متقدم

فهرس الكتاب

 

(36) الذكرى الثانية من رمضان

الحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه، وركب فيهم العقول ليعرفوه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ليشكروه، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة من يخاف ربه ويرجوه، وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله. اللهم صل على نبيك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه الذين آزروه ونصروه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون الكرام أحييكم بتحية الإسلام، وأبارك لكم في بلوغ شهر الصيام والقيام، وأسأل الله سبحانه أن يجعله مستهلاً علينا وعليكم بالأمن والإيمان، والتوفيق لصالح الأعمال.

إن شهر رمضان موسم عظيم، وشهر شريف كريم، هو غرة الزمان ومتجر أهل الإيمان، خصه الله بإنزال القرآن، وأوجب فيه على المؤمنين الصيام، وجعل صومه أحد أركان الإسلام الذي ما تم دين إلا به ولا استقام. فمن جحد وجوبه فإنه كافر بإجماع علماء الإسلام، «ومن أفطر يومًا منه عمدًا من غير عذر لم يقضه عنه صوم سائر الزمان»[331].

قال ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن: ثلاث أسس عليهم الإسلام؛ الشهادتان والصلاة والصيام.

استهل هذا الشهر ففرح به المؤمنون، وكرهه الزنادقة الملحدون. فالمؤمنون لا يزالون فيه في صلاة وصيام، ودعاء واستغفار وتلاوة قرآن، وبسط اليد بالصدقة والصلة والإحسان. فهم في نهاره صائمون صابرون، وفي ليلهم طاعمون شاكرون. أولئك هم المؤمنون حقًّا.

أما المنافقون فإنهم يستحلون فيه الإفطار، وتمد لهم فيه الموائد بالنهار، وقد جمعوا بين ضلال مع إصرار، وكفر مع استكبار، لا ندم يعقبه ولا استغفار. ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ كَانُواْ مُسۡلِمِينَ ٢ ذَرۡهُمۡ يَأۡكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلۡهِهِمُ ٱلۡأَمَلُۖ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ ٣ [الحجر: 2-3]. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱرۡكَعُواْ لَا يَرۡكَعُونَ ٤٨ [المرسلات: 48].

وقد أقسم رسول الله عليه الصلاة والسلام، أنه ما مرّ بالمسلمين شهر خير لهم من رمضان. يغشاكم الله فيه فينزل الرحمة، ويحط الخطيئة، ويستجيب الدعاء. ينظر الله إلى تنافسكم في الخيرات، وتسابقكم إلى الصلاة والأعمال الصالحات، وبسط أيديكم بالصدقات، فيباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيرًا، فإن المحروم من حرم فيه رحمة الله عز وجل.

والصوم عبادة دينية، ورياضة بدنية، وتأديب للشهوة الإنسانية لتتعود الصبر على طاعة الله، ثم الصبر عما حرم الله. وكان رسول الله ﷺ يبشر أصحابه بقدوم رمضان، ويقول: «إنه قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر كتب الله عليكم صيامه، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعًا. من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه.

وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد فيه في رزق المؤمن. من فطر فيه صائمًا كان له مثل أجره، من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء»[332].

ولأجل هذه الفضائل جرى تبادل التهاني بين المؤمنين في دخوله، بحيث يهنئ بعضهم بعضًا ببلوغه؛ لأن بلوغه نعمة عظيمة، ومنحة جسيمة في حق من أطاع الله واتقاه، إذ لا أفضل من مؤمن يعمر في الإسلام للتزود من الصلاة والصيام وصالح الأعمال، والموتى في قبورهم يتحسرون على زيادة في أعمالهم.

ويتمنون الرجعة إلى الدنيا ليعملوا أعمالاً صالحة. يقول المفرط منهم: ﴿رَبِّ ٱرۡجِعُونِ ٩٩ لَعَلِّيٓ أَعۡمَلُ صَٰلِحٗا فِيمَا تَرَكۡتُ [المؤمنون: 99-100] فلا يجابون إلى ما سألوا قد حيل بينهم وبين العمل، وغلقت منهم الرهون، فهم يتمنون العمل ولا يقدرون عليه. وأنتم تقدرون على العمل ولا تعملون.

والدنيا مزرعة الآخرة، تزرع فيها الأعمال الصالحات، من خرج منها فقيرًا من الحسنات والأعمال الصالحات ورد على الآخرة فقيرًا وساءت له مصيرًا.

وشهر رمضان أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار. تفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران، وذلك بسبب توسع الناس في العبادات وتنافسهم في الأعمال الصالحات التي من جملتها الإكثار من الصلوات والصدقات، وصلة القرابات والإحسان إلى المساكين والأيتام وذوي الحاجات، ثم الإكثار من الذكر والدعاء، والاستغفار وتلاوة القرآن وتكثير أيدي المفطرين من الصوم على الطعام.

فهذه الخلال جدير بأن يفتح لفاعلها أبواب الجنان، وتغلق عنه أبواب النيران، وأن يتسع بسببها الرزق في رمضان. وكان رسول الله أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن فيتضاعف جوده بالعطاء، والصدقة والإحسان، وتلاوة القرآن قدرًا زائدًا على الزمان؛ لأن الله سبحانه يختص برحمته من يشاء فيفضل إنسانًا على إنسان، ومكانًا على مكان، وزمانًا على زمان. وقد خص الله بالتفضيل شهر رمضان، على سائر شهور العام. فهو شهر جد واجتهاد، ومزرعة للعباد، وتطهير للقلوب من الفساد، وقمع لشهوة الشره والعناد، فمن زرع فيه خيرًا حمد عاقبة أمره وقت الحصاد، وفي الصحيحين: أن النبي ﷺ قال: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

وهذا التكفير، إنما يراد به صغائر الذنوب في قول الجمهور، أما كبائر الذنوب مثل الربا والزنا وشرب الخمر وقتل النفس وأكل أموال الناس، فهذه لا يكفرها الصيام ولا الصلاة ولا الحج، وإنما تكفر بالتوبة بشرطها ورد المظالم إلى أهلها.

لهذا يجب على المسلم أن يصون صومه عن كل ما يفسده أو ينقص ثوابه لكون الصيام قربانًا تقربونه إلى الله. يدع الصائم شهوته من مطعومه ومشروبه، لقصد رضا ربه ومحبوبه والله تعالى يقول: «الصَّوْمَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»[333].

ثم إن الصيام شعار وعنوان للمؤمنين، يمتازون به عن القوم الكافرين، فهو الفرقان بين المسلمين والكفار، والمتقين والفجار، كما أنه محك التمحيص للأمانة وصحة الإيمان.

فلو ضرب المسلم على أن يستبيح الفطر لما استباح الفطر أبدًا؛ لأن دينه سينهاه عن إحباط أعماله وإبطال صيامه، ونحمد الله أن هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

ثم إنه ليس الصيام عن مجرد الطعام والشراب قط، إنما الصيام عن اللغو والرفث، ومن لم يدع قول الزور والعمل به، والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه. فإذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن السب واللعن، والغيبة والنميمة والكذب؛ لأن الصوم جنة، يستجن به المسلم عن الإجرام والآثام، ورديء الكلام، وظلم الأنام، فإن سابه أحد أو شتمه أحد، وجب أن يلجم لسانه بلجام التقوى، وأن يتمسك من الورع بالعروة الوثقى، وليقل: إني صائم، كبحًا لنفسه عن التشفي والانتقام، وردعًا لخصمه عن الجريان في هذا الميدان، ومن كان الصوم له جنة في الدنيا عن الآثام، كان له جنة عن النار؛ لأن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان.

ومن أحكام الصيام الفقهية: أنه يجب الصوم على كل مسلم بالغ عاقل، ويؤمر به الصبي إذا طاقه للتمرين على العبادة. وقد رخص لكبير السن من رجل وامرأة بأن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينًا.

أما مختل الشعور، عديم المعرفة، فإنه لا صيام عليه ولا إطعام، لكونه مرفوعًا عنه القلم.

أما المريض الذي يزيد الصوم في مرضه، أو يؤخر من برئه، فإنه يفطر مع العزم على القضاء؛ لأن الله يحب أن تؤتى رخصه. أما إذا كان مرضه مزمنًا، أي ملازمًا له كمرض السل، أو القرحة داخل البطن، ويقول الأطباء إن الصوم يزيد في مرضه، أو يؤخر من برئه؛ فإنه يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينًا، وقدروا الإطعام بمد من الطعام، وإن أطعم المسكين من طعامه أكلة تامة فقد أدى الواجب.

ومن أكل أو شرب ناسيًا فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه، ولا قضاء عليه، وإن استيقظ فأكل وشرب ظانًّا أن الفجر لم يطلع، ثم تبين أن الفجر طالع فصومه صحيح ولا قضاء عليه أشبه الناسي. والنبي ﷺ قال: «عُفِيَ لِأُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»[334].

ومن استيقظ آخر الليل وعليه جنابة، ويخشى إن اشتغل بالغسل أن يطلع عليه الفجر ويفوته السحور، فإنه يجوز له أن يتسحر ويؤخر الغسل إلى بعد طلوع الفجر، لما ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ كان يصبح جنبًا من جماع ثم يغتسل ويصوم ولا يقضي، فعل ذلك للتشريع. ومن غلبه القيء فخرج بغير اختياره فصيامه صحيح. ويجوز للصائم أن يستاك أول النهار وآخره لما في البخاري عن عامر بن ربيعة قال: رأيت النبي ﷺ لا أعد ولا أحصي يستاك وهو صائم. والسواك مطهرة للفم، مرضاة للرب. وبمعناه غسل الأسنان بالمعجون، فإنه يجوز، وليحذر من دخوله إلى جوفه.

ومثله شم الطيب ومسه، فإنه جائز ولا يجرح صومه. ومن احتاج إلى ضرب إبرة في ظهره، أو في عضده، أو فخذه فإنه يجوز، وصيامه صحيح؛ لأن الصحابة كانوا يضعون الأدوية في الجروح والشجاج ولا يرونها مفطرة، قاله شيخ الإسلام ابن تيمية.

والمرأة إذا انقطع عنها دم الحيض بالليل، ورأت أمارة النقاء، فإنه يجب عليها أن تنوي الصيام وتصوم ولو لم تغتسل إلا بعد طلوع الفجر، أو بعد طلوع الشمس، وصيامها صحيح؛ لأنه لا يشترط للصوم الطهارة من الحدث، وإنما يشترط لصحته انقطاع دم الحيض فقط. ويجب عليها المبادرة بالاغتسال من حين ينقطع عنها الدم فتغتسل كما تغتسل للجنابة، ولا يلزمها أن تنقض شعر رأسها، بل يكفيها أن تروي أصوله بالماء؛ فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين. وكذلك النفساء، متى انقطع عنها دم النفاس بعد عشرة أيام من الولادة، أو بعد عشرين يومًا فإنه يجب عليها المبادرة بالاغتسال للصوم والصلاة، من حين ينقطع عنها الدم، لاعتبار أنها طاهرة من الطاهرات. وأما ما يفعله بعض النساء من كون إحداهن ينقطع عنها دم الحيض، أو دم النفاس، ثم تمكث اليوم واليومين لا تغتسل ولا تصوم ولا تصلي وفي كلها تقول أخشى أن يعاودني الدم فإن هذا خطأ وتفريط منها في عبادة ربها.

فمن واجب المسلمة أن تبادر إلى الاغتسال من حين ينقطع عنها الدم، ثم تصوم وتصلي، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين. أما المرأة من نساء البوادي فإنه متى انقطع عنها دم الحيض أو دم النفاس وليس عندها ماء تغتسل به تضرب التراب بيديها وتمسح به الوجه واليدين، تنوي بذلك الطهارة عن الحدث، وتعتبر طاهرة، ثم تصوم وتصلي، وتمس المصحف أو تقرأ القرآن، وتفعل كل ما يفعله النساء الطاهرات إلى أن تجد الماء فتغتسل به.

لقول النبي ﷺ: «الصَّعِيدُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ. فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ»[335] أي يغتسل به.

وإذا رأت شيئًا بعد الغسل من الصفرة، أو الكدرة فإنها لا تبالي بذلك، بل تمضي في صومها وصلاتها، لما روى البخاري عن أم عطية قالت: كنا لا نعد الكدرة ولا الصفرة بعد الطهر شيئًا. ومتى صامت المرأة ثم أفطرت بعد غروب الشمس، وبعد فطرها رأت شيئًا من دم الحيض ولم تدر هل حدث عليها قبل غروب الشمس أو بعدها فإن صيامها ذلك اليوم صحيح، ولا قضاء عليها؛ لأن الشك لا يرفع اليقين. والأصل الطهارة، والدم الخارج من الحامل ليس بحيض بل هو دم فساد يشبه دم الرعاف، فلا تترك من أجله الصوم ولا الصلاة، بل تصلى وتصوم وصومها صحيح.

والنبي ﷺ قال: ««لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال، ولا الفجر المستطير في الأفق، إن بلالاً يؤذن بالليل؛ ليوقظ نائمكم، ويرد غائبكم. فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» وكان أعمى لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت. أصبحت»[336].

وقال: «إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا وَغَرَبَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ شَاءَ أَمْ أَبَى»[337].

والله تعالى يقول: ﴿وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِ [البقرة: 187].

أسأل الله سبحانه أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين.

* * *

[331] رواه البخاري في صحيحه تعليقًا من حديث أبي هريرة. [332] رواه ابن خزيمة في صحيحه من حديث سلمان. [333] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [334] رواه البيهقي في السنن الكبرى من حديث ابن عمر، والحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس، والطبراني في الكبير والأوسط والصغير، وابن حبان في صحيحه، والدارقطني، وابن ماجه، جميعًا من حديث ابن عباس. [335] رواه البزار من حديث أبي هريرة وإسناده صحيح. [336] أخرجه مسلم بلفظ آخر من حديث عبد الله بن عمر وبعضه من حديث سمرة بن جندب. [337] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى.