متقدم

فهرس الكتاب

 

(34) الذكرى لآخر شعبان والاستعداد بالعمل لدخول شهر رمضان

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة من قال ربي الله ثم استقام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، سيد الأنام، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه البررة الكرام.

أما بعد: فيا أيها المستمعون الكرام، إنكم الآن في آخر شهر شعبان وعما قليل يستهل عليكم شهر رمضان الذي هو غرة الزمان، ومتجر أهل الإيمان، خصه الله بإنزال القرآن، وأوجب فيه على المؤمنين الصيام، وجعل صومه أحد أركان الإسلام الذي ما تم دين إلا به ولا استقام.

فمن جحد وجوبه فهو كافر بإجماع علماء الإسلام. ومن أفطر يومًا منه عمدًا من غير عذر لم يقضه عنه صوم سائر الزمان، قال ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن: ثلاث أسس عليهن الإسلام: الشهادتان، والصلاة، والصيام.

ومن خصائص شهر شعبان هو أن رسول الله ﷺ كان يكثر الصيام فيه فيقول: «إنه شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ»[314] أما ما ورد في فضله، وأنه تكتب فيه الآجال، وكذا ما ورد في ليلة النصف منه، وأنه يغفر فيها لأكثر من عدد شعر غنم كلب، وأن النبي ﷺ أحيا ليلة النصف بالصلاة، فكل هذا من الكذب على الرسول باتفاق علماء الحديث. وأما حديث إذا انتصف شعبان فلا تصوموا إلا فيما افترض عليكم فقد صح عن علماء الحديث عدم صحة هذا الحديث، وأنه يجوز أن يصوم من آخر شعبان كما يصوم من أوله لا فرق في ذلك؛ غير أنه لا يتقدم رمضان بصوم يوم قبله أو يومين، فإن هذا يوم الشك الذي نهى رسول الله ﷺ عن صومه.

أقبل شهر رمضان فرحب به المؤمنون، وكرهه الزنادقة الملحدون. فالمؤمنون في رمضان في صلاة وصيام، وتلاوة قرآن، وبسط يد بالصدقة والإحسان، فهم في نهارهم صائمون صابرون، وفي ليلهم طاعمون شاكرون، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم المتقون. أما الملحدون فإنهم يستحلون فيه الإفطار، وتمد لهم الموائد بالنهار، قد جمعوا بين ضلال مع إصرار، وكفر مع استكبار، لا ندم يعقبه ولا استغفار ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ كَانُواْ مُسۡلِمِينَ ٢ ذَرۡهُمۡ يَأۡكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلۡهِهِمُ ٱلۡأَمَلُۖ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ ٣ [الحجر: 2-3] إنه ينبغي لنا قبل استهلال رمضان أن نحاسب أنفسنا، وأن نتوب إلى الله من سيئات أعمالنا، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والله يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه، والتائب من ذنبه، المحافظ على فرائض ربه؛ ينتظر الرحمة والفوز بالجنة. والمصر على معصيته، المتكبر عن طاعة ربه، ينتظر حلول العقاب والنقمة. وكل عامل سيقدم على عمله ولن يخرج من الدنيا حتى يبشر بحسن عمله، أو سوء عمله، وإنما الأعمال بخواتيمها. وخير الناس من طال عمره وحسن عمله. وشر الناس من طال عمره وساء عمله.

إن صيام رمضان عبادة دينية، ورياضة بدنية، وتأديب للشهوة البهيمية، أوجبه وشرعه من يعلم ما في ضمنه من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وأنه من أسباب سعادتهم الدينية والبدنية؛ لأن شرائع الإسلام منزلة على جلب المصالح، ودفع المضار، فلا يوجب الله شيئًا من الواجبات كالصلاة والزكاة والصيام إلا ومصلحته راجحة، ومنفعته واضحة، ولا يحرم شيئًا من المحرمات، كالربا والزنا وشرب الخمر، إلا ومضرته واضحة، ومفسدته راجحة.

ومن حكمة الصوم أن الله شرعه لتظهر به عبودية العبد للرب، في سرائه وضرائه، فيطيع ربه فيما يحب، وفيما يكره، فيمسك صائمًا صابرًا عن مطعومه ومشروبه، في سبيل رضا ربه ومحبوبه، والله يقول: «الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»[315]. فالمسلم لو ضرب على أن يستبيح الفطر في نهار رمضان، لما استباح الفطر أبدًا؛ لكون إيمانه يمنعه عن إحباط أعماله وهذا هو العنوان على صحة الإيمان؛ لأن الإيمان الصحيح هو أعظم وازع إلى أفعال الطاعات، وأعظم رادع عن مواقعة المنكرات.
لن ترجع الأنفس عن غيها
ما لم يكن منها لها زاجر
ومن حكمة الصيام أن الله جعله بمثابة الفرقان بين المسلمين والكفار، والمتقين والفجار، فهو بمثابة محك التمحيص لصحة الإيمان، به يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان، ﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِ [الأنعام: 125] فيفرح بذكره، ويندفع إلى القيام بفرضه ونفله؛ من صلاته وصيامه وزكاته، وسائر واجباته، منشرحًا بذلك صدره طيبة به نفسه.
وإذا حلت الهداية قلبا
نشطت في مرادها الأجسام
يقول الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ ٢ [العنكبوت: 2] فحكمة الرب تأبى أن يدع الناس على حسب ما يدعون بألسنتهم، بحيث يقول أحدهم أنا مسلم، أنا مؤمن، أشهد أن لا أله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، بدون أن يختبر صحة دعواهم بالأعمال التي افترضها الله عليهم، فإن قاموا بما أوجب الله عليهم فقد صح إيمانهم، وصدق قولهم فعلهم، ولهذا قال: ﴿وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ [العنكبوت: 3]. أي اختبرنا الأمم من قبلهم، بالشرائع والفرائض؛ كفريضة الصلاة، وفريضة الزكاة، والصيام ﴿فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ [العنكبوت: 3] أي في دعوى إيمانهم، فقاموا بواجبات دينهم من صلاتهم، وزكاتهم، وصيامهم﴿وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ [العنكبوت: 3] أي: الذين يقولون: ﴿ءَامَنَّا بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَلَمۡ تُؤۡمِن قُلُوبُهُمۡۛ [المائدة: 41] ولم تنقد للعمل به جوارحهم، وصار حظهم من الإسلام؛ هو محض التسمي به، والانتساب إلى أهله بدون عمل به، ولا انقياد لحكمه، يقول الله تعالى: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ ٨ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ٩ [البقرة: 8-9] فقد أخبر الله بأنه امتحن بالشرائع من كان قبلنا من الأمم، ﴿لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلۡخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَيَجۡعَلَ ٱلۡخَبِيثَ بَعۡضَهُۥ عَلَىٰ بَعۡضٖ فَيَرۡكُمَهُۥ جَمِيعٗا فَيَجۡعَلَهُۥ فِي جَهَنَّمَۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ ٣ [الأنفال: 37] من ذلك فريضة الصيام، فقد فرض على من كان قبلنا صيام خمسين يومًا؛ لكنهم يجيزون للقسيسين والرهبان بأن يغيروا من شريعة الرب ما يشاؤون وما يشتهون. فلما رأى القسيسون أن الصيام تطول مدته عليهم، ويحول بينهم وبين ما يشتهون، أخذوا يسقطون منه عشرة، فعشرة، حتى أسقطوه بالكلية، وجعلوا الصيام عن مجرد كل ذي روح، وجعلوا صومهم في خاصة الربيع، لهذا لعنهم الله في كتابه على تغيير شرائعه، وتبديل فرائضه، فقال سبحانه: ﴿فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ لَعَنَّٰهُمۡ وَجَعَلۡنَا قُلُوبَهُمۡ قَٰسِيَةٗۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦ [المائدة: 13] فعلمنا من فحوى هذه الآية أن المحافظة على فرائض الله أنها حظ من الله يخص به من يشاء من عباده.

وهذا الذم ينطبق على كل من فسق عن أمر ربه، وترك فرائضه واستحل محارمه، كهؤلاء الذين أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، وخرقوا سياج الشرائع، واستخفوا بحرمات الدين، واتبعوا غير سبيل المؤمنين، ويتسمى أحدهم بالإسلام، بمعنى الجنسية لا بالتزام أحكامه الشرعية، وقد أخبر النبي ﷺ أن للإسلام صوًى ومنارًا كمنار الطريق يعرف به صاحبه. وروى الإمام أحمد من حديث أنس أن النبي ﷺ قال: «الإسلام علانية والإيمان في القلب». ومعنى كون الإسلام علانية أن المسلم على الحقيقة لا بد أن يظهر إسلامه علانية للناس؛ بحيث يرونه يصلي مع المصلين، ويصوم مع الصائمين، ويؤدي زكاة ماله إلى الفقراء والمساكين، فيظهر إسلامه علانية للناس، بحيث يشهدون له بموجبه، والناس شهداء الله في أرضه.

أما من يتسمى بالإسلام، وهو لا يصلي ولا يصوم، ولا يؤدي الزكاة الواجبة في ماله، فلا شك أن إسلامه لا حقيقة له، وإنما هو إسلام باللسان، يكذبه الحس والوجدان، والسنة والقرآن، ومن ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان.

فاعملوا بإسلامكم تعرفوا به، وادعوا الناس إليه تكونوا من خير أهله. فإنه لا إسلام بدون عمل. لهذا نقول إنه لا يستحل ترك الصلاة والفطر في نهار رمضان عمدًا من غير عذر سوى مرتد كافر بدين الإسلام. ترونه يمشي مع الناس في صورة إنسان، لكنه يعيش بأخلاق أخس حيوان. فهو شر من الكلب والخنزير، قد عصى رب العالمين، واتبع غير سبيل المؤمنين، ولم يأمر سبحانه بقتل التارك لدينه من أمثاله إلا رحمة بمجموع الأمة أن تفسد بهم أخلاقه فإن الأخلاق تتعادى والطباع تتناقل.

والمرء على دين خليله وجليسه، واعتبروا الناس بأخدانهم. قُتِل هذا الملحد ما أكفره، أمره ربه بالصلاة فتركها، وأمره بالزكاة فأكلها، وأمره بالصيام فأكل وشرب في نهار رمضان. ومع هذا الكفر المتظاهر البواح، نراه يتسمى بالإسلام، قد جمع بين ضلال مع إصرار، وكفر مع استكبار، لا ندم يعقبه، ولا استغفار ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ كَانُواْ مُسۡلِمِينَ ٢ ذَرۡهُمۡ يَأۡكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلۡهِهِمُ ٱلۡأَمَلُۖ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ ٣ [الحجر: 2-3].

فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.

[314] رواه الإمام أحمد في مسنده، والنسائي، والبيهقي في شعب الإيمان، جميعًا من حديث أسامة بن زيد. [315] متفق عليه من حديث أبي هريرة.