، تجب على الصغير والكبير، ولا تجب على الحمل في البطن.

قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: «كُنَّا نُعْطِيهَا فِى زَمَانِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ»، وفي رواية: «أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ»[357].

وإنما خص هذه الأصناف بالذكر، لكونها غالب ما يقتاتون في زمنهم، وفي بلدهم، فالحضر من سكان المدينة غالب قوتهم التمر والبر والشعير والزبيب، حتى إن البر النقي يعد من القليل، وقد توفي رسول الله ﷺ ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين وسقًا من شعير.

أما الأعراب فغالب قوتهم الأقط واللبن، فخص هذه الأصناف بالذكر من أجل كونها غالب قوتهم، والنقود قليلة الوجود. ولا ينفي عدم الاجتزاء بغير هذه الأصناف مما لم يذكر في الحديث.

فمن كان قوتهم الأرز، جاز أن يفطروا بالأرز، أو كان قوتهم الذرة أو الدخن جاز أن يفطروا بذلك. إذ هي من أوسط ما تطعمون أهليكم، لكون الحكمة فيها، هو إغناء الفقراء الشحاذين عن تكفف الناس بسؤالهم يوم العيد. لحديث «أَغْنُوهُمْ عَنْ الطَّوَافِ فِي هَذَا الْيَوْمِ »[358].

ومن العلماء من يقول بجواز إخراج القيمة في الفطرة نقودًا؛ دراهم أو ما يقوم مقامهما في العملة، إذا كانت أنفع للفقراء. وهذا هو ظاهر مذهب أبي حنيفة، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية لكون المقصود من زكاة الفطر سد حاجة الفقراء عن سؤال الناس يوم العيد، وهو محقق في القيمة. وقد أصبح أكثر الفقراء في البلدان المثرية يسخطون الطعام بالكلية ولا يقبلونه؛ لكونه لا يقوم بسد حاجتهم، ولا بحاجة من يعولونه من أهلهم وأولادهم، من نفقتهم وكسوتهم ليوم العيد. وإنما يطلبون الفطرة دراهم؛ ليشتروا بها حاجتهم وحاجة عيالهم، فمن أجل هذه الأسباب أفتينا الناس بجواز إخراج الفطرة دراهم بدلاً من الطعام، وقدر قيمة فطرة الشخص الواحد ستة ريالات قطرية لاعتبار هذا الزمان والمكان، بحيث أن كيلو الأرز يباع في السوق بريالين، والعالي بريالين ونصف، وهو غالب قوت البلد. وقدر فطرة الشخص كيلوان ونصف. فمن أخرج هذا القدر عن كل شخص ممن يعوله، فقد برئت ذمته من عهد فطرته. ومع القول بهذا فإننا لا ننكر بجواز التفطير بالطعام من التمر أو الأرز. ولا يجوز إيداعها عند أحد لانتظار فقير يقدم إلى البلد، ولا يجوز أن تدفع إلى غني، ولا إلى قوي متكسب، ولا يجوز أن يستخدم بها أجير، ويجوز أن تدفع فطر الجماعة إلى فقير واحد، كما يجوز أن تقسم فطرة الشخص الواحد بين فقيرين أو ثلاثة. (يتم تقدير قيمة الفطرة كل سنة بحسب قيمة مكوناتها في السوق عن طريق الجهة المختصة في كل بلد).

والفقير متى تحصل على فطر من الناس وجب عليه أن يفطر بها عن نفسه، وعن سائر من يعوله؛ لكونه قد ملكها ملكًا تامًّا. فجاز أن يفطر بها ومن أدركه العيد في هذه البلاد، وأهله وعياله في بلد آخر أخرج فطرة أهله مع فطرته في البلد الذي أدركه العيد فيه. والله تعالى يقول: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ١٤ وَذَكَرَ ٱسۡمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ ١٥ بَلۡ تُؤۡثِرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا ١٦ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰٓ ١٧ [الأعلى: 14-17].

نسأل الله أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.

* * *

[351] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [352] رواه مسلم من حديث أبي ذر الغفاري عن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه عز وجل. [353] الحديث بتمامه رواه الحاكم من حديث كعب بن عجرة وقال عنه: صحيح الإسناد ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث الحسن بن مالك عن أبيه عن جده، ورواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما واللفظ له برواية من حديث أبي هريرة. [354] رواه أحمد في مسنده ومسلم والترمذي من حديث أبي هريرة. [355] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [356] أخرجه ابن الأعرابي في معجمه من حديث علي. [357] أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد. [358] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى من حديث عبد الله بن عمر.