(28) قوله سُبحانه: ﴿إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡ﴾ [القصص: 76]
الحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه، وركَّب فيهم العقول ليعرفوه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ليشكروه، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة من يخاف ربه ويرجوه، وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله، اللهم صل على نبيك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه الذين آزروه ونصروه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَرِحِينَ ٧٦ وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ وَأَحۡسِن كَمَآ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ ٧٧﴾ [القصص: 76-77].
إن هذا القرآن بلاغ للناس ولينذروا به، ففيه نبأُ ما قبلنا، وخبر ما بعدنا، وحكم ما بيننا.
وهذه القصة سيقت مساق العظة والعبرة لينذر بها من كان حيًّا ويحق القول على الكافرين، سيقت في بيان سيرة قارون وفساد سريرته، وبيان كثرة ماله وفساد أعماله، وكيف حقت عليه كلمة العذاب ببغيه وطغيانه.
فأخبر الله سبحانه ﴿إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ﴾ قيل: إنه ابن عمه، وقيل: إنه ابن خالته. وكان - فيما زعموا - صالحًا في بداية عمره، ويسمى المنور لجمال وجهه، فلما كثر ماله نافق وطغى، وارتد وبغى ﴿فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡ﴾.
وصدق الله العظيم: ﴿كَلَّآ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَيَطۡغَىٰٓ ٦ أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰٓ ٧ إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجۡعَىٰٓ ٨﴾ [العلق: 6-8].
جاءه نبي الله موسى برسالة من ربه يدعوه إلى دينه بالحكمة وبالموعظة الحسنة ففر ونفر، وعصى واستكبر، وكان له جنود وأتباع، وصاحب المال مطاع، فحاول قارون الفتك بنبي الله موسى، وأظهر البغي عليه ليقطع دابره حسدًا له على نعمة رسالة ربه.
والبغي مصرعه وخيم، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن حفر لأخيه بئرًا وقع فيه.
قضـى الله أن البغي يصـرع أهله
وأن على الباغي تدور الدوائر
يقول الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغۡيُكُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۖ مَّتَٰعَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ ثُمَّ إِلَيۡنَا مَرۡجِعُكُمۡ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٢٣﴾ [يونس: 23] يعني أن بغي الباغي تعود سوء عاقبته عليه في الدنيا قبل الآخرة، بمعنى أنها تعتريه العقوبة، ويسلط عليه من ينتقم منه عقوبة له. حتى لو بغى جبل على جبل لتدكدك الباغي.
وفي الحديث: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَوْ أَحَقُّ مِنْ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مثل الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ»[241] والبغي أحيانًا يكون بالأقوال؛ كأن يستطيل عليه بسبه وذمه ليذله بين الناس، وأحيانًا يكون بالأفعال؛ كأن يستطيل عليه بضربه أو قتله، أو أخذ ماله، أو إفساد زوجته عليه، ونحو ذلك من فنون الأذى والعدوان.
وفي الصحيح[242] أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَىَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ».
ثم قال: ﴿وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ﴾ فأخبر الله سبحانه عن قارون بأَنه مع كفره وعصيانه وبغيه وطغيانه، أن الله قد أرخى له العنان في فنون البغي والعدوان، وأعطاه من كنوز الأموال على اختلاف الأنواع والألوان، ما يعجز العصبة الأقوياء عن حمل مفاتيحه سواء قلنا: إن المفاتيح من حديد أو من خشب أو من جلود، وحسبنا تنويه القرآن بعظمتها مما يدل على عظمة المخزون بها، وهو استدراج من الله له في سعة الرزق وبسطته، لأن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب.
وإذا رأيت الله يسدي نعمة على الشخص؛ والشخص مُصِرٌّ على معصية ربه، فاعلم أنما هو استدراج من الله له. يقول الله تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَتَحۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَبۡوَٰبَ كُلِّ شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوٓاْ أَخَذۡنَٰهُم بَغۡتَةٗ فَإِذَا هُم مُّبۡلِسُونَ ٤٤ فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْۚ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٤٥﴾ [الأنعام: 44-45].
ولما رأى الناصحون الصالحون من قوم موسى ما فعله قارون من الطفور والطغيان، ومجاوزة الحد في البغي والعدوان، أخنوا في وعظه ونصحه، لأن بقاء الأمم من قديم الزمان وحديثه، ببقاء الناصحين المصلحين الذين يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ولأن إنكار المنكرات هو مما يقلل فشوه وانتشاره.
يقول الله تعالى: ﴿فَلَوۡلَا كَانَ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِن قَبۡلِكُمۡ أُوْلُواْ بَقِيَّةٖ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡفَسَادِ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّنۡ أَنجَيۡنَا مِنۡهُمۡۗ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتۡرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجۡرِمِينَ ١١٦﴾ [هود: 116].
ولهذا قالوا في نصيحتهم وإرشادهم: ﴿لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَرِحِينَ﴾ [القصص: 76] فالفرح المذموم هو الذي يفضي بصاحبه إلى الأشر والبطر، والفجور والغرور، وغالبًا ما ينشأ عن الزهو بالدنيا وزينتها.
وكان النبي ﷺ إذا رأى شيئًا من زهرة الدنيا وزينتها فأعجبه قال: «اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلاَّ عَيْشَ الآخِرَهْ»[243] وقال: «أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد أَلاَ كُلُّ شَىْءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِلُ»[244] وَكُلُّ نَعِيمٍ لا مَحَالَةَ زَائِلٌ ثم قالوا: ﴿وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ﴾ [القصص: 77] يعني أن من وسع الله عليه بالغنى بالمال، فإن من واجبه أن يتزود من دنياه لآخرته، فإن مال الإنسان ما قدم، وفي الحديث: «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِى مَالِى وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ»[245] وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للورثة، والدنيا مزرعة الآخرة، تُزرع فيها الأعمال الصالحة. من خرج منها فقيرًا من الحسنات ورد على الآخرة فقيرًا وساءت له مصيرًا.
أما من وسع الله عليه بالغنى بالمال، فجعله أكبر همه، وصرف إليه جُلَّ عقله، وجُلَّ عمله، وجُلَّ اهتمامه، وترك لأجله فرائض ربه، ونسي أمر آخرته؛ فهذا بالحقيقة فقير لا يُؤجر على فقره، قد خسر دنياه وآخرته، أتاه شيطانه فخوفه روعة زمانه، وقلة ماله، فغَلَّ يده، ومنع ما عنده، ولم يزل ذلك دأبه، حتى يخرج من الدنيا مذؤوما مدحورًا، لا خيرًا قدمه، ولا إثمًا سلم منه، فهو عبد درهمه وديناره، وفي الحديث: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ [246]. وسيندم حيث لا ينفعه الندم حين يقول: ﴿مَآ أَغۡنَىٰ عَنِّي مَالِيَهۡۜ ٢٨ هَلَكَ عَنِّي سُلۡطَٰنِيَهۡ ٢٩﴾ [الحاقة: 28-29]. وحين يقول: ﴿يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي قَدَّمۡتُ لِحَيَاتِي ٢٤ فَيَوۡمَئِذٖ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُۥٓ أَحَدٞ ٢٥ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُۥٓ أَحَدٞ ٢٦﴾ [الفجر: 24-26] وأنه ما بين أن يثاب الإنسان على الطاعة والإحسان، أو يعاقب على الإساءة والعصيان، إلا أن يقال: فلان قد مات. وما أقرب الحياة من الممات. وكل ما هو آت آت.
ثم قالوا في تمام نصحهم وإرشادهم: ﴿وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَا﴾ لما وعظوه ونصحوه بما ينفعه في أمر آخرته، عادوا فنصحوه بما ينفعه في أمر دنياه فقالوا: ﴿وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَا﴾ قيل: معناه تزود من دنياك لآخرتك. وقيل: لا تنس نصيبك أي من الكسب والسعي وسائر أسباب الغنى، لأن دين الإسلام دين سعي وكد وكسب، يجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، ومصالح الروح والجسد، يمدح القائلين: ﴿رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ حَسَنَةٗ وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ﴾ [البقرة: 201] ونعم المال الصالح للرجل الصالح.
فالإسلام يأَمر بكسب الأموال وحفظها، والتوسع في فنون التجارات من وجوه حلها. وفي الحديث: «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ»[247] ولما سئل النبي ﷺ عن أفضل الكسب قال: «عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ»[248] وروي: «طَلَبُ الْحَلالِ فَرِيضَةٌ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ [249] والله يحب المؤمن المحترف، ويبغض الفارغ البطال.
وكان بعض الأنبياء معدودين من الأغنياء كإبراهيم ويوسف وسليمان عليهم السلام، وبعض الأنبياء يتكسبون بالحرف والصنائع، والنبي ﷺ كان قبل النبوة يسافر بالمال إلى الشام.
وكان أصحاب رسول الله ﷺ يتِّجِرُون يبيعون ويشترون، ويبنون ويغرسون، ويسافرون للتجارة في البر والبحر، ولكنهم إذا نابهم أمر من أمور الله، أو حضرت فريضة من فرائض الله، كفريضة الصلاة، وفريضة الزكاة بادروا بأدائها إلى الله ولم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، حتى يؤدوه إلى الله.
فليس من الدين أن يتخلى الإنسان عن المال، وعن السعي والكسب للعيال، ويلزم زاوية من زوايا المسجد الحرام، أو مسجد المدينة يتبتل فيه للعبادة، وينقطع عن البيع والشراء، والأخذ والعطاء. كما يفعله الرهبان وبعض الدراويش، فقد جاء أناس من الصحابة إلى النبي ﷺ يستأذنونه في أن يبيعوا عقارهم ومالهم، ويشتروا بثمنها سلاحًا وخيلاً يجاهدون عليها في سبيل الله. فنهاهم رسول الله ﷺ عن ذلك وقال: ««أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا تُفْسِدُوهَا» [250] وأراد بعض الصحابة أن يتصدق بماله كله فرد رسول الله ﷺ صدقته؛ لأن المال ترس المؤمن في آخر الزمان، ولا يستغنى عنه في حال من الأحوال، وأن الكريم على الإخوان ذو المال. وكل ما تسمعونه في القرآن، أو في الحديث من ذم الدنيا، أو ذم المال؛ فإنما يقصد به ذم أفعال بني آدم السيئة في المال لا المال نفسه، لأن الطاعة هي همة التقي، ولا يضره لو تعلقت جميع جوارحه بحب الدنيا؛ لكون المسلم يشتغل في الدنيا بجوارحه، وقلبه متعلق بالعمل لآخرته، فيحصل الحسنتين، ويفوز بالسعادتين، فتكون أعماله بارة، وأرزاق الله عليه دارة. ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾ [الزمر: 18].
إن قارون قد مضى وانقضى، وعوقب بما تسمعون، فما كان جوابه لهؤلاء الناصحين الصالحين إلا أن قال: ﴿إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمٍ عِندِيٓ﴾ [القصص: 78] أي على حذق ومعرفة بجمع المال وكسبه، حتى كثر ووفر، ولم يقل: ﴿هَٰذَا مِن فَضۡلِ رَبِّي لِيَبۡلُوَنِيٓ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُ﴾ [النمل: 40] وجحود النعمة مؤذن بزوالها. يقول الله تعالى: ﴿وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكُمۡ لَئِن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِيدَنَّكُمۡۖ وَلَئِن كَفَرۡتُمۡ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٞ ٧﴾ [ابراهيم: 7] ولهذا ذمه الله بقوله: ﴿أَوَ لَمۡ يَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ قَدۡ أَهۡلَكَ مِن قَبۡلِهِۦ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مَنۡ هُوَ أَشَدُّ مِنۡهُ قُوَّةٗ وَأَكۡثَرُ جَمۡعٗاۚ وَلَا يُسَۡٔلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ ٧٨﴾ [القصص: 78].
إن كل ما ورد في ذم قارون وعقابه على كثرة ماله، وفساد أعماله، فإنه منطبق بالدلالة والمعنى على كل من اتصف بصفاته، وعمل بمثل أعماله، لأن الاعتبار في القرآن هو بعموم لفظه لا بخصوص سببه، فهو يتمشى على حد:
إياك أعني واسمعي يا جاره
وخير الناس من وعظ بغيره.
فهذا الوصف ينطبق على كل تاجر وسع الله عليه من صنوف نعمه، وفضله بالغنى على كثير من خلقه، ثم يجمد قلبه على حب ماله، وتنقبض يده من أداء زكاته، ومن الصدقة منه، والصلة لأقاربه، والنفقة في وجوه البر والخير الذي خُلِقَ لأجله، فمن كانت هذه صفته فإنه أخو قارون في كثرة ماله وفساد أعماله.
فبالله قل لي: كيف كان عاقبة أمره؟ أجيبك بأن الله سبحانه أمر الأرض أن تخسف به وبماله، قال الله تعالى: ﴿فَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةٖ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُنتَصِرِينَ ٨١ وَأَصۡبَحَ ٱلَّذِينَ تَمَنَّوۡاْ مَكَانَهُۥ بِٱلۡأَمۡسِ يَقُولُونَ وَيۡكَأَنَّ ٱللَّهَ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَيَقۡدِرُۖ لَوۡلَآ أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡنَا لَخَسَفَ بِنَاۖ وَيۡكَأَنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٨٢﴾ [القصص: 81-82] خسف الله الأرض بقارون وبماله، وما الخسف ببعيد عن أمثاله من التجار الذين جحدوا نعمة الله عليهم، ومنعوا زكاة أموالهم، ونسوا أمر آخرتهم، تسمع بعشرات الملايين، أو مئات الملايين، أو ألوف الملايين عند أحدهم، ولكنك لا تسمع بمن يؤدي الزكاة منهم.
ثم سرت عدوى منع الزكاة من بعضهم إلى بعض، فهؤلاء إن لم يخسف بهم بالأبدان، فإنه قد يخسف منهم بنور الإيمان، ومن المعلوم أن الخسف بالإيمان أضر من الخسف بالأبدان، فيبقى سيئ الحال، جَمُوعًا مَنُوعًا، يبغض الناس ويبغضونه، ولهذا ختم الله هذه الآيات بقوله: ﴿تِلۡكَ ٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فَسَادٗاۚ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ ٨٣﴾ [القصص: 83]
نسأَل الله سبحانه أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
* * *
[241] رواه ابن ماجه والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. والحاكم وقال: صحيح الإسناد؛ من حديث أبي بكرة. [242] في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار. [243] متفق عليه من حديث سهل بن سعد الساعدي ورواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث أنس بن مالك. [244] متفق عليه، ورواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة، زاد مسلم في رواية: «وَكَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِى الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ». [245] أخرجه الطيالسي من حديث عبد الله بن الشخير. [246] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [247] رواه الترمذي والدارمي والدراقطني من حديث أبي سعيد الخدري. [248] رواه الإمام أحمد في مسنده، والطبراني في الأوسط من حديث رافع بن خديج. [249] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى والطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن مسعود. [250] أخرجه مسلم من حديث جابر.