متقدم

فهرس الكتاب

 

(31) جواز الأدوية المباحة والتطعيم

الحمد لله الكريم المنان، ذي الجلال والإكرام، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة من قال ربي الله ثم استقام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه البررة الكرام.

أما بعد:

فقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال: «الْمُؤْمِن الْقَوِيّ خَيْر وَأَحَبّ إِلَى اللَّه مِنْ الْمُؤْمِن الضَّعِيف، وَفِي كُلّ خَيْر، اِحْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجَز. وَإِنْ أَصَابَك شَيْء فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْت لَكَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّه وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ " لَوْ " تَفْتَح عَمَل الشَّيْطَان». فهذا الحديث يعد من النصيحة الصحيحة، والموعظة الصريحة؛ لأن النبي ﷺ بعث بجوامع الكلم، فكان يجمع الحكم الكثيرة في الكلمات القليلة.

فقوله: «الْمُؤْمِن الْقَوِيّ خَيْر وَأَحَبّ إِلَى اللَّه مِنْ الْمُؤْمِن الضَّعِيف»؛ لأن المؤمن القوي هو الذي يأخذ بوسائل الحزم، وفعل أولي العزم؛ فيستعمل من الأمور أقواها، ويسلك من الطرق أتقاها، فينفع نفسه، وينفع أهله، وينفع سائر الناس. ولهذا قال: «واستعن بالله ولا تعجز». فأمره بأن يستعين بالله في أموره كلها، وأن يحارب العجز؛ لأن العجز أضر ما ابتلي به الشخص. وكان النبي ﷺ يستعيذ بالله من الهم والحزن، ومن العجز والكسل. وإذا اقترن العجز بالتواني نتج من بينهما الخيبة والحرمان.
العجز ضر وما بالحزم من ضرر
وأحزم الحزم سوء الظن بالناس
لا تترك الحزم في أمر تحاذره
فإن أمنت فما بالحزم من باس
فمن أنواع العجز: الإعراض عن استعمال الأدوية المجربة؛ لرفع البلاء، ودفع الوباء. وإن الله سبحانه خلق الناس، وخلق لهم جميع ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب واللباس والأدوية، وغير ذلك. فكل الأدوية والعقاقير التي يستعملها الأطباء للوقاية أو لرفع البلاء أو دفعه؛ هي في الحقيقة من مخلوقات الله التي أنبتها في أرضه؛ رحمة منه بعباده، وإحسانًا منه لهم، بإيصال نفعها. وخص كل نوع منها بنوع من المرض يزاوله ويشفيه. وركب في الإنسان العقل والسمع والبصر ليتم بذلك استعداده لتناول منافعه ومصالحه، واستعمالها في وقاية صحته، وحفظ بنيته.

وكان من هدي النبي ﷺ فعل التداوي في نفسه والأمر به لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه؛ لأنه من دينه وشرعه. ويقول: «تَدَاوَوْا يا عباد الله، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْهَرَمُ»[278].

وفي رواية أخرى: «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً - أي ما أصاب أحدًا بداء إلا قدر له دواء - عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ».

وقيل للنبي ﷺ: «يا رسول الله، أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقيها، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئًا؟ قال: «لَا، بَلْ هِيَ مِنْ قَدَرِ اللهِ»».[279] «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ»[280] فتضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، وإن الله بحكمته ورحمته جعل لكل داء يحل بالناس دواء يبرئه، بحيث يرفعه ويدفعه. وإن هذا لا ينافي التوكل على الله.

كما أن الإنسان إذا اشتد عطشه دفع داء العطش بالماء، ودفع داء الجوع بالأكل، ودفع داء البرد بالثياب والملاحف والخفاف، فهذا مثله. والوقاية خير من العلاج. والدفع أيسر من الرفع. والشفاء قبل الإشفاء.

فاستعمال الأدوية المباحة والوقاية النافعة هي من تمام تحقيق التوحيد؛ لأن كل ما شرعه رسول الله ﷺ وأمر به فإنه من الدين الذي يجب اتباعه، والعمل به، كيف والرسول ﷺ يقول: «يَا عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ مَا أنزَل مِنْ دَاءً إِلَّا أنزَلَ لَهُ شِفَاءً»[281] ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الطعن في الدواء قدح في الشرع، والإعراض عن الأسباب نقص في العقل.
وعاجز الرأي مضياع لفرصته
حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
مثال ذلك كون الإنسان يصاب بالتخمة فمن الحزم إزالتها بالأدوية الكريهة، أو المسهلة لإخراج الفضلات؛ لأن الإنسان في الدنيا كما قيل:
نحن في دار بليات
ندفع آفات بآفات
ولأن الدواء الكريه المر في حالة نفعه وحسن عاقبته يعتبر حلوًا، كما أن الأكل الحلو الضار، يعتبر مرًّا في مضرته وسوء عاقبته. وقد قيل:
وخذ مرًّا تصادف منه نفعًا
ولا تعدل إلى حلو يضـر
فإن المر حين يسـر حلو
وإن الحلو حين يضـر مر
فهذا التطعيم عن الأمراض الوبيئة قد جربته الأمم على اختلاف أديانهم وأوطانهم، ووجدوا له من التأثير في الوقاية من الأمراض القتالة، وفي الشفاء به ما يشهد الواقع بصحته، ولا طبيب إلا ذو تجربة. لهذا نجد بعض الناس يتقاعس - توكلاً منه بزعمه - عن استعمال هذه الأدوية التي هي التطعيم ونحوه، توكلاً منهم بزعمهم على الله، ولم يشعروا بأن تركهم للأسباب عجز ينافي التوكل على الله، وإنما المتوكل الصحيح، هو الذي يستعمل أسباب الوقاية، ثم يتوكل على ربه، كما في الحديث: أن رجلاً قال: «يا رسول الله ناقتي أعقلها وأتوكل، أم أطلقها وأتوكل؟ فقال: «بَلْ اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ»»[282].

قول النبي ﷺ: «تَدَاوَوْا وَلاَ تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ»[283] «وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ دَاءٍ إلَّا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءٌ»[284] فكل هذا فيه شحذ للهمم، وتنشيط للأمم في طلب الدواء، والتفتيش عليه في مظانه عند الأطباء. ولما عاد النبي ﷺ سعد بن أبي وقاص بمكة وقد اشتد به المرض. قال: «ادعوا له الحارث بن كلدة»[285] فصنع له دواء فاستعمله فبرئ بإذن الله؛ لأن الدواء أمان للصحة وقت المهلة. فقول بعض العوام من الجهال إن كان الله قدر علي المرض فإن العلاج لن يدفعه، هو قول باطل، وحجة داحضة، نظير حجة المشركين في قولهم: ﴿لوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشۡرَكۡنَا وَلَآ ءَابَآؤُنَا [الأنعام: 148] فإن المرض يقع بقدر الله، والدواء الذي يرفعه ويعالج به هو من قدر الله، والمؤمن يدفع قدر الله بقدر الله. ويفر من قدر الله إلى قدر الله، وهذا رسول رب العالمين ﷺ الذي هو كما وصفه ربه ﴿لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨ [التوبة: 128] يأمر باتقاء اسباب البلاء والمباعدة عن مواقع الوباء، مع قوة توكله على الله، ويقول في الحديث الصحيح: «لا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ»[286] ويقول: «فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأَسَدِ»[287] ولما قدم رجل مجذوم يريد أن يهاجر منعه رسول الله ﷺ من دخول البلد. وقال: «ارْجِعْ فَقَدْ بَايَعْنَاكَ»[288]. وجاء قوم إلى النبي ﷺ فقالوا: يا رسول الله إن لنا بلدًا هي ريفنا ومصيفنا، ولكننا إذا نزلناها ضعفت أجسامنا، وقل عددنا. فقال رسول الله ﷺ: «اتركوها ذميمة فَإِنَّ مِنَ الْقَرَفِ التَّلَفَ»[289]. فنهى رسول الله ﷺ عن سكنى هذه القرية الوبيئة، وأخبر أن مقاربة الوباء عين الهلاك والتلف. وكان أصحاب رسول الله ﷺ يتقون أسباب البلاء، ويتباعدون عن مواقع الوباء، مع قوة توكلهم على الله.

ولما سافروا صحبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى الشام، واقتربوا من البلد، تلقاهم أبو عبيدة بن الجراح وأخبرهم أن الوباء وقع بالبلد، فنزل عمر بالناس، وقال: يا ابن عباس ادع لي المهاجرين قال: فدعوتهم له؛ فاستشارهم. أيقدم البلد أم يرجع بأصحاب رسول الله ﷺ فاختلفوا عليه: فمنهم من قال توكل على الله واقدم البلد. ومنهم من قال: ارجع بأصحاب رسول الله ﷺ. ثم قال: ادع لي الأنصار. فدعوتهم له. فاتفقت كلمتهم على أن قالوا: نرى أن ترجع بأصحاب رسول الله ﷺ ولا تقدم بهم على الوباء. فأمر مناديًا ينادي: إني مصبح على ظهر فتأهبوا للرجوع. فقال أبو عبيدة: أفرارًا من قدر الله يا عمر؟ قال: نعم؛ نفر من قدر الله إلى قدر الله[290]. فهذا دليل على أن الصحابة كانوا يستعملون الأسباب والوسائل التي تحفظ صحتهم، وتقيهم من الوقوع في الوباء، مع قوة توكلهم على ربهم، واعتقادهم أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

لهذا صار من الواجب علينا أن ننصح المسلمين في استحباب استعمال الأدوية، والتطعيم عند دعاء الحاجة إليها؛ لأنها من أسباب حفظ صحتهم، وصحة أهلهم وعيالهم، كما جربوا التطعيم في دفع الجدري عن أولادهم. وإن المعرض عن استعمال هذه الأدوية المجربة يعتبر ناقص العقل، ضعيف الرأي، مضياعًا لفرصته، تاركًا للعمل بآداب دينه، ونصائح نبيه؛ لأن الدين والدعوة إليه ليس مقصورًا على الصلاة والصيام؛ ولكنه شامل لكل ما ثبت عن الله ورسوله ﷺ من الأمر والنهي، والحكمة.

ومتى استعمل الإنسان ما يلزمه من وسائل الحزم، والأسباب اللازمة، فمتى غلبه أمر فلن يعود على نفسه باللائمة؛ لأن نجاح الأمور بيد الله. وهذا معنى قول النبي ﷺ: «اسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجَز، وَإِنْ أَصَابَك شَيْء فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْت كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّه وَمَا شَاءَ فَعَلَ»[291].

لكن هنا أشياء تعلقت بها قلوب بعض الضعفة وهي تضر ولا تنفع، مثل تشاؤمهم بشهر صفر، أو تشاؤمهم بيوم الأربعاء، فلا يسافرون فيه، ويزعمون أنه يوم نحس مستمر، أو يتشاؤمون بما بين العيدين، فلا يتزوجون فيه، فهذا التشاؤم والاعتقاد إنما نشأ من الجاهلية الأولى، وهو من الطيرة التي هي من الشرك، والطيرة على من تطير وإلا فإن هذه الأيام لا تفعل شيئًا من الشر في أنفسها! بل هي كسائر أيام السنة التي ينزل فيها الخير والنصر ويستجاب فيها الدعاء. وكذلك ما يفعله بعض سخفة العقول من تعليق الجوامع على أجسامهم، وعلى أولادهم ودوابهم، يزعمون أنها تدفع عنهم الجان وعين الإنسان، وهذا يدخل في الشرك. فإن من علق شيئًا فقد أشرك. وفي الحديث: «مَنْ عَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ»[292] وقد دعا عليه رسول الله ﷺ فقال: «مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَلاَ أَتَمَّ اللَّهُ لَهُ»[293] لهذا يقع التسلط من الشياطين على الذين يعلقون الجوامع، وتسمى الحروز والعزائم والتمائم. ولهذا ورد في الحديث: ««مَنْ قَطَعَ تَمِيمَةً - أي جامعة من إنسان - كَانَ كَعَدْلِ رَقَبَةٍ» لكونه أنقذه من عبودية الشيطان».[294] والمؤمن يلتجئ إلى ربه، ويتوكل عليه، ويكفيه أن يقول: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لاَمَّةٍ»[295] ونحو ذلك من الأوراد الشرعية.

وأما الرقية بالآيات القرآنية، والأوراد النبوية، فإنه لا بأس بها. وقد رقى النبي ﷺ ورقي، وكان إذا جاءه المريض قال: بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ يُؤْذِيكَ، مِنْ كُلِّ عَينٍ حَاسِدٍ، وَمِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ، اللهُ يَشْفِيْكَ»[296].

فانتبهوا من غفلتكم، وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.

* * *

[278] رواه أحمد في مسنده وأصحاب السن أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم من حديث ابن مسعود وإسناده صحيح. [279] رواه الحاكم في المستدرك من حديث حكيم بن حزام، وابن ماجه من حديث أبي خزامة. [280] رواه مسلم، والحاكم في المستدرك، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي في السنن وشعب الإيمان، والنسائي في الكبرى، والطبراني في المعجم الكبير. [281] رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة بإسناد حسن. [282] رواه البيهقي في شعب الإيمان، والترمذي من حديث أنس بن مالك، وابن حبان في صحيحه من حديث عمرو بن أمية. [283] رواه أبو داود والبيهقي من حديث أبي الدرداء. [284] رواه البخاري وابن خزيمة في صحيحه من حديث أبي هريرة. [285] رواه أبو داود من حديث سعد بن أبي وقاص. [286] رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة. [287] رواه البخاري من حديث أبي هريرة. [288] رواه مسلم من حديث الشريد بن سويد. [289] رواه أبو داود من حديث فروة بن مسيك. [290] متفق عليه من حديث ابن عباس. [291] رواه مسلم من حديث أبي هريرة. [292] رواه النسائي من حديث أبي هريرة. [293] رواه أحمد وأبو يعلى بإسناد جيد، والحاكم من حديث عقبة بن عامر، وقال: صحيح الإسناد. [294] رواه ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير. [295] رواه البخاري من حديث ابن عباس. [296] رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ: «بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَىْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ، أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ، اللَّهُ يَشْفِيكَ، بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ».