(30) فضل النظافة وكونها من الإيمان
الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، ومن همزات الشياطين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله. اللهم صل على نبيك ورسولك، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن الله بعث نبيه محمدًا بدين كامل، وشرع شامل، يجمع بين مصالح الروح والجسد، وبين مصالح الدنيا والدين. لا خير إلا دل عليه، وهدى الناس إليه، ولا شر إلا نهى عنه، وحذرهم منه، فيما يتعلق بخاصة الإنسان في نفسه، وفيما يتعلق بمجتمع الناس؛ لأن الدين مبني على جلب المصالح وتكثيرها، ودفع المفاسد وتقليلها، يهدي الناس إلى التي هي أصلح لهم وأصح لأبدانهم وبلدهم. من ذلك النظافة، فقد يتسامح الناس بأمرها، ويتساهلون في شأنها، وهي من أمر دينهم، بل هي خصلة من خصال الإيمان، فإن الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. والنبي ﷺ قال: «إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صدقة»[268] وقال: «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ» يعني طرقكم[269].
إن الإسلام دين الكمال والنظام، دين النزاهة والنظافة للبيوت والطرق والأجسام. ولم يشرع الرسول ﷺ لأمته النظافة إلا من أجل ما يترتب عليها من المصلحة الراجحة، والمنفعة الواضحة. ولهذا شدد النبي ﷺ القول فيمن آذى المسلمين في طرقهم، وقال: «مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ»[270].
إن الناس متكافلون ومتكاتفون في الأمر بالنظافة، في خاصة طرقهم ومجتمعهم، ودوائر أعمالهم. وفي الصحيح: أن النبي ﷺ قال: «إن رجلاً قطع غصن شجرة يؤذي الناس في الطريق، فشكر الله له ذلك، فغفر له»[271].
ومن الصدقة أن تنحي الأذى عن الطريق، إن الأمم المتمدنة وغيرهم قد اعتنوا كل الاعتناء بالنظافة في أجسامهم وثيابهم وطرقهم، لا لأجل أنها سنة، لكن من أجل أنها صحة لأبدانهم وصحة لبلدانهم، لكون القمام والقذى والأذى متى ألقي في الطريق فإنه يحدث أضرارًا وأمراضًا وبيئة، بسبب ما يحمله الهواء ثم يوزعه على الناس، فيعم ضرره، والوقاية خير من العلاج. وغالب ما تقع العدوى عن مثل هذا. كما أن النظافة تبعد العدوى عن البدن والبلد. إننا متى عملنا بتعاليم دين الإسلام في النظافة، فإنه يصير عملنا سنة في ديننا، وصحة في أبداننا وبلدنا، فنؤجر على ذلك بالحسنتين: حسنة الدنيا، وحسنة الآخرة.
إن الطرق ليست بملك لشخص أو أشخاص، بحيث يتصرف فيها بما يؤذي الناس، فيلقي فيها القمام والأذى، ويستبقي فيها الطين والحصى، ويتصرف فيها كيف يشاء، على حسب رغبته وحاجته الشخصية بما يؤذي الناس ويضرهم. وربما انتقص من الطريق فأدخل في ملكه ما لا حق له فيه. وقد لعن رسول الله ﷺ من غير منار الأرض، أي مراسيمها ولو حدث شيء من الأضرار في الأنفس أو الأموال، بسبب ما يضعه هذا الشخص في الطريق، فإن ضمانها يتوجه عليه بالغة ما بلغت، لاعتبار أنه متعد بتصرفه في الطريق، أشبه الغاصب.
إن النظافة لم تكن واجبة على أمة من الأمم إلا على أمة الإسلام! فإن النظافة واجبة علينا في مواضع من عبادتنا، من ذلك: الوضوء المشروع الذي يتضمن غسل أعضائه الظاهرة عند كل صلاة. وسمي وضوءًا من أجل الوضاءة والنظافة. فهو عبادة دينية ونظافة بدنية، ويترتب عليه تساقط الخطايا مع تساقط قطر الماء، كما أوجب سبحانه غسل الجنابة من أجل ذلك. وكما أمر بأخذ الزينة عند كل صلاة فقال: ﴿يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ﴾ [الأعراف: 31] أي عند كل صلاة. وبذلك نعرف أن هذه النظافة واجبة علينا في ديننا لمصلحة وصحة تعود على أبداننا.
إن أهل الإسلام قد قصروا بواجبهم في عدم عملهم بأمر دينهم، حيث سعد بمحاسن النظافة غيرهم، و «اللَّهُ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ»[272] طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة. إن النظافة كما أنها من الشرف والظرف فإنها أيضًا من المحاسن والفضائل، فاستعمال النظافة في الجسم وفي الثياب وفي المنزل وفي الطرق يحبها الله، فإن الله جميل يحب الجمال، نظيف يحب النظافة، طيب يحب الطيب. وللنظافة أثرها المترتب عليها من صحة الجسم ونموه واستقامة بنيته، والناس يعرفون الرجل النظيف الظريف بحسن بزته وجمال هيئته وثيابه، وهذا أمر ملموس ومحسوس في النفوس، حتى إن الإنسان إذا استجد ثوبًا جديدًا، أو لبس ثوبًا غسيلاً نظيفًا، فإنه يجد السرور في نفسه، كما أن الناس يعرفون المرأة النظيفة الظريفة بنظافة منزلها وعيالها، وابتعاد القمامة والأذى عن وجه بيتها.
وكان النبي ﷺ إذا رأى شيئًا من الأوساخ عرف أثر الكراهة على وجهه، كما روى أبو داود عن جابر أن النبي ﷺ رأى رجلاً وعليه ثياب وسخة فأعرض عنه، كالكاره له، فقال: «هلا يجد هذا من يغسل له ثوبه؟»[273]. إن بعض الناس يتساهلون ويتسامحون بالنظافة في أنفسهم وفي منازلهم وطرقهم، اعتمادًا بزعمهم على التواضع في أنفسهم. وهذا لا يدخل في مسمى التواضع، فإن التواضع محله القلب، وألا يتكبر على الناس بفعل المخالفة المذمومة، من سحب الثوب أو العباءة بالأرض تكبرًا، وازدراء بالناس، فهذا هو المذموم شرعًا. «وقد قال رجل للنبي ﷺ: إني أحب أن يكون ثوبي حسنًا، ونعلي حسنًا، فهل هذا من الكبر؟ قال: «لا إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاس»»[274] ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله: من نقى ثوبه قل همه، ومن طاب ريحه زاد عقله، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه. وقد قيل:
حسن ثيابك ما استطعت فإنها
زين الرجال بها تعز وتكرم
ودع التخشن في الثياب تواضعًا
فالله يعلم ما تكن وتكتم
إن النظافة في المنازل وفي الطرق والأجسام، لها مكانة عالية من دين الإسلام. وحسبك أنها معدودة من خصال الإيمان، وأن إزالة الأذى عن الطريق صدقة، وأن من آذى المسلمين في طرقهم فقد استوجب لعنتهم. كل هذه نصوص صحيحة صريحة في المعنى، وهي على كل أحد بحسبه.
ومن السنة التي هي من النظافة؛ تقليم الأظافر، وحلق العانة، ونتف الإبط. فما يفعله بعض النساء من كون إحداهن توفر أظافرها ولا تقصها، حتى تكون مشوهة كأظافر السبع، فهذا مكروه. وما تحت الظفر الزائد فإنه يكون مجتمعًا للأوساخ الضارة، وعلى الأولياء ألا يرضوا بذلك، لكون المصلحة مشتركة، والناس متكافلون ومتكاتفون، وهي تدخل في عموم قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ﴾ [المائدة: 2] وكان النبي ﷺ يستعمل الجميل من الثياب، ويحب الطيب، حتى إذا سلك طريقًا عرف أنه سلك هذا الطريق ببقاء أثر الرائحة فيه وقال: «حُبِّبَ إِلَىَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِىَ فِى الصَّلاَةِ»[275] إن النظافة قد فرضت فرضًا محتمًا في دين الإسلام، فأوجب الله سبحانه الوضوء في كل يوم خمس مرات. والوضوء مأخوذ من الوضاءة وهي النظافة، فهو يكسب الأعضاء النظافة، كما يكسبها النشاط والقوة، ويبعد عنها الكسل والنوم عند أداء هذا الفرض. وكما في الحديث: «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ»[276] وأن يمس من طيب أهله، فبعض العلماء حمله على الوجوب، وبعضهم على الاستحباب المتأكد، وعلى كلا القولين، فإنه ينبغي للمؤمن أن يحتسب للجمعة بالاغتسال والنظافة والطيب، لكون الجمعة عيد الأسبوع. إن جبريل عليه السلام لما نزل على النبي ﷺ نزل عليه في صورة رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه من القوم أحد. فسأل النبي ﷺ عن الإسلام والإيمان والإحسان، فقال: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ»[277] ومن تعليم الدين تعليم أدب اللباس والنظافة واستعمال الثياب الجديدة.
وقد اعتنت البلدان المتحضرة بهذا العمل أشد الاعتناء، وعقدت يومًا في السنة للتذكير بفضل النظافة والقيام بواجبها، وعرض فضائلها، للحث والتحريض على العمل بها، عملاً بقوله تعالى: ﴿وَذَكِّرۡ فَإِنَّ ٱلذِّكۡرَىٰ تَنفَعُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٥٥﴾ [الذاريات: 55].
* * *
[268] متفق عليه من حديث أبي هريرة ولكن بلفظ: «وتميط الأذى». [269] أخرجه مسلم بلفظ: «إن الله جميل يحب الجمال» من حديث عبد الله بن مسعود. [270] رواه الطبراني من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري وإسناده حسن. [271] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [272] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن مسعود [273] أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط من حديث جابر بن عبد الله. [274] أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن مسعود. [275] رواه أحمد في مسنده والنسائي والحاكم والبيهقي من حديث أنس وإسناده جيد. [276] رواه مالك وأحمد في مسنده وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري. [277] رواه مسلم من حديث عمر رضي الله عنه.