الفصل الرابع عشر
قال في النقض ص 25: قال أبو الوليد الأزرقي: حدثني جدي، حدثنا داود بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي، عن أبيه، عن جده قال: كانت السيول تدخل المسجد الحرام من باب بني شيبة الكبير قبل أن يردم عمر بن الخطاب الردم الأعلى وكان يقال لهذا الباب: باب السيل. قال: فكانت السيول ربما دفعت المقام عن موضعه وربما نحته إلى وجه الكعبة حتى جاء سيل في خلافة عمر يقال له سيل أم نهشل فاحتمل المقام عن موضعه فذهب به حتى وجد بأسفل مكة، فأتي به فربط إلى أستار الكعبة فكتب في ذلك إلى عمر بن الخطاب فأقبل فزعًا، فدخل بعمرة في شهر رمضان وقد غفل موضعه وعفاه السيل فدعا عمر بالناس فقال: أنشد الله عبدًا عنده علم من هذا المقام. فقال المطلب بن أبي وداعة السهمي: أنا يا أمير المؤمنين عندي ذلك، فقد كنت أخشى عليه فأخذت قدره من موضعه إلى الركن ومن موضعه إلى باب الحجر ومن موضعه إلى زمزم بمقاط وهو عندي في البيت. فقال له عمر: فاجلس عندي. فأرسل إليها فأتي بها فمدها فوجدها مستوية إلى موضعه هذا وسأل الناس وشاورهم فقالوا: نعم. فلما استثبت ذلك عنهم أمر به فأعلم ببناء رُبضه تحت المقام ثم حوله فهو في مكانه هذا إلى اليوم ثم ساق هذه الحكاية بلفظها عن عمر بن فهد الهاشمي المكي في كتابه إتحاف الورى بأخبار أم القرى في حوادث سنة سبع عشرة. انتهى.
فالجواب أن نقول: إن صاحب النقض قد بالغ في نشر هذا الخبر وتشييده ونصره وتأييده حتى أشبع أسماع الناس من ترديده، وحتى ملأ صحائف كتابه من تمديده حيث إنه قد ذكره فيما يزيد على خمسين وجهًا من كتابه، وحتى ألحقه بالعلم اليقيني القطعي الذي لا مجال للشك فيه من أجل موافقته لهواه.
أهم بترك النقد ثم يردني
إلى القول إرجاف الجهول المفند
إن هذه الحكاية وإن حذلقها ناقلها فإن فيها ألفاظًا يبعد وقوعها من عمر أو نسبتها إليه، ولم يذكر هذه الحكاية بلفظها المؤرخون المعتبرون والمدققون في أخبار الحوادث كابن إسحاق وابن جرير وابن كثير وابن الأثير وابن سعد وغيرهم، من ذلك قوله: فكتب إلى عمر فأقبل فزعًا فدخل بعمرة في شهر رمضان... إلخ.
فإن هذا هو من تصرفات الأزرقي لقصد الإحماض والتحلية كما هي العادة الغالبة عليه في تحبيره وحسن تعبيره، وإن من البيان لسحرًا، وإلا فإن عمر هو أرجح عقلاً وأثبت جأشًا من أن ينزعج لهذا الخبر الذي يكفي أن يقول فيه: ردوا هذا الحجر إلى مكانه، فإنما دواء الشق أن يحاص. إنه لم يسمع بجيش عرمرم قد حاصر الكعبة يريد هدمها والقضاء على أهلها حتى ينزعج لخبره ويستعد بالسفر إلى مدافعته.
وأعجب من ذلك دعواه بأنهم حين وجدوه ربطوه بأستار الكعبة، ولعل هذا الربط وقع منهم خشية أن يفر على حين غفلة منهم، حيث شبه هذا الحجر بالدابة النفور عن أهلها ثم قوله في مناشدة عمر: أنشد الله رجلاً عنده علم بهذا المقام. حتى كأنه لا علم لعمر بحال هذا المقام ولا محله، ثم ذكر الخيوط وقياسات المطلب بها وهذا هو المحور الذي تدورعليه هذه الحكاية ليثبت بذلك أن النبي ﷺ هو الذي وضع المقام موضعه الآن وأن عمر رده إلى موضعه حين ذهب السيل به، على أنه ليس في الحكاية على فرض صحتها ما يثبت ذلك لا بصريح الخطاب ولا بمضمونه فإن عمر لم يقل في مناشدته: دلوني على مكان موضع رسول الله له. ولم يقل المطلب أيضًا: إن هذا هو مكانه الذي وضعه فيه رسول الله ﷺ فعدم ذكر رسول الله في القضية مع شدة المناسبة إليه يدل على عدم وقوع التحويل منه، وهل عمر سأل عن المكان الذي وضعه فيه أولاً ليرده فيه ثانيًا، فقد ثبت حمل السيل للمقام من قول سفيان بن عيينة وابن أبي مليكة ولا يزال السيل يدخل المسجد الحرام على الدوام حتى أصيبت الكعبة بالأضرار منه مرارًا عديدة حتى كان هو السبب في بناء قريش لها قبل البعثة، وفي بناء ابن الزبير لها، ولا يبعد أن يكون هذا التصرف الحاصل من عمر في المسجد الحرام بتوسعته وبناء الحيطان له وعمل الردم لسد السيل عنه أنه ناجم عن أثر ذلك السيل، أي سيل أم نهشل أو غيره.
ونحن لا ننازع في ذهاب السيل به ورد عمر له إلى محله بعد ذهاب السيل به، وهذا من الأمر الجدير بألّا يشتهر أمره، ولا ينتشر ذكره، لكون السيل على الدوام لا يزال ينقل المقام من مكان إلى مكان كما ذكر في الحكاية نفسها، لكونه موضوعًا في السابق على سطح الأرض بدون تأسيس ولا تثبيت، فلأجله لم يذكره المؤرخون المعتبرون، أما تحويل عمر له من لصق الكعبة ابتداء من غير سبق وبدون سبب سوى توسعة المطاف للناس، فهو الذي ذكره علماء السلف والمؤرخون وسائر المفسرين للقرآن، ولا يبعد أن يكون ذلك سنة عشر حينما وسع عمر المسجد الحرام.
وقد طرق المؤرخون أخبار سنة سبع عشرة كالواقدي وابن سعد وابن جرير وابن الأثير وابن كثير وفيها أن عمر بن الخطاب اعتمر في رجب سنة سبع عشرة ووسع المسجد الحرام وأقام بمكة عشرين يومًا من أجل الإصلاح والتعديل وهدم على قوم أبوا أن يبيعوا بيوتهم ووضع أثمان دورهم في بيت المال حتى أخذوها، وأمر بتجديد أنصاب الحرم، أمر بذلك مخرمة بن نوفل والأزهر بن عبد عوف وحويطب بن عبد العزى وسعد بن يربوع. ذكره ابن الأثير، وفي الطبقات الكبرى لابن سعد قال: استعمل عمر على الحج بالناس أول سنة استخلف وهي سنة ثلاث عشرة عبد الرحمن بن عوف فحج بالناس تلك السنة ثم لم يزل عمر بن الخطاب يحج بالناس كل سني خلافته كلها فحج بهم عشر سنين وحج بأزواج النبي ﷺ في آخر حجة حجها وهي سنة ثلاث وعشرين، واعتمر في خلافته ثلاث مرات عمرة في رجب سنة سبع عشرة، وعمرة في رجب سنة إحدى وعشرين، وعمرة في رجب سنة اثنتين وعشرين وهو أخر المقام إلى موضعه اليوم وكان ملصقًا بالبيت. انتهى.
فهؤلاء المؤرخون لم يذكروا سيل أم نهشل، ولا فزع عمر ولا مناشدته الناس، ولا اعتماره من أجل هذا الخبر في رمضان، وقد انفرد الأزرقي برواية هذه الحكاية على نحو هذه الصفة، والأزرقي كما ذكر صاحب رسالة المقام بأنه لم يوثقه أحد من أئمة الجرح والتعديل، فهو على قاعدة أئمة الحديث مجهول الحال، وقد انفرد بهذه الحكاية قال: ويريبني من الأزرقي حسن سياقه للحكايات وإشباعه القول فيها، ومثل ذلك قليل فيما يصح عن الصحابة والتابعين، ويريبني أيضًا تحمسه لهذا القول، فقد روى في المجلد الثاني عن ابن أبي عمر بسند واه إلى أبي سعيد الخدري أنه سأل عبد الله بن سلام عن الأثر الذي في المقام وفيه في ذكر النبي ﷺ فصلى إلى الميزاب ثم قدم مكة فكان يصلي إلى المقام ما كان بمكة.
وقد روى الفاكهي هذا الخبر وفيها أن النبي ﷺ قدم مكة من المدينة فكان يصلي إلى المقام وهو ملصق بالبيت حتى توفي رسول الله ﷺ فأسقط الأزرقي قوله: وهو ملصق بالبيت حتى توفي رسول الله ﷺ. وجعل موضعها: ما كان بمكة. انتهى.