متقدم

فهرس الكتاب

 

الفصل الخامس عشر

قال في النقض ص 101: إنه لو كان المقام زمن النبي ﷺ تحت البيت ونزلت الآية وهو هناك وصلى خلفه في حجة الوداع وتوفي وهو تحت البيت لما ساغ لأحد بعده نقله عن موضعه الذي أقره فيه؛ لأن إقراره له تشريع وتوقيف لا اجتهاد لأحد فيه بعده كائنًا من كان.

فالجواب: إن الكلام يتفرع في هذا المقام عن أمرين:

أحدهما: هل يجب علينا ترك ما تركه رسول الله ﷺ؟

الأمر الثاني: هل يجب علينا فعل ما فعله رسول الله ﷺ.

أما الأول: فقد نص أهل الأصول على أنه لا يجب علينا ترك ما تركه رسول الله ﷺ خاصة فيما يتعلق بأمور الحياة، أما ما شأنه التعبدات وما يقصد به صاحبه القربى والمثوبة، فهذه هي التي يجب علينا تركها لترك رسول الله لها، ولعدم سبق مشروعيتها وتسمى بالبدعة، لكونه ابتدع فعلها على غير مثال سبق من الشارع في مشروعيتها؛ لأن العبادات مبناها على التوقيف والاتباع لا على الاستحسان والابتداع، وعليه يدل حديث عائشة، أن النبي ﷺ قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهْوَ رَدٌّ»[171]، ولهذا قال بعض السلف: كل عبادة لم يتعبدها رسول الله ولا أصحابه فلا تتعبدوها فإن الأول لم يترك للآخر مقالا.

أما ما يتعلق بمصالح الناس في أمور الحياة كبناء المساجد والقناطر والمدارس والمستشفيات وسائر ما يقصد منه الإصلاح الدائم والنفع العام ومنه توسيع المسجد الحرام وتوسيع المسجد النبوي، وكذا توسيع المطاف وتحويل المقام من أجله لقصد راحة الأنام ووقايتهم عن السقوط تحت الأقدام من شدة الزحام، وليتمكن الناس من أداء هذا الركن بتمام وخشوع وخضوع واطمئنان، فهذا وأمثاله مما يجوز لنا فعله وليس لنا أن نتركه لترك رسول الله له، فقد يترك رسول الله الشيء وهو يحب أن يفعله لسبب يقتضي تركه له، كما ترك تبشير الناس بأن من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة خشية أن يتكلوا، وكما ترك الخروج لصلاة التراويح في الجماعة خشية أن تفرض عليهم فيعجزوا، وكما ترك التصرف في الكعبة على حسب ما يحب من أجل أن قريشًا حديثة عهد بكفر.

وقد ترجم البخاري عليه فقال: باب ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس فيقعوا فيما هو أشد منه، وقد ترك رسول الله ﷺ المسجد الحرام وهو شبه الصحراء ليس له جدران تحيط به ولا أبواب ولا سقوف، وهو أضيق منه الآن بكثير، وبقي على حالته كذلك زمن أبي بكر، فلما استخلف عمر واتسعت فتوح البلدان اقتضى رأيه توسيع المسجد الحرام، فهو أول من وسع فيه وجعل له جدرانًا تحيط به، وكذلك المسجد النبوي الذي بناه رسول الله بيده فجرى التصرف من عمر بتوسعته كما في البخاري من حديث نافع، أن عبد الله بن عمر أخبره أن المسجد كان على عهد رسول الله ﷺ مبنيًّا باللبن، وسقفه الجريد وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئًا وزاد فيه عمر وبناه على بنيانه في عهد رسول الله باللبن والجريد وأعاد عمده خشبًا، ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة وبنى جداره بالحجارة. ولم ينكر هذه التصرفات أحد من الصحابة لعلمهم الواسع وفقههم الراسخ أنها من المصالح المرسلة الملائمة لمقاصد الشرع ومحاسنه، فالقائل بتحريم نقل المقام عن محله ووجوب استدامة بقائه على حالة ما كان عليه زمن النبي ﷺ، حتى ولو أضر بالناس يلزمه أن يقول بتحريم التصرف في المسجد الحرام بتوسعته وتحريم التصرف في المسجد النبوي بتوسعته؛ لأن هذا كله من لوازم قوله، وهذا يعد من التعنت والتزمت الذي يبرأ الدين من القول به والحكم بموجبه، ومثله القرآن الكريم، فقد توفي رسول الله وهو متفرق في اللخاف والعظام وصدور الرجال فتصدى الصحابة بعد قتل القراء باليمامة لجمعه في مصحف واحد حتى حصل من عارض هذا الرأي وقال: كيف تفعلون شيئًا لم يفعله رسول الله ﷺ؟ فقالوا: نعم، إنه لم يفعله ولم يأمر به، ولكنه لا يخالف شرعه، فهو حسن نافع. فاتفق رأيهم على ذلك وزال من بينهم الخلاف.

وكان أصحاب رسول الله ﷺ يعرضون رأيهم على رأي رسول الله ﷺ في الشيء الذي يعلمون أنه لم يقله عن وحي من ربه، كما عرض الحباب بن المنذر رأيه على النبي ﷺ في المنزل يوم بدر، وذلك أن النبي ﷺ لما خرج يوم بدر نزل على أدنى ماء من مياه بدر مما يلي المدينة فجاء الحباب بن المنذر فقال: يا رسول الله هذا المنزل الذي نزلته أمنزل أنزلكه الله ليس لنا فيه رأي ولا أمر أم هو الحرب والخدعة؟ فقال: «بل الحرب والخدعة». فقال: يا رسول الله، سر بالناس حتى نأتي أقصى ماء من مياه بدر فننزل عليه ونغور ما سواه، فيكون عندنا الماء وعندهم الظمأ. ففعل رسول الله وحمد عاقبة رأيه[172].

وكان رسول الله ﷺ يستشير أصحابه فيما يتعلق بأمور الحياة كالحرب والسلم والإصلاح والتعديل كما استشارهم في أسرى بدر أيقتلهم أم يضع عليهم الفداء؟ وكما استشارهم في وقعة أحد أيخرج إليهم أم يقاتلهم في المدينة؟ وكان رأيه أن يقاتلهم في المدينة، فلما كثرت عليه الأصوات من المتحمسين للخروج ممن لم يشهد بدرًا ترك رأيه لرأيهم فدخل ولبس لأمته ثم خرج وعلى وجهه أثر الكراهية للخروج، ومن ذلك رفع عمر حد القطع في السرقة زمن المجاعة وهو حد من حدود الله ثابت بالكتاب والسنة، وتوفي رسول الله ﷺ وهو على حالته، ومن ذلك منعه لبيع أمهات الأولاد وكن يبعن على عهد رسول الله ﷺ كما في حديث جابر قال: كنا نبيع سرارينا أمهات الأولاد والنبي ﷺ حي لا يرى بذلك بأسًا، وكان سبب منعه لبيعهن على ما رواه ابن المنذر عن بريدة، قال: كنت جالسًا عند عمر إذ سمع صائحة فقال: يا بريدة انظر ما هذا الصوت. فنظر ثم جاء فقال: جارية من قريش تباع أمها. فقال عمر: ادع لي المهاجرين والأنصار. فلم يمكث ساعة حتى امتلأت الدار والحجرة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فهل كان فيما جاء به محمد القطيعة؟ قالوا: لا. قال: فإنها قد أصبحت فيكم فاشية، ثم قرأ: ﴿فَهَلۡ عَسَيۡتُمۡ إِن تَوَلَّيۡتُمۡ أَن تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَتُقَطِّعُوٓاْ أَرۡحَامَكُمۡ ٢٢ [محمد: 22] ثم قال: وأي قطيعة أقطع من أن تباع أم امرئ منكم؟! وقد أوسع الله لكم. قالوا: فاصنع ما بدا لك. فكتب إلى الآفاق أنها لا تباع أم حر، وذلك بإجماع الصحابة رضي الله عنهم.

وكان لعمر من السياسات الحكيمة والتصرفات الواسعة ما هي مناسبة لسيرته المرضية، فدعوى صاحب النقض أنه لا اجتهاد لأحد في نقل المقام عن حالة ما كان عليه زمن النبي ﷺ لا لعمر ولا غيره لزعمه بأن استدامة بقائه في محله تشريع وتوقيف، فكل هذا يعد من التشديد البعيد عن مقاصد الدين، فقد ألحق بالشرع ما ليس منه ولا هو في معنى المنصوص عليه، فاعتقاد ما ليس بشرع أنه شرع يعد من تغيير الكلم عن مواضعه ومن تبديل الشريعة بغيرها، كما لو اعتقد ما ليس بفرض أنه فرض ثم عمل على حسب اعتقاده.

فإن كان محقًّا فيما يدعي من أن استدامة بقائه في محله الآن هو من الشرع اللازم والحكم التوقيفي الدائم الذي لا يجوز تغييره ولا تحويله فليأتنا بآية أو حديث تثبت صحة ذلك، وكأنه بهذا الكلام قد جعله بمثابة الكعبة البيت الحرام الذي بوأ الله مكانه لخليله إبراهيم عليه السلام وقال تعالى: ﴿وَإِذۡ بَوَّأۡنَا لِإِبۡرَٰهِيمَ مَكَانَ ٱلۡبَيۡتِ أَن لَّا تُشۡرِكۡ بِي شَيۡ‍ٔٗا وَطَهِّرۡ بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ ٢٦ [الحج: 26] فهذا هو الشرع اللازم الذي لا يجوز تحويله إلى غيره، أما المقام فليأتنا بآية أو حديث تثبت أن الله بوأ للمقام هذا المكان بحيث لا يجوز تحويله عنه وإلا فليعلم أنه كاذب، وأنه قد ألحق بالشرع ما ليس منه لقصد تشويش الأفهام وإغراء سذج العوام، فهو يسمي هذا الإصلاح باسم العبث بدون أن يثنيه وجل ولا يلويه خجل، وهذا نص لفظه نزاهة لعرضنا وإزاحة لعذره، قال في النقض ص23: التوصل إلى العبث بمشعر من المشاعر المقدسة ومنسك من مناسك الحج ليحوله عن موضعه الذي وضعه فيه رسول الله ﷺ وهو موضعه في عهد إبراهيم الخليل يعتبر حدثًا في الدين وتغييرًا لشعائره. انتهى.

فهذه الكلمة تشبه في الحقيقة والمعنى كلمة الخوارج حينما رفعوا المصاحف على أطراف الرماح وقالوا: لا حكم إلا لله. ولم تزل بهم شدتهم في طريق الآخرة والعمل لها بزعمهم حتى أفضت بهم شدتهم إلى أن خرجوا على أمة محمد بأسيافهم يستحلون دماءهم وأموالهم، وكل قول لا دليل عليه يقدر كل أحد على رده والمقابلة بضده، بخلاف قول الحق فإن ليله كنهاره ولا يقاومه إلا هالك:
بليت يا قوم والبلوى منوعة
بمن أداريه حتى كاد يرديني
دفع المضرة مع جلب لـمصلحة
عياذًا بالله من إلحاد في الدين
وقد اتفق أهل السنة على أن الله بعث محمدًا بصلاح العباد في المعاش والمعاد، وأنه أمر بالصلاح ونهى عن الفساد، فمتى كان العمل للإصلاح وادعى فيه مدع بالفساد رجحوا الراجح منهما وألحقوه به؛ لأن الله بعثه بتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها، فشرعه شامل صالح لكل زمان ومكان ليس بحرج ولا أغلال دون الكمال. فدعواه بأن حجر المقام منسك من مناسك الحج، وأن رسول الله ﷺ وضعه موضعه الآن، وأن هذا هو موضعه في عهد إبراهيم الخليل عليه السلام، وأن الإفتاء بتحويله عن محله يعتبر حدثًا في الدين وتغييرًا لشعائره، فكل هذا يعد من الكذب على الله وعلى نبيه وعلى خليله إبراهيم وعلى دينه وعباده المؤمنين، فإن كل ما يدعي فيه الصحة لا صحة له أصلاً، بل إن عمر هو الذي وضعه موضعه الآن وذلك بموافقة الصحابة له عليه للمصلحة الراجحة، وإن موضعه كان في لزق الكعبة من عهد إبراهيم على ما قاله ابن عباس، وكل من تدبر كلام صاحب النقض وجده لا يخرج عن قسمين: إما كذب في النقل، وإما تكذيب بالحق، فهو لفرط جهله وهواه يقلب الحقائق في المعقول والمنقول فيأتي إلى الأمور التي هي حق وعدل وخير وصلاح فيصرفها عن حقيقتها ويقول هي شر وفساد وعبث وإلحاد، فيخالف الحق مخالفة غير خافية على أحد لاعتقاده أنه قد وضع ناموسًا للناس برأيه، ولن يخر فريسة لتعاليمه سوى همجي رعريع قليل الفهم والمعرفة بحقائق العلوم النافعة.

* * *

[171] أخرجه مسلم من حديث عائشة. [172] أخرجه أبو داود في المراسيل بمعناه من حديث الحباب بن المنذر.