متقدم

فهرس الكتاب

 

(37) الذكرى الثالثة من رمضان

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبالعمل بطاعته تطيب الحياة، وتفيض بالخيرات، وتنزل البركات، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة نرجو بها النجاة والفوز بالجنات، وأشهد أن محمدًا رسول الله صاحب الآيات والمعجزات. اللهم صل على نبيك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فقد قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ ١٨٣ أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 183-184].

نادى الله عباده باسم الإيمان؛ بعدما هاجروا إلى المدينة ورسخ الإيمان في قلوبهم، وانقادت للعمل به جوارحهم؛ ولهذا تأخر فرض صيام رمضان إلى السنة الثانية من الهجرة، لاستعدادهم بكمال قوة الإيمان، لكون الإيمان هو أعظم وازع إلى أفعال الطاعات، وأعظم رادع عن مواقعة المنكرات، ومتى قوي الإيمان في القلب؛ نشطت الأعضاء على أداء الأعمال الشاقة، حتى تعود في نفسه سرورًا ولذة.

وهذا معنى قول النبي ﷺ: «إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ»[338].
وإذا حلت الهداية قلبا
نشطت في مرادها الأجسام
وفي صحيح مسلم عن العباس رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا رَسُولًا».

وهذه الصيغة أي: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لا توجد إلا في السور المدنيات، وقد قال بعض السلف: إذا سمعت الله يقول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فأصغ لها سمعك، فإنها خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه.

والصيام هو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع في نهار رمضان بنية خالصة لله. وهو عبادة دينية، ورياضة بدنية، وتأديب للشهوة الإنسانية، كي تتعود الصبر على طاعة الله، ثم الصبر عما حرم الله، فهو محض تمحيص للقوى التي حقيقتها أداء ما افترض الله، وترك ما حرم الله.

وأخبر سبحانه أنه كما فرضه علينا فقد فرضه على من كان قبلنا من الأمم، غير أنه يختلف صومنا عن صومهم في العدد والزمان، يقول الله تعالى: ﴿لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗا [المائدة: 48]. ثم قال: ﴿أَيَّامٗا مَّعۡدُودَٰتٖ أي قلائل. وهذه الأيام؛ هي رأس مال الإنسان، وموضع ربحه أو خسرانه. وإذا مات الإنسان وقد أنهى عمرًا طويلاً في الحياة؛ فإن كان من أهل الخير والمحافظين على الصيام والصلاة بشر بالخير. فيقال له: كم لبثت؟ فيقول: لبثت يومًا أو بعض يوم. فيقال له: نعم ما اتجرت في يوم أو بعض يوم.

ويؤتى بأنعم الناس في الدنيا من الجبارين المتكبرين، الذين أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، فيقال له: كم لبثت في الدنيا؟ فيقول: لبثت يومًا أو بعض يوم. فيقال له: بئس ما اتجرت في يوم أو بعض يوم.

أيها المستمعون الكرام إن الدنيا مزرعة الآخرة، وإن كل عامل سيقدم على عمله، وإنه لن يخرج من الدنيا حتى يبشر بحسن عمله أو سوء عمله، وإن شهر رمضان شهر جد واجتهاد ومزرعة للعباد، وتطهير للقلوب من الفساد، قمع لشهوة الشر والعناد، فمن زرع فيه خيرًا حمد عاقبة أمره وقت الحصاد.

وقد ثبت مضاعفة ثواب الصدقة والأعمال الصالحة في رمضان، ففي صحيح الترمذي عن أنس قال: سئل النبي ﷺ أي الصدقة أفضل؟ قال: «صَدَقَةٌ فِي رَمَضَانَ». لأن من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه؛ لهذا كان رسول الله ﷺ أجود ما يكون في رمضان، فيتضاعف جوده بالعطاء والصدقة والدعاء وتلاوة القرآن، وكان الصحابة والسلف الصالح الكرام، تبسط أيديهم بالصدقة والإحسان رجاء مضاعفة ثوابها في رمضان.

ومنهم من يجعله وقتًا لإخراج زكاة المال؛ لقصد أن يتقوى بها من يعطاها من الصوام.

والزكاة هي قنطرة الإسلام، وهي الدليل والبرهان على صحة الإيمان، وإنما سميت زكاة؛ من أجل أنها تزكي المال، أي تنميه، وتنزل البركة فيه، حتى في يد وارثه.

كما سميت صدقة من أجل أنها تصدق إيمان مخرجها، وكونه آثر طاعة ربه على محبة ماله.

فيا معشر التجار إن الله سبحانه قد أنعم عليكم بنعمة الغنى بالمال، وإن المال كاسمه ميال، إذ دوام الحال من المحال. وقد سمى الله المال خيرًا لمن أراد الله به الخير، وهذا الخير كالخيل؛ لرجل أجر وعلى رجل وزر. فمن رزقه الله من هذا المال رزقًا حسنًا؛ فليبادر بأداء زكاته، ولينفق منه سرًّا وعلنًا حتى يكون أسعد الناس بماله في حال حياته وبعد وفاته. فإن مال الإنسان ما قدم، وما نقصت الزكاة مالاً، بل تزيده ﴿وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ [التغابن: 16].

ومن سنن رمضان صلاة التراويح، فقد سنها رسول الله ﷺ قولاً منه وفعلاً.

وما شاع على ألسنة بعض الناس، وفي بعض كتب المتأخرين، من قولهم إن التراويح بدعة حسنة، فهذا لا أصل له، فليس في الإسلام بدعة حسنة بل كل بدعة سيئة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، والنبي ﷺ قال: «إن الله افترض عليكم صيام رمضان، وسننت لكم قيامه، فمن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا ويقينًا كان كفارة لما مضى»[339].

وسميت تراويح من أجل أن الناس يطيلون القيام والركوع والسجود فيها، وكانوا يعتمدون على العصي من طول القيام، ويستريحون بين كل أربع ركعات، ولا ينصرفون إلا في فروع الفجر.

وفي البخاري أن رسول الله ﷺ صلى ذات ليلة في المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة حتى غص المسجد بالناس، فلم يخرج إليهم فلما أصبح قال: «قَدْ رَأَيْتُ الَّذِى صَنَعْتُمْ وَلَمْ يَمْنَعْنِى مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلاَّ أَنِّى خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ»[340].

وقد زال هذا المحذور الذي خشيه رسول الله ﷺ بموته، وبقي الاستحباب على حاله. فتعتبر صلاة التراويح جماعة أنها سنة سنها رسول الله ﷺ لأمته. ويدل له حديث: «مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ»[341].

فكان الناس زمن النبي ﷺ، وزمن أبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر، يصلون أوزاعًا متفرقين، يصلي الرجل بالرجلين والثلاثة، ويصلي بالرهط ويصلي الرجل وحده، فقال عمر: أما إني لو جمعت هؤلاء على إمام واحد لكان أمثل. ثم عزم فجمع الرجال على أبي بن كعب، والنساء على تميم الداري. واستمر الأمر على هذه الحالة، فخرج عمر ليلة ورأى الناس يصلون مجتمعين فأعجبه ما رأى فقال: نعمت البدعة[342].

وليس معنى قول عمر رضي الله عنه: نعمت البدعة. أنه الذي ابتدع صلاة التراويح جماعة، فقد صلاها رسول الله ﷺ جماعة ثلاث ليال واعتذر عن مواصلة عمله؛ خشية أن تفرض على الناس. وإنما أراد بقوله: نعمت البدعة. يعني: تنظيم الناس للاجتماع لها؛ حيث ضم سائر الجماعات والأفراد لصلاة التراويح على إمام واحد.

والتراويح هي من قيام الليل، وليست محصورة بعدد، فبعضهم يصليها بأربعين، وبعضهم بست وثلاثين، وبعضهم يصليها بعشرين، وبعضهم يصليها بثمان، ويوتر بثلاث. وفي البخاري عن عائشة قالت: ما كان رسول الله ﷺ يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعًا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يوتر بثلاث.

ولنعلم أن لب الصلاة الخشوع، وأن صلاة بلا خشوع كجسد بلا روح. وقد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون؛ لأن الله يطلب من عباده تحسين العمل لا كثرة العمل ليبلوكم أيكم أحسن عملاً.

فما يفعله أكثر الناس في صلاة التراويح من السرعة الزائدة، وعدم الخشوع والطمأنينة في الركوع والسجود، فإنه خطأ، فإن صلاة ركعتين بخشوع وخضوع، في القيام والسجود والركوع، أفضل من أربع ركعات، وست ركعات بلا خشوع.

ويصليها الرجل مع الجماعة، أو في بيته. وتصليها المرأة مع الجماعة، أو في بيتها وهو أفضل.

والتراويح بما أنها من قيام الليل المرغب فيه؛ فإنها أيضًا من أسباب صحة الجسم، والعافية من السقم، فقد مر النبي ﷺ على أبي هريرة وهو يشكو بطنه، فرجفه برجله. ثم قال له: «قُمْ فَصَلِّ»[343] وروى الترمذي عن أبي أمامة أن النبي ﷺ قال: «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَقُرْبَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ، وَمَكْفَرةٌ لِلسَّيِّئَاتِ وَمنهاة للإثم»[344].

وذلك أن الصائم يأتي إلى الفطور وهو بحالة الجوع، وشدة الشهوة، فيأكل ويشرب إلى غاية الشبع ونهاية الامتلاء. ومن لوازم هذا الشبع والامتلاء استرخاء الأعضاء، وسريان الفتور فيها، فيستولي عليه الضعف، فكان في أشد الحاجة إلى التخفيف والتهضيم، وإعادة النشاط؛ لهذا شرع الله على لسان نبيه صلاة التراويح؛ التي لا يزال فيها بين قيام وقعود، وركوع وسجود، حتى ينصرف منها، وقد استعاد نشاطه، ودب فيه روح السرور والهناء والغبطة، فيتحلل عنه مضرة ذلك الامتلاء، وتبقى فيه منفعته، وهذه من حكم الشريعة التي جعلها بمثابة الشفاء من سائر الأدواء وأن العبادات الشرعية تجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، وبين مصالح الروح الجسد.

ثم إن تناول السحور وقت السحر سنة. وقد سماه رسول الله ﷺ بالغداء المبارك وقال: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتُهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ»[345]. وقال: «فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ»[346]. وقال: «تَسَحَّرُوا، فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةٌ»[347] وقال: «تَسَحَّرُوْا وَنِعْمَ السُّحُورُ التَّمْرُ»[348]. وقال: «تَسَحَّرُوا وَلَوْ بِجُرْعَةٍ مِنْ مَاءٍ»[349]. فأرشد النبي ﷺ أمته إلى تناول السحور ورغبهم فيه ولو بأقل شيء ليستعينوا بالسحور على الصيام، ثم يتعودوا القيام من آخر الليل لذكر الله والصلاة والاستغفار؛ لأن الله سبحانه ينزل آخر الليل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ فأحب رسول الله ﷺ من أمته بأن يستيقظوا في هذا الوقت المبارك؛ حتى يكون منهم من يذكر الله، ومنهم من يستغفر، ومنهم من يصلي، ومنهم من يدعو، ومنهم من يتلو القرآن، وحتى لا يكونوا من الغافلين.

فسماه السحور المبارك من أجل ما يترتب عليه من الفضائل، ومن أجل أن الله وملائكته يصلون على المتسحرين، وحسبك بها من فضيلة. ويتبعها ما هو أفضل منها، وهو شهود المتسحرين لصلاة الفجر في الجماعة، الذي ورد فيه حديث: «وَمَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِى جَمَاعَةٍ كَانَ کَمَن قَام لَيْلَةٍ كُله»[350]. وقال: «مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِى جَمَاعَةٍ كَانَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ»[351] وهذا كله من فضائل التيقظ للسحر.

أما الرجل الأكول النؤوم؛ الذي يملأ بطنه من أصناف الطعام ولحوم الأنعام، ثم ينام عليه بعد العشاء، ولعله لا يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس، أو إلاّ وقت الضحى، فلا شك أن هذه خلة ذميمة، وعادة لئيمة، فكم فاته برقاده الضحى من غنيمة.

إن التقلل من العشاء، والتيقظ وقت السحور فضيلة، فقد قيل: نم مبكرًا، وقم مبكرًا ترى الصحة أحسن ما ترى. وفي وقت السحر تنزل الرحمة، وتقسم الغنيمة، فما يطلع الفجر إلا وقد حاز القائمون الغنيمة، وحمدوا عند الصباح السرى. وما عند أهل الغفلة والنوم خبر مما جرى.
قد هيؤوك لأمر لو فطنت له
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
أسأل الله سبحانه، أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

[338] متفق عليه من حديث النعمان بن بشير. [339] رواه النسائي والبيهقي في شعب الإيمان من حديث عبد الرحمن بن عوف بإسناد حسن. [340] أخرجه البخاري من حديث عائشة. [341] متفق عليه من حديث أبي ذر. [342] أخرجه مالك من حديث عمر بن الخطاب. [343] أخرجه أحمد وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [344] «صحيح سنن الترمذي»، الحديث رقم 2814، المجلد الثالث، من منشورات مكتب التربية العربي لدول الخليج. [345] أخرجه أحمد من حديث أبي سعيد الخدري. [346] رواه النسائي من حديث عمرو بن العاص. [347] متفق عليه، ورواه أحمد والترمذي والنسائي من حديث أنس بن مالك. ورواه النسائي من حديث أبي هريرة ومن حديث ابن مسعود ورواه الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري. [348] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث السائب بن يزيد. [349] رواه أبو يعلى من حديث أنس، وهو ضعيف. [350] رواه أحمد في مسنده، ومسلم من حديث عثمان. [351] أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبي مالك الأشجعي عن أبيه وللحديث رواية في مسلم من حديث جندب بن عند الله بلفظ: «من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء».