متقدم

فهرس الكتاب

 

(32) تفسير سُورة الجمعة

الحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه. وركب فيهم العقول ليعرفوه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنه ليشكروه. وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة مخلص يخاف ربه ويرجوه، وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله. اللهم صل عليه، وعلى آله وأصحابه الذين آزروه ونصروه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن الله سبحانه قد افترض على عباده المؤمنين وجوب العمل بشرائع الدين، ومن آكدها الصلوات الخمس المفروضة؛ التي هي عمود الديانة، ورأس الأمانة، تهدي إلى الفضائل، وتكف عن الرذائل، تذكر بالله الكريم الأكبر، وتصد عن الفحشاء والمنكر. وآكدها الجمعة التي هي عيد الأسبوع، والتي هي أفضل من عيد الأضحى وعيد الفطر. والجمعة هي أفضل يوم طلعت عليه الشمس.

وفي صحيح البخاري أن النبي ﷺ قال: « أَضَلَّ اللَّهُ عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ وَكَانَ لِلنَّصَارَى يَوْمُ الأَحَدِ فَجَاءَ اللَّهُ بِنَا فَهَدَانَا اللَّهُ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ». وقد قال النبي ﷺ على أعواد منبره: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ»[297] رواه مسلم من حديث ابن عمر وأبي هريرة، والختم: هو: الغلق على القلب بحيث لا يدخله الهدى ولا يتخلص منه الشقاء.

وكان من هدي النبي ﷺ أنه يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة والمنافقين، وربما قرأ فيهما بسبح والغاشية، وكان على الإجمال يحب قراءة المسبحات؛ لفضل ما اشتملت عليه من الأحكام والمواعظ العظام. والله تعالى يقول: ﴿فَذَكِّرۡ بِٱلۡقُرۡءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ [ق: 45] وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ ٱلۡمَلِكِ ٱلۡقُدُّوسِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَكِيمِ ١ [الجمعة: 1] إن معنى التسبيح هو التنزيه والتقديس لله سبحانه. ولهذا أكثر سبحانه من ذكره.

والتسبيح، هو أثقل ما يجعل في ميزان العبد يوم القيامة؛ لحديث: «كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَن خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَان، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَان: سُبْحَان اللَّه وَبِحَمْدِهِ سُبْحَان اللَّه الْعَظِيم»[298] وصلت إليكم معشر الأمة رسالة من أبيكم إبراهيم مع نبيكم محمد ﷺ، فروى الترمذي من حديث ابن مسعود أن النبي ﷺ قال: «لقيت إبراهيم ﷺ ليلة أسري بي فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِأْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلامَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ، عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَغِرَاسُهَا: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ»[299].

ثم قال: ﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّ‍ۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ ٢ [الجمعة: 2].

الأميون هم العرب أطلق عليهم اسم الأمية من أجل أنهم لا يكتبون ولا يقرؤون، وليس عندهم بمكة مدارس، ولا كتب، أشبهوا الأعراب المتنقلة. وقد سمى الله نبيه أميًّا من أجل أنه لا يكتب، ولا يقرأ المكتوب. فقال سبحانه: ﴿وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءٖۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِ‍َٔايَٰتِنَا يُؤۡمِنُونَ١٥٦ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ١٥٧ [الأعراف: 156-157].

وأمية الرسول هي معجزة من معجزات نبوته، وليست من سنته. وإنما خص الله نبيه بالأمية، صيانة وحماية للوحي الذي جاء به، لئلا تحتف به الظنون الخاطئة، والأوهام الكاذبة، فيقولوا: تعلمه من كذا، أو كتبه من كتاب كذا، يقول الله سبحانه: ﴿وَمَا كُنتَ تَتۡلُواْ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذٗا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ ٤٨ بَلۡ هُوَ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَۚ وَمَا يَجۡحَدُ بِ‍َٔايَٰتِنَآ إِلَّا ٱلظَّٰلِمُونَ ٤٩ [العنكبوت: 48-49]. وقد قيل: كفاك بالعلم في الأمي معجزة. وهذه الأمية بما أنها معجزة من معجزات نبوته، فقد جاء بمحاربة الأمية وتقليلها.

ولهذا أول ما أنزل الله من وحيه قوله سبحانه: ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ ٢ ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ ٣ ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ ٤ [العلق: 1-4].

فقوله: ﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّ‍ۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ أي يعرفون نسبه وصدقه وأمانته. ﴿يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ ويفسرها لهم، ويسألونه عما أشكل عليهم منها، يقول ابن مسعود: كنا إذا تعلمنا عشر آيات لم نتجاوزهن حتى نتعلم معانيهن والعمل بهن[300].

وقوله: ﴿وَيُزَكِّيهِمۡ أي بالمحافظة على الفرائض والفضائل واجتناب منكرات الأخلاق والرذائل؛ لأن هذه هي التي تزكي النفوس وتطهرها، وتنشر في العالمين فخرها وشرف ذكرها.

و﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ٩ وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا ١٠ [الشمس: 9-10]. أي قد أفلح من زكى نفسه بالطاعات، والمحافظة على الصلوات، في الجمع والجماعات، وقد أفلح من زكى نفسه بأداء الزكاة، وقد أفلح من زكى نفسه بصلة القرابات، وبسط اليد بالصدقات، والإحسان إلى المساكين والأيتام، وذوي الحاجات، والتفريج على المكروبين والمنكوبين من ذوي الهيئات، وقد أفلح من زكى نفسه بالصدق والأمانة، وأداء الحقوق إلى أهلها، والتعفف عن الظلم، وعن المال الحرام؛ لأن هذه الأعمال هي التي تزكي الإنسان، وتنشر في العالمين فخره وشرف ذكره. وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى فكن طالبًا للنفس أعلى المراتب كما أن المنكرات وشرب المسكرات، وترك فرائض الطاعات، والتخلق بالكذب والخيانة، ومنع الحقوق الواجبة، وأكل المال الحرام؛ كل هذه تدنس النفوس وتدسيها، وتنشر في العالمين أشنع ذكرها، ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍ [الحج: 18].

ثم قال: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ فالكتاب؛ القرآن، والحكمة؛ السنة ﴿وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ أي أن الناس قبل الإسلام، وقبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام، كانوا في جهالة جهلاء، وضلالة عمياء، يقتلون أولادهم خشية الفقر، ويقتلون بناتهم خشية العار، يعبدون الأشجار والأحجار والقبور؛ كاللات والعزى، وكانوا مستذلين بين كسرى وقيصر، قد سادهم الغرباء في أرضهم، وأذلهم الأجانب في عقر دارهم، لم يستقلوا استقلالاً تامًّا إلا بالإسلام، ولم تعرفهم الأمم، وتتحدث بصولتهم، وتخشى دولتهم إلا بالإسلام. وبعد بعثة محمد عليه الصلاة والسلام.

فالإسلام أنشأ العرب نشأة مستأنفة؛ خرجوا من جزيرتهم والقرآن بأيديهم يفتحون به ويسودون، فهو السبب الأعظم الذي به نهضوا، وفتحوا وسادوا وشادوا، وبلغوا المبالغ كلها من المجد والرقي، وتحولوا بهدايته من البداوة إلى الحضارة، ومن الجفاء والغلظة إلى اللين والرحمة، ومن العداوة والقسوة إلى الأخوة والمودة، ومن الفرقة والاختلاف إلى الوحدة والائتلاف، ومن الجفاء والجهل والأمية إلى العلم والحضارة والمدنية واستبدلوا بأرواحهم الجافية الجاهلية أرواحًا كريمة دينية صيرتهم إلى ما صاروا إليه من عز وعلم، ومنعة وعرفان.

وقد أنجزهم الله ما وعدهم به في القرآن في قوله: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡ‍ٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ٥٥ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ ٥٦ [النور: 55-56].

وصدق الله وعده فكانوا هم ملوك الأمصار بعد أن كانوا عالة في القرى والقفار، يعز على أحدهم شبع جوعته، وستر عورته، كما في صحيح مسلم عن عتبة ابن غزوان أنه قال: لقد رأيتني وأنا سابع سبعة من أصحاب النبي ﷺ، مالنا طعام نأكله إلا ورق الشجر، وإني التقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن أبي وقاص، فاتزرت بنصفها، واتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحد إلا وهو أمير على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيمًا، وعند الله حقيرًا.

وقال قتادة - وهو الشاهد المشاهد لحالهم - قال: إن العرب قبل الإسلام، وقبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام، كانوا أذل الناس ذلًّا، وأشقاهم عيشًا، وأجوعهم بطونًا، وأعراهم ظهورًا، وأبينهم ضلالاً، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم من حاضر أهل الأرض شر منزلة منهم، حتى جاء الله بالإسلام، فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلهم به ملوكًا على رقاب الناس، فبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر.

وقد بشرهم النبي ﷺ بهذا الفتح قبل وقوعه كما في صحيح البخاري أن النبي ﷺ كان في بيت أم حرام بنت ملحان وقال: ««لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ، مُلُوكٌ عَلَى الْأَسِرَّةِ، أَوْ مِثْلُ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ». قالت أم حرام: ادع الله يا رسول الله أن يجعلني منهم، فقال: «أَنْتِ مِنْهُمْ». فغزت مع زوجها عبادة بن الصامت. فسقطت عن دابتها، فماتت رضي الله عنها».

ثم أخبر أن هذا الخير الذي فضلهم به، وهذا الهدى والنور الذي جاء به رسول الله ﷺ، ليس هو مخصوصًا بالأول دون الآخر، فقال سبحانه: ﴿وَءَاخَرِينَ مِنۡهُمۡ لَمَّا يَلۡحَقُواْ بِهِمۡۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ ٣ [الجمعة: 3]. ﴿ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ ٤ [الجمعة: 4]. فهذا الفضل، وهذا الخير هو مشترك بين الصحابة وبين من بعدهم؛ كل على حسب عمله، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه. مع العلم أن الفضل للمتقدم، وللصحابة مزية بصحبتهم لرسول الله ﷺ وجهادهم معه، لا يساميهم فيها أحد، كما في الصحيحين عن عمران بن حصين أن النبي ﷺ قال: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم - لا أدري أذكر مرتين أو ثلاثًا - ثم يجيء قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن». وفي صحيح الترمذي أن النبي ﷺ قال: «ومثل هذه الأمة؛ مثل المطر، كما يوجد الخير في أول المطر؛ فإنه قد يوجد في آخره». وأخبر سبحانه: ﴿وَءَاخَرِينَ مِنۡهُمۡ لَمَّا يَلۡحَقُواْ بِهِمۡ هم الغرباء في زمانهم، النزاع من القبائل، قوم صالحون، قليل في قوم سوء كثير، يَصلحون إذا فسد الناس، ويُصلحون ما أفسد الناس من السنة، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «الْمُتَمَسِّكُ بِسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي لَهُ أَجْرُ مائة شَهِيدٍ »[301].

ثم قال: ﴿مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ ثُمَّ لَمۡ يَحۡمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلۡحِمَارِ يَحۡمِلُ أَسۡفَارَۢاۚ بِئۡسَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ ٥ [الجمعة: 5]. فمعنى ﴿حُمِّلُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ: أي كلفوا العمل بها فلم يعملوا بها. وهذا الخطاب ليس مختصًا باليهود، وإنما هو عام لجميع الناس. فمعناه بالضبط: مثل الذين حملوا القرآن؛ أي كلفوا العمل به فلم يعملوا به؛ كمثل الحمار يحمل أسفارًا أي يحمل كتبًا فوق ظهره، لا يدري ما فيها، ولا ينتفع بها؛ لأن الاعتبار في القرآن هو بعموم لفظه، لا بخصوص سببه، فهو يتمشى في خطابه على حد:
إياك أعني واسمعي يا جاره

نظيره قوله تعالى: ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَسۡتُمۡ عَلَىٰ شَيۡءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ [المائدة: 68] فمعناه بالضبط: يا أهل القرآن لستم على شيء حتى تقيموا القرآن. وقد قال بعض السلف: إذا قال الله يا بني إسرائيل؛ فإن بني إسرائيل قد مضوا! وإنما يعني أنتم.

إن الذي يستمع للخطبة ولا ينتفع بها، ولا يعمل بها؛ فإن مثله كمثل الحمار الذي يحمل فوق ظهره كتبًا لا يدري ما فيها. وفي حديث ابن عباس أن النبي ﷺ قال: «مَنْ تَكَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ فَهُوَ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً، من تكلم والإمام يخطب؛ فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا، ومن قال لصاحبه: أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَا، ومن لغا فلا جمعة له»[302] إن من يستمع إلى الخطيب وهو يقول: ﴿حَٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ [البقرة: 238] وهو يتركها أو يسمعه يقول: ﴿وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ [البقرة: 277] وهو يأكلها، أو يسمعه يقول: ﴿كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ [البقرة: 183] وهو يأكل ويشرب في نهار رمضان، أو يسمع قوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُواْ ٱلرِّبَوٰٓاْ أَضۡعَٰفٗا مُّضَٰعَفَةٗ [آل‌عمران: 130] وهو يرابي بكل ماله، ويرى أن الحلال ما حل بيده، أو يسمع الخطيب يقول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٩٠ [المائدة: 90] وهو يدمن على شربها صباحًا ومساءً إنه بمثابة من يقول: ﴿سَمِعۡنَا وَعَصَيۡنَا وَٱسۡمَعۡ غَيۡرَ مُسۡمَعٖ [النساء: 46]. ومعلوم أن فائدة الاستماع الاتباع. وقد مدح الله الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. ومتى كان يستمع هذه المواعظ من القرآن والسنة من الخطيب ولا يتبعها؛ فإن مثله كمثل الحمار الذي يحمل كتبًا فوق ظهره ﴿مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِ [الجمعة: 5].
زوامل للأخبار لا علم عندهم
بمتقنها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا
بأوساقه أو راح ما في الغرائر
ثم قال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلۡبَيۡعَۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٩ [الجمعة: 9].

إن الجمعة واجبة على كل مسلم في جماعة، إلا على أربعة: مملوك، وامرأة، وصبي، ومريض. كما ثبت بذلك الحديث، وسميت الجمعة جمعة لاجتماع الناس لها؛ لأنها عيد الأسبوع. وهي أفضل من عيد الفطر والأضحى ولهذا حرم الفقهاء تعداد الجمع إلا لضرورة تقدر بقدرها. فأمر الله بالسعي إليها، وأخبرهم بأن حضورها والمحافظة عليها خير لهم من الدنيا وما فيها؛ لأن الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما. فيجب السعي إليها على من بينه وبين المسجد قدر فرسخ، وهو ما يقدر بمسير ساعة بالأقدام، ودبيب الأجمال بالأحمال.

ثم قال: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرٗا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ١٠ [الجمعة: 10] أي متى فرغتم من صلاة الجمعة التي تركتم لها البيع والشراء، فانتشروا في الأرض، وبيعوا واشتروا، وابنوا واغرسوا، واشتغلوا في سائر الحرف المباحة.

ولهذا كان عراك بن مالك - أحد التابعين - إذا فرغ من صلاة الجمعة، أمسك بعضادة باب المسجد فقال: اللهم أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك كما وعدتني، إنك خير الرازقين.

نسأل الله سبحانه أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره، وحسن عبادته.

* * *

[297] رواه مسلم عن الحكم بن ميناء أن عبد الله بن عمر وأبا هريرة حدثاه أنهما سمعاه من رسول الله ﷺ. [298] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [299] رواه الترمذي من حديث ابن مسعود، وقال: حديث حسن. والقيعان جمع قاع وهو المكان الواسع المستوي من الأرض. [300] أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار من حديث عبد الله بن مسعود. [301] أخرجه البيهقي في الزهد الكبير من حديث ابن عباس والطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة بلفظ «فلة أجر شهيد». [302] رواه الإمام أحمد في مسنده، والهيثمي في مجمع الزوائد من حديث ابن عباس.