الفصل السادس عشر
وأما فعل رسول الله ﷺ للشيء فإنه لا يدل بظاهره على وجوبه عليه، فلأن لا يدل على وجوبه علينا أولى، قاله في المسودة، فلا بد من الوقوف على معرفة فعله وعلى أي وجه وقع منه من واجب أو ندب أو إباحة، فإذا كانت القرائن الدالة على الوجوب كان واجبًا أو على الاستحباب كان مستحبًّا أو على الإباحة كان مباحًا، فصلاته في مكان لا تدل على استحباب الصلاة في ذلك المكان دون غيره بدون دليل يقتضي الاختصاص، ولما سمعت عائشة أناسًا يقولون: إن النزول بالأبطح بعد الفراغ من الحج سنة، قالت لهم: إن رسول الله ﷺ لم ينزل في الأبطح إلا أنه كان منزلاً أسمح لخروجه[173]، ولما رأى ابن عمر أناسًا يضطجعون بعد صلاة سنة الفجر ويزعمون أنها سنة أخذ يحصبهم بالحصباء ويقول: إن النبي ﷺ فعلها من أجل تعبه في قيام الليل لا لتكون سنة[174]. وفي صحيح مسلم عن أبي الطفيل قلت لابن عباس: زعم قومك أن رسول الله ﷺ طاف بين الصفا والمروة على بعير وأن ذلك سنة، قال: صدقوا وكذبوا، فقلت: ما صدقوا وكذبوا؟ فقال: صدقوا طاف بين الصفا والمروة على بعير وكذبوا ليست بسنَّة، كان الناس لا يدفعون عنه ولا يضربون عنه فطاف على بعير ليسمعوا كلامه وليروا مكانه ولا تناله أيديهم. رواه مسلم.
ففرق ابن عباس بين ما يفعل للسنة وما يفعل للحاجة العارضة، ولهذا نهى أكثر السلف عن اتباع مواقع آثار الأنبياء لئلا يعتقد الجاهل أنها من الفرائض، أو لئلا يؤول بهم هذا التتبع إلى عبادة آثارهم، ومن أجل ذلك أمر عمر بقطع الشجرة التي بويع النبي ﷺ تحتها حينما رأى الناس يذهبون فيصلون عندها فخشي عليهم الفتنة فقطعها، وروى الشاطبي في الاعتصام عن الطحاوي وابن وضاح عن المعرور بن سويد قال: وافيت الموسم مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فلما انصرفنا إلى المدينة انصرفت معه فلما صلى بنا صلاة الغداة فقرأ فيها: (الم تر كيف) و(لإيلاف قريش)، ثم رأى أناسًا يذهبون مذهبًا، فقال: أين يذهب هؤلاء؟ قال: يأتون مسجدًا ههنا صلى فيه رسول الله ﷺ، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بهذا، يتبعون آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعًا، من أدركته الصلاة في شيء من هذه المساجد التي صلى فيها رسول الله ﷺ فليصل وإلا فلا يتعمدها: وهذا كله فيما يقصد به القربة والتماس المثوبة من أفعال رسول الله ﷺ.
وأما ما لم يظهر فيه معنى القربة فإنه يستبان منه رفع الحرج عن الأمة، فالأفعال منه موقوفة على دلائلها فمتى قام دليل الوجوب صار واجبًا، أو الاستحباب صار مستحبًّا، أو الإباحة صار مباحًا.
فاللازم إنما هو الأمر والله سبحانه إنما توعد على خلاف الأمر فقال تعالى: ﴿فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63] وفي الحديث: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[175] فعلق التكليف على الأمر والنهي.
والحاصل أن ما كان من أفعاله تنفيذًا لأمر فهو الواجب، لكون اللازم هو الأمر لا الفعل، ومثله الاتباع المأمور به في قوله: ﴿وَٱتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ﴾ [الأعراف: 158] فإنه لا يراد به محاكاة الفعل للفعل في الحال والمحل، وإنما يراد به طاعته فيما أمر واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألّا يعبد الله إلا بما شرع.
وهذا حاصل ما حققناه في رسالة يسر الإسلام في أحكام الحج إلى بيت الله الحرام حيث قلنا فيها بجواز الرمي قبل الزوال لكونه لم يثبت عن النبي ﷺ ما يدل على النهي عنه ولا على تحديد الوقت الذي يرمى فيه لا بحديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف، وإنما ثبت من فعل النبي ﷺ حيث رمى جمرة العقبة يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس فهذا الفعل مع السكوت عنه لا يقتضي وجوب التحديد به، وغايته إنما يحمل على الأفضلية لا على الفرضية، فهو أفضل ما يرمى فيه عند تيسره، والحكمة في تأخير الرمي من النبي ﷺ إلى ما بعد الزوال أن حجه صادف حرًّا شديدًا حتى إن بلالاً يظلل عليه عند رمي الجمار فأراد أن يخرج للرمي ولصلاة الظهر، مخرجًا واحدًا كما ثبت في سنن ابن ماجه من حديث ابن عباس، أن النبي ﷺ رمى الجمرة ثم انصرف إلى مسجد الخيف فصلى بالناس الظهر فدل على أن الشارع رمى في الوقت المناسب له في ذلك الزمان، وهو لا يقتضي بمجرده وجوب ابتداء التحديد بالزوال فضلاً عن انتهائه بالغروب.
وقد ثبت من فعل النبي ﷺ أنه رمى ثم نحر ثم حلق ثم ركب ناقته ضحى يوم النحر فطاف طواف الإفاضة الذي هو طواف الفرض وركن الحج الأعظم وسكت عن بيان وقته، ومع هذا قد جعله العلماء موسعًا يفعله متى شاء كما جعلوا النحر والحلق موسعًا أيضًا يفعله متى شاء في أية ساعة من أيام منى، فلا أدري ما الذي خصص الرمي بالتحديد من بين نظائره.
فالقائل بوجوب تحديد الرمي بالزوال استنادًا إلى فعل النبي ﷺ واستدلالاً بقوله: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»[176] يلزمه أن يقول بوجوب تحديد طواف الإفاضة بيوم النحر كما وجد من قال به، على أن الإفاضة ركن الحج الذي يجب أن يحتاط له، أما رمي الجمار في اليومين الأخيرين فإنه واجب يفعل غالبًا بعد التحلل الثاني من عمل الحج، فناسب التسهيل في عدم التشديد في التحديد.
ويدل لذلك ما روى البخاري أن النبي ﷺ وقف يوم النحر على راحلته فجعلوا يسألونه فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: «افعل ولا حرج»، حتى سأله رجل فقال: يا رسول الله رميت بعد ما أمسيت. فقال: «افعل ولا حرج». رواه البخاري من حديث ابن عباس ومعلوم أن الليل يدخل في مسمى المساء.
فنفي النبي ﷺ الحرج عن كل ما يفعله الحاج من تقديم أو تأخير بدون استثناء شيء من ذلك، فلو كان ما قبل الزوال وقت نهي غير قابل للرمي لبينه النبي ﷺ في مقامه هذا ولحذرهم منه كما حذرهم عن الوقوف ببطن عرنة، وعن الصلاة في أوقات معينة وأماكن مبينة، إذ لا يجوز في الشرع تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، ومع عدمه فلا يجوز لنا أن نسميه نهيًا بدون أن ينهى عنه رسول الله ﷺ وما كان ربك نسيًّا، فترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، فكأنه قال في جواب سؤالهم: ارموا في أية ساعة شئتم ولا حرج.
ومما يدل على ذلك حديث عاصم بن عدي، أن النبي ﷺ رخص لرعاة الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد وبعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر، رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان.
ووجه الدلالة منه أنه أمرهم في أن يرموا جمارهم يوم النفر بدون تحديد ولا تقييد، ويوم النفر هو ظرف لما بين طلوع الشمس إلى الغروب، أو لما بين طلوع الفجر إلى الغروب ويدخل الليل تبعًا، لا يقال: إن هؤلاء رعاة وقد رخص لهم في ذلك لحاجة الناس لرعاية الإبل، والرخصة هي التسهيل، وهي ما ورد على خلاف أمر مؤكد لمعارض راجح.
فنقول: نعم، إنه رخص لهم في البيتوتة عن منى وفي جمع الجمار ليومين، لكنهم عند إيابهم من رعايتهم وحصولهم في منى يوم النفر قد زال عنهم العذر وصار حالهم حال الصحابة المقيمين في منى في كل ما يفعل في يوم النفر من رمي وغيره، فلو كان ما قبل الزوال وقت نهي لغيرهم لصار وقت نهي في حقهم لمساواتهم لهم.
ولكنه ثبت عنه أنه أمرهم في أن يرموا جمارهم في أية ساعة شاؤوا من ليل أو نهار كما روى البزار بإسناد حسن، والحاكم والبيهقي، أن النبي أرخص للرعاة أن يرموا بالليل وأية ساعة شاؤوا من النهار، وروى الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله ﷺ أرخص للرعاة أن يرموا بالليل وأية ساعة شاؤوا من النهار، ولو كان الليل غير قابل للرمي كما لا يقبل الصوم لما أمرهم أن يرموا فيه.
وقد ألحق الفقهاء من الحنابلة بالرعاة والسقاة كل من له عذر من مرض أو خوف على نفسه أو أهله أو رفيقه بأن يستبيحوا سائر ما يستبيحه الرعاة والسقاة من جمع الجمار ورميها في أية ساعة شاؤوا من ليل أو نهار.
قال في الكافي: ويجوز لرعاة الإبل وأهل سقاية الحاج ترك المبيت بمنى وترك رمي اليوم الأول إلى اليوم الثاني أو الثالث إن أحبوا أن يرموا الجميع في وقت واحد، والرمي بالليل، فيرمون رمي كل يوم في الليلة المستقبلة، وكل ذي عذر من مرض أو خوف على نفسه أو ماله كالرعاة في هذا؛ لأنهم في معناهم.
وقال في الإنصاف: وليس على أهل سقاية الحاج والرعاة مبيت بمنى، ويجوز لهم الرمي ليلاً ونهارًا، وقيل: أهل الأعذار من غير الرعاة كالمرضى، ومن له مال يخاف ضياعه ونحوه، حكمهم كحكم الرعاة، جزم به المصنف والشارح. وقال في الفصول: وكذا خوف ماله وموت مريض قال: وهذا والذي قبله هو الصواب. انتهى.
فهذه الأقوال المبيحة لأهل الأعذار في أن يرموا جمارهم في أية ساعة شاؤوا من ليل أو نهار، كلها مبنية على القول بوجوب تحديد الرمي بما بين الزوال إلى الغروب على حسب ضعفه وكونه لا أصل له، ولا شك أن العذر الحاصل للناس في هذا الزمان من مشقة الزحام والخوف من السقوط تحت الأقدام أنه أشد وأشق من عذر الرعاة والسقاة، بحيث إن كل إنسان صار يخاف على نفسه وأهله ورفيقه في ذلك المكان من سقوطه تحت الأقدام، وصاروا بعلة العذر داخلين فيمن يباح لهم أن يرموا جمارهم في أية ساعة شاؤوا من ليل أو نهار، وقد نص الفقهاء على أنه لو جمع الجمار كلها حتى جمرة العقبة فرماها في اليوم الثالث أجزأ مع الكراهة؛ لأن أيام منى كالوقت الواحد والكراهة تزول بأدنى حاجة.
فإذا كان الأمر بهذه الصفة، وأن أيام منى كلها كالوقت الواحد فلا شك أن رمي كل يوم قبل الزوال أقرب إلى الإصابة والعدل من جمع الجمار ثم رميها كلها في اليوم الثالث، إذ ليس عندنا ما يدل على النهي عن الرمي قبل الزوال لا بحديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف، والتحديد بابه التوقيف فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد.
والاحتجاج برمي النبي ﷺ بعد الزوال إنما يحمل على الأفضلية لا على الفرضية، فهو أفضل ما يرمى فيه عند تيسره وسهولته.
أما الحكم بإلزام الجمع الكثير بالرمي في خاصة هذا الوقت القصير فقد صار من تكليف ما لا يستطاع، والقول به قد أوقع الناس في الضرر، ووسع دائرة الخطر، حتى صاروا يتحدثون بوفيات الزحام في كل عام، وحتى صار الناس يرمون جمارهم بعيدة عن الأحواض لهول ما يشاهدونه من خطر الزحام.
ومن قواعد الشرع المعتبرة أنه إذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، والحرج منفي عن الدين، ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم، وجاهدوا حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج، والحرج هو الشدة والمشقة فيما يدرك غرض الشارع منه بدون مشقة.
وما من شيء من شؤون العبادات يقع الناس فيه في الشدة والمشقة والحرج إلا وبجانبه باب مفتوح من التيسير والفرج، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم.
والمقصود أن القول بوجوب الرمي فيما بين الزوال إلى الغروب هو من تحديدات الفقهاء، تلقاها بعضهم عن بعض حتى استقر وجوبها في أذهان أكثر العلماء والعوام، وحتى صار الناس يتحدثون بفساد حج من رمى قبل الزوال.
وهب أنهم وجدوا ابتداء وقت الرمي بالزوال استنادًا إلى فعل النبي ﷺ، فمن أين يجدون انتهائه بالغروب، وقد قال العلامة ابن القيم رحمه الله: إن الفقهاء دائمًا يقيدون السنة بقيود توهن الانقياد. وأكثرهم بسجن اللفظ محبوسون خوف معرة السجان والكل إلا الفرد يقبل مذهبًا في قالب ويرده في ثانٍ.
وقد خالف شيخ الإسلام ابن تيمية الأئمة الأربعة فيما يقرب من خمس عشرة مسألة، واتفق العلماء قاطبة على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ، واتفقوا أيضًا على أن من استبانت له سنة رسول الله لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائنًا من كان.
ومن المعلوم أن الفقهاء دائمًا يذكرون تحديدات وتقييدات يجزم العلم الصحيح بنفيها ويقوى في القياس فسادها كتحديد السفر المبيح للقصر بيومين وكتحديد الإقامة الموجبة للإتمام بما يزيد على أربعة أيام، وكتحديد صحة الجمعة بأربعين من أهل وجوبها ونحو ذلك، فتحديد الرمي بما بين الزوال إلى الغروب من هذا القبيل.
وليس كل خلاف جاء معتبرًا
إلا خلاف له حظ من النظر
والصحيح أن الرمي هو من جملة الذكر المطلق في أيام منى أشبه الحلق والنحر على السواء، قال تعالى: ﴿وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡدُودَٰتٖ﴾ [البقرة: 203] وهذا الذكر المأمور به يشمل الذكر عند الرمي والذكر عند الحلق والذكر عند النحر، وقد روى الترمذي عن عائشة، أن النبي ﷺ قال: «إنما شرع الرمي لإقامة ذكر الله عز وجل»، ولهذا كان النبي ﷺ يطيل الدعاء عند الجمرتين، حتى قال ابن عمر: إنه وقف للدعاء بقدر سورة البقرة. والمانعون من الرمي قبل الزوال إنما يحتجون بقول النبي ﷺ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»، وأنه رمى جمرة العقبة يوم النحر ضحى. وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس، وهذا الاحتجاج بمجرده لا يبلغ ذروة المطلب ولا سنام المقصد، لكون الفعل بمجرده لا يدل على الوجوب إلا إذا اقترن به دليل الأمر، ولو كان كل شيء فعله ﷺ في حجته يكون واجبًا على أمته لكانت التلبية من الأمر الواجب ولكان المبيت بمزدلفة والوقوف بها إلى الإسفار في حق الأصحاء الأقوياء من الأمر الواجب إذ هو فعل النبي ﷺ وأصحابه، ولكان ابتداء رمي جمرة العقبة بما بعد طلوع الشمس من يوم النحر في حق الأصحاء الأقوياء من الأمر الواجب لدلالة فعله وقوله على ذلك، ولكان تحديد طواف الإفاضة في خاصة يوم العيد من الأمر الواجب؛ لأن هذه الأعمال كلها فعلها النبي ﷺ في حجته وسكت عن بيان فعلها، يوضحه أن رمي الجمار في اليومين الأخيرين يقع بعد التحلل الثاني من أعمال الحج، بحيث إن الإنسان إذا رمى وحلق وطاف طواف الإفاضة فقد حل من الحج. فلو مات لحكمنا بتمام حجه، فناسب عدم التشديد في التحديد لعدم ما يدل عليه، والحمد لله الذي جعل هذا التحديد من قول من ليس بمعصوم ولم يكن من كلام الرسول، ففي عدم التحديد حكمة ظاهرة ومعجزة باهرة دق على أكثر الناس إحاطة العلم بمصالحها ومحاسنها وخفي عليهم سعة مداركها ومسالكها، فلو حدد الرمي على الناس بما بين الزوال إلى الغروب لوقعوا في الحرج والشدة والمشقة التي تنافيها شريعته السمحة؛ لأن الله سبحانه قد بعث نبيه بدين كامل وشرع شامل ليس بحرج ولا أغلال، صالح لكل زمان ومكان وأنهم متى استقاموا عليه ما سقموا منه أبدًا، أما قول النبي ﷺ «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»، فإنه من القول المجمل الذي يدخل تحته الواجب والمستحب، وقد أجمع العلماء من جميع المذاهب على أنه لا يجب العمل بكل ما فعله النبي ﷺ في حجته حتى يقوم دليل الوجوب على ذلك.
وأما الاحتجاج بإجماع الناس على رمي الجمار بعد الزوال فإنه بناءً منهم على محبة التأسي بفعل رسول الله ﷺ وكان الوقت في الزمان الماضي مناسبًا لهم فيختار أحدهم للرمي من الوقت أفضله، وجرى العمل مستمرًّا على هذه الحالة حيث لا شدة ولا مشقة، حتى ظن أكثر الناس أنه من الأمر الواجب الذي لا محيص عنه، وهو من جنس إجماعهم على النطق بنية الإحرام وليست بواجبة، وعلى التلبية وليست بواجبة، وعلى صلاة ركعتي الطواف وليست بواجبة، على أنه لم ينعقد الإجماع على ذلك، فذهب عطاء وطاووس إلى أنه يجوز الرمي قبل الزوال، وقال في الإنصاف: وجوز ابن الجوزي الرمي قبل الزوال. وقال في الواضح: يجوز الرمي بعد طلوع الشمس. وقال في بداية المجتهد عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: يجوز رمي الجمار من طلوع الشمس، ورخص الحنفية في الرمي يوم النفر قبل الزوال مطلقًا، وهي رواية عن الإمام أحمد ساقها في الفروع بصيغة الجزم بقوله: وعنه يجوز رمي متعجل قبل الزوال.
فهؤلاء العلماء الأجلاء قد استباحوا الإفتاء بجواز الرمي في حال الرخاء والسعة، فما بالك لو وقفوا على حالة الناس وما جرى عليهم عند رمي جمارهم من الشدة والمشقة، حتى إن أحدهم ليرمي جماره بعيدة عن الأحواض من شدة ما يشاهده من هول الزحام، ولعل ما يستقبل من الزمان يكون أعظم جمعًا وأشد خطرًا، وقد نص الفقهاء على أن من شرط صحة الرمي العلم بحصول الحصى في المرمى، فالقول بسعة الوقت للرمي هو الذي يؤهل الناس للعمل بواجبه بسهولة وسعة ويعلم أحدهم أن رميه قد وقع موقعه في الصحة والاجزاء والامتثال.
وإنما تظهر حكمة الرمي عند القيام بما شرع لأجله وهو التكبير والذكر وإطالة الوقوف للدعاء بقبول عمله وسعيه؛ لأنه ختام أعمال الحج، ولا يتأتى ذلك إلا بالقول بسعة الوقت للرمي، ويقال لمن أنكر الرمي قبل الزوال استدلالاً بفعل النبي ﷺ واستنادًا إلى قوله: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»، أنتم تسلمون بجواز الدفع من مزدلفة بعد نصف الليل في حق كل أحد حتى الأصحاء الأقوياء تمشيًا مع ظاهر المذهب وهو خلاف فعل النبي ﷺ القائل: «خذوا عني مناسككم» وخلاف فعل أصحابه، لأن النبي ﷺ إنما أفاض من مزدلفة بعدما صلى الفجر وبعد ما أسفر جدًّا، وتسلمون أيضًا بصحة رمي جمرة العقبة بعد نصف الليل في حق كل أحد حتى الأصحاء الأقوياء وهو خلاف فعل النبي ﷺ القائل: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»، بل خلاف سنته القولية.
كل هذا قياسًا من الفقهاء على الرخصة الحاصلة للضعفة والأطفال، إن من يقول: إن من علل هذه المخالفات وسقوط هذه الواجبات الضرورة، وقياسًا على الضعفة يلزمه أن يقول بسقوط التوقيت للرمي في اليومين الأخيرين - لو صح سنده- لضرورة الزحام والخوف من السقوط تحت الأقدام، الذي صار أكثر الناس يمتنعون عن المباشرة برمي جمارهم من أجله، وصاروا يوكلون من يرونه قويًّا جلدًا على المزاولة والمدافعة لعجز أكثر الناس عن الوصول إلى أحواض الجمار، وهذا من الحقائق التي يعبر عنها بالمشاهدة والحس، على أنه ليس بين أيدينا ما يدل على التحديد بما بين الزوال إلى الغروب، بل الصحيح الذي لا شك فيه أنه يجوز للحاج أن يرمي جماره في أية ساعة شاء من ليل أو نهار من أيام منى قياسًا على أهل الأعذار والضرورات، إذ العذر واضح جلي لا مجال للشك في مثله، وإنما رجعت إلى بيانه خروجًا من عهدة كتمانه، ولداعي الحاجة والضرورة إلى العمل به والنصح بموجبه، والله عند لسان كل قائل وقلبه، والحلال ما أحله الله في كتابه وعلى لسان نبيه، والحرام ما حرمه الله في كتابه وعلى لسان نبيه، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عفوه واحمدوه على عافيته: ﴿وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ﴾ [البقرة: 195] ﴿وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا﴾ [النساء: 29]
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا
وفيما يلي النص الكامل لرسالة العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي
* * *
رسالة العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني