(33) فضل رَجب وشعبَان
الحمد لله العفو الغفور، الرؤوف الشكور، الذي وفق من أراد هدايته لمحاسن الأمور، ومكاسب الأجور، فعملوا في حياتهم أعمالاً صالحة لوفاتهم، يرجون بها تجارة لن تبور، وأشهد أن لا إله إلا الله، بيده مواقيت الأعمار ومقادير الأمور، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى كل عمل مبرور، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن الشهور والأعوام، والليالي والأيام؛ كلها مواقيت الأعمال، ومقادير الآجال، فهي تنقضي جميعًا، وتمضي سريعًا، والذي أوجدها وخصها بالفضائل وأودعها هو باق لا يزول، ودائم لا يحول، وهو في كل الحالات إله واحد، ولأعمال عباده رقيب مشاهد، يقلب عباده بفنون الخدم، ليسبغ عليهم فواضل النعم، ويعاملهم بغاية الجود والكرم.
فما يبدو يوم من الأيام، ولا شهر من الشهور، إلا ولله فيه على عباده وظيفة من وظائف طاعاته، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته؛ يصيب به من يشاء من عباده، فالسعيد من اغتنم ممر الأيام والليالي والساعات، وتقرب إلى الله فيها بوظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة يأمن فيها من النار وما فيها من اللفحات وفي الحديث «اطْلُبُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ، وَتَعَرَّضُوا نَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ لِلَّهِ نَفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَسَلُوا اللَّهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ، وَأَنْ يُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ»[303]. والله سبحانه لم يجعل لعمل المؤمن منتهى إلا الموت يقول الله سبحانه: ﴿وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ ٩٩﴾ [الحجر: 99] وقال: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ ٥٦﴾ [الذاريات: 56]. والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله من الأقوال والأفعال، كالصلاة والزكاة والصدقات والصيام، وسائر أفعال البر والإحسان؛ لأن كل عمر يخليه المرء من طاعة الله فقد خسره، وكل ساعة يغفل فيها عن ذكر الله تكون عليه حسرة وترة، وخيركم من طال عمره وحسن عمله، وشركم من طال عمره وساء عمله، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «قال الله عز وجل: ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، وأسد فقرك، وإن لا تفعل ملأت قلبك شغلاً، ولم أسد فقرك»[304] ومعنى تفرغ لعبادتي أي العبادة التي أوجب الله عليك. فلا تشتغل عنها بأهل ولا مال، وفي القرآن المنزل ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُونِ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾ [البقرة: 197] وكان من دعاء بعض السلف: اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان.
ويسأل بعض الناس عن صيام رجب هل هو مشروع أو مكروه؟ فالجواب: أنه مهما فعل الإنسان من الطاعة والإحسان فإنه يجده مدخرًا له عند ربه في كفة حسناته، والتعبد بالصيام فيه فضل كبير، ورجب هو من الأشهر الحرم المحترمة عند الله، ولم يثبت عن رسول الله ﷺ النهي عن صيامه، بل ثبت عن رسول الله ﷺ أنه كان يكثر من صيام شعبان، ويقول: «إنه شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ»[305] فدل الحديث على أن الناس يصومون من رجب بعضه، ولم ينكر النبي ﷺ عليهم. وأما قول الفقهاء ويكره إفراد رجب بالصوم، فيعنون بذلك كونه يفرد رجب بصومه كله؛ لأنه ليس من هدي النبي ﷺ أنه يصوم شهرًا كاملاً غير رمضان. وقالوا: إنه من عادة الجاهلية. أما الذي له عادة أنه يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، أو يصوم من رجب شيئًا من الأيام، فإنه لا بأس بذلك، ويؤجر على صيامه في رجب، كما يؤجر على صيامه في غيره من سائر الشهور، ومهما صام الإنسان بنية لله، فإن الله يأجره على صيامه بالأجر الجزيل، كما في الحديث أن النبي ﷺ قال:«الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ وَصَلاَةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ»[306] أيضًا تقول أم سلمة: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لاَ يُفْطِرُ. وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لاَ يَصُومُ. وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلاَّ رَمَضَانَ وَمَا رَأَيْتُهُ فِى شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِى شَعْبَانَ»[307] ويقول: «إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ يَغْفُلُ النَّاسُ فِيْهِ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ».
والصيام بما أنه طاعة للرحمن، وعلامة على صحة الإيمان، فإنه من أسباب الصحة للأبدان كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «صُوْمُوْا تَصِحُّوْا»[308] وروي: «أَنَّ لِكُلِّ شَىْءٍ زَكَاةٌ وَزَكَاةُ الْبَدَنِ الصَّوْمُ»[309] ومن المشاهد المحسوس أن الذين يتطوعون بالصيام، أنهم من أنعم الناس بالاً وأصحهم أجسامًا، وأطولهم أعمارًا، وأقدرهم على معاناة الأشغال الشاقة؛ لأن الله يعطيهم على الطاعة قوة ونشاطًا ولأن للطاعة ضياء في الوجه، ونورًا في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في الجسم، ومحبة في قلوب الناس. يقول الله تعالى: ﴿وَأَنِ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِ يُمَتِّعۡكُم مَّتَٰعًا حَسَنًا إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى﴾ [هود: 3].
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: أوصاني خليلي ﷺ بثلاث خصال: أن أصلي ركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام، وأن أصوم من كل شهر ثلاثة أيام.
فمن وفقه الله للعمل بهذه الخصال الثلاث؛ التي من جملتها صيام ثلاثة أيام من كل شهر، سواء كان من أوله، أو من وسطه، كالأيام البيض، أو من آخره؛ لأن اليوم بعشرة أيام بموجب التضعيف. فصوموا يومًا شديدًا حره لحر يوم النشور، وصلوا في ظلمة الليل لظلمة القبور، وتصدقوا بصدقة السر لشر يوم عسير.
ولأن النوافل من الصلاة والصيام يكمل بها خلل الفرائض إن لم يكن صاحبها أتمها؛ لأن الله سبحانه أول ما ينظر في أعمال العبد يوم القيامة في صلاته، فإن كملت فقد أفلح ونجح، وإن نقصت قال الله: «انظروا ما كان لعبدي من تطوع فكملوا به فريضته»[310] وكذلك سائر الأعمال تجري على هذا المنوال. ولأنها من الأسباب التي تحبب الرب إلى العبد لحديث: «وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ»[311]
ولهذا قال: أن أصلي ركعتي الضحى، وهما خير من الدنيا وما فيها، وفي الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلاً مطلوب منه أن يتصدق عن كل مفصل بصدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة، وتأتي الرجل فتحمله على دابته أو سيارته صدقة، أو ترفع له متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، ويجزي عن ذلك ركعتان يركعهما من الضحى، فهي بمثابة الصدقة عن سائر هذه الأعضاء وقد صلى النبي ﷺ في بيت أم هانئ يوم الفتح ثماني ركعات وذلك ضحى، ولهذا يستحب فعلها في البيت؛ لأنها من الأسباب التي تدخل في البيت البركة وسعة الرزق، وتحف أهل البيت الملائكة، وتغشاهم الرحمة، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «اجْعَلُوا مِنْ صَلاَتِكُمْ فِى بُيُوتِكُمْ، فإن الله جاعل في بيوتكم من صلاتكم خيرًا وَلَا تَتَّخِذُوا بُيُوتكُمْ قُبُورًا»[312] أي تهجرونها من فعل نوافل الصلاة فيها، وعلى كل حال فإنه لا أفضل من مسلم يعمر في الإسلام لتسبيحة أو تهليلة أو صدقة أو صلاة ركعة أو صيام يوم... وهنا حديث يسمعه بعض الناس وهو قوله: «إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا تَصُومُوا إِلَّا فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ» رواه أهل السنن. لكن الأئمة ضعفوا هذا الحديث، وحكموا ببطلانه، وأنه يجوز للإنسان أن يصوم ما شاء بعد منتصف الشهر إلا أنه لا يجوز أن يصوم يوم الشك لقول النبي ﷺ: «لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ»[313] ومثله الحديث الوارد في فضل النصف من شعبان، وأنه يكتب فيه الآجال، ويغفر فيه لأكثر من شعر غنم كلب؛ فإنه حديث باطل لا صحة له، والتجمع في هذا اليوم لقصد فضله بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، ومثله التجمع في سبع وعشرين من رجب؛ لزعمهم أنه وقت الإسراء والمعراج؛ فإن هذا غير صحيح ولا ثابت، فإنه لم يحفظ بطريق النقل الصحيح الشهر الذي أسري برسول الله ﷺ، فيه فهذا التجمع في وقته يعتبر من البدع، أشبه التجمع للمولد، فكلها من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان فاتبعوا ولا تبتدعوا.
وإن الموتى في قبورهم يتمنون الزيادة في أعمالهم، ويتمنون أنهم أحياء مثلكم ليعملوا أعمالاً صالحة، وقد حيل بينهم وبين العمل، وغلقت منهم الرهون. يقول أحدهم: ﴿رَبِّ ٱرۡجِعُونِ٩٩ لَعَلِّيٓ أَعۡمَلُ صَٰلِحٗا فِيمَا تَرَكۡتُۚ كَلَّآۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَاۖ وَمِن وَرَآئِهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ١٠٠﴾ [المؤمنون: 99-100] فهم يتمنون العمل ولا يقدرون عليه، وأنتم تقدرون على العمل ولا تعملون، وأنتم الآن في شهر شعبان، فمن كان عليه شيء من رمضان فليبادر بقضائه ثم يبيت العزم لصيام رمضان، فإن الإنسان بخيرٍ ما نوى الخير. كما أن من أتى فراشه ومن نيته أن يقوم من الليل، فغلبه النوم، فإنه يكتب له قيام ليله، ويكون نومه عليه صدقة. وكان النبي ﷺ إذا غلبه النوم عن قيام ليله، صلى من النهار ثماني ركعات.
أسأل الله أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره، وشكره وحسن عبادته.
* * *
[303] رواه ابن أبي الدنيا أبو بكر في كتاب الفرج بعد الشدة والحكيم في نوادره والبيهقي وأبو نعيم في الحلية كلهم من حديث أنس بن مالك. [304] رواه الحاكم من حديث معقل بن يسار وقال: صحيح الإسناد. [305] من حديث رواه أحمد والطبراني من حديث أنس بن مالك. ورواه النسائي من حديث أسامة ابن زيد. [306] من حديث رواه الترمذي من حديث معاذ وقال: حديث حسن صحيح. [307] متفق عليه من حديث عائشة. [308] رواه الطبراني من حديث أبي هريرة. [309] رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة. [310] رواه أهل السنن أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه، والإمام أحمد في مسنده، والطبراني في الأوسط، وأبو يعلى في مسنده، جميعًا من حديث أبي هريرة. [311] رواه البخاري من حديث أبي هريرة. [312] متفق عليه عن ابن عمر بدون لفظ: «فإن الله جاعل في بيوتكم من صلاتكم خيرًا». [313] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.