العدل والإمام العادل
العدل هو قوام الدنيا والدين وصلاح المخلوقين وله وضعت الموازين، وهو الإلف المألوف المؤمن من كل مخوف. به تألفت القلوب والتأمت الشعوب وشمل الناس الصلاح واتصلت بهم أسباب النجاح والفلاح، وهو مأخوذ من العدل والاستواء المجانب للجنف والجور والالتواء، وحقيقته وضع الأمور في مواضعها وأخذ الأموال من حلها وصرفها في حقها، فحقيق بمن ملّكه الله بلاده وحكّمه على عباده أن يكون لنفسه مالكًا وللغيظ كاظمًا وللظلم تاركًا وللعدل في حالة السراء والضراء مظهرًا ومؤثرًا، فإذا فعل ذلك ألزم القلوب طاعته والنفوس محبته، وأشرق بنور عدله زمانه، وكثر على عدوه أنصاره وأعوانه وما أحسن ما قيل:
لكل ولاية لا بد عزل
وصرف الدهر عقد ثم حل
وأحسن سيرة تبقى لوال
مدى الأيام إحسان وعدل
ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، والمقسطون -أي العادلون- في حكمهم وأهليهم وما ولّوا على منابر من نور عن يمين الرحمن.
ولا غنى لأمة الإسلام
يذب عنها كل ذي جحود
في كل عصـر كان عن إمام
ويعتني بالغزو والحدود
وقد قيل: السلطان ظل الله في أرضه، يأوي إليه كل مظلوم من عباده ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ﴾ [البقرة: 251].
ولهذا.. حث النبي ﷺ على السمع والطاعة ونهى عن الخروج عن الجماعة، وقال: «من رأى من أميره ما يكره، فليصبر ولا ينزعن يدًا من الطاعة»[191]، وقد بايع الصحابة النبي ﷺ على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى إثرة علينا، وعلى أن نقول الحق أينما كنا، وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان. والشاهد من ذلك هو قولهم: وعلى إثرة علينا. وهو الاستئثار بالشيء دون الآخرين، وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان، أما الكافر المحض فلن يكون أميرًا على المسلمين، إلا أن يقهرهم بسيفه، فما جعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا، ومتى قهرهم بسيفه، فإنهم حينئذ لا عمل لمكره. وقد قال بعض السلف: ملك غشوم خير من فتنة تدوم.
وكل من سبر التاريخ والنقول، ثم رمقها بعين المعقول، فإنه يتبين له بطريق اليقين، أن الخروج على أئمة العدل والقضاء عليهم بالعزل مهما كان فيهم من النقص والتقصير، فإنه أصل كل محنة وبلية وشر على العباد في أمر دينهم ودنياهم، وأن الناس يكونون بعد الانقلاب أسوأَ حالا منهم قبله، وإنما ضعف المسلمون وساءت حالهم وانتقص الأعداء بعض بلدانهم كله من أجله. ففشت بينهم الفوضى والشقاق، وقامت الفتن على قدم وساق، يقتل بعضهم بعضًا ويسبي بعضهم أموال بعض بحجة الاشتراكية المبتدعة التي ما أنزل الله بها من سلطان.
وهذا التطاحن لن يرتفع عنهم إلا بمراجعة دينهم، الكفيل بعلاج عللهم وإصلاح مجتمعهم ﴿ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞۚ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٞ وَهُوَ عَلَيۡهِمۡ عَمًى﴾ [فصلت: 44].
إن الكمال التام في الصفات والأفعال متعذر من كل أمير، وأي الناس المهذب، كفى بالمرء نبلا أن تعد معايبه، ولكن المنصف، هو من يغتفر قليل خطأ صاحبه في جنب كثير من صوابه، وعلى كل حال، فإن ركود الولاية وكف الفتنة عنها مهما كان فيها من النقص والتقصير، فإنها رحمة من الله للعباد والبلاد، كما قيل:
إن الولاية حبل الله فاعتصموا
منه بعروته الوثقى لمن دانا
لولا الولاية لم تؤمَن لنا سبل
وكان أضعفنا نهبًا لأقوانا
كم يدفع الله بالسلطان معضلة
في ديننا رحمة منه ودنيانا
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في أعلام الموقعين عن رب العالمين:
إن النبي ﷺ شرع لأمته إنكار المنكر، ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا الإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر.
وقد استأذن الصحابة رسول الله ﷺ في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: «لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ».
وقال: «من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينزعن يدًا من طاعة»، ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار، رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر قد طلبوا إزالته، فتولد منه ما هو أكبر منه.
فقد كان رسول الله ﷺ يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، فالمنكر متى زال وخلفه ضده من المعروف وجب إنكاره، ومتى خلفه ما هو أنكر وأشد منه حرم إنكاره، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية- قدس الله روحه- يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرّم الله الخمر؛ لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرّية وأخذ الأموال، فدعهم.. انتهى كلام العلامة ابن القيم رحمه الله.
* * *
[191] في رواية مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي: «أَلَا مَنْ وَلِىَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِى شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِى مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ».