الفصل الثالث عشر
في تحقيق المقال في نقل عمر للمقام من لصق الكعبة إلى موضعه الآن ابتداء من غير سبق.
ثبت بالأقوال الصحيحة والآثار الصريحة أن المقام كان لصق الكعبة زمن النبي ﷺ وزمن أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر، وكذلك زمن الجاهلية بطريق اليقين، وكذا في زمن إبراهيم على ما قاله ابن عباس، فلما اتسعت الفتوح الإسلامية وامتد سلطان المسلمين على الأقطار الأجنبية وكثر الداخلون في الإسلام والقاصدون لحج بيت الله الحرام وصار المصلون عند المقام يعرقلون سير الطائفين بالبيت الحرام، كما أن الطائفين يؤذون المصلين بوطئهم بالأقدام فاقتضى رأي عمر أن يرفعه إلى حد المطاف، حيث رأى هذا الحد كافيًا للناس، فرفعه إلى مكانه الآن ووافقه على ذلك جميع الصحابة الكرام، حتى لم يختلف عليه منهم إنسان، واشتهر هذا النقل عند الناس وتحدث به العام والخاص، وحسبك ما ذكره في نقضه حيث قال ص 469: اشتهر تحويل عمر للمقام من تحت البيت عند الناس وتحدث به العام والخاص، ونقله الحاضر للغائب، فمن هنا حصل اشتباه أحد التحويلين بالآخر. انتهى.
فجوابه: إنه لا إشكال ولا اشتباه فإن هذا التحويل الذي اشتهر عند الناس وتحدث به العام والخاص هو الأول الذي لم يقع تحويل قبله، أفيصح في الأذهان أن يشتهر تحويل عمر للمقام ويخفى على الناس تحويل النبي ﷺ له لو وقع منه، ورسول الله ﷺ أجل قدرًا وأشهر ذكرًا من عمر وغيره؟! حتى إنه لم ينقل القول به عن أحد من الصحابة، ولو وقع من النبي ﷺ لنقل نقلاً متواترًا ترتفع به الجهالة أو الشك، وإذا جاء سيل الله بطل نهر معقل، فعدم نقل حفاظ السنة له يدل بطريق الوضوح على عدم وقوعه منه، والصحيح أن كلا التحويلين وقع من عمر فلا إشكال ولا اشتباه، ولنذكر من الأدلة ما يؤكد ذلك.
فقد روى البيهقي في سننه بسند صحيح «عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن المقام كان زمان النبي ﷺ وزمان أبي بكر ملتصقًا بالبيت ثم أخره عمر رضي الله عنه».
وقد اعترض صاحب النقض هذا الحديث بحجة أنه من كلام عروة، وقد صحح ابن كثير هذا الحديث وقواه ابن حجر وحسبك بهما معدلين، فكان عروة يحدث به عن عائشة مسندًا إليها وأحيانًا يحدث به بدون أن يسنده إليها ولا منافاة بينهما، فقد روى عبد الرزاق في مصنفه عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن رسول الله ﷺ وأبا بكر وعمر في بعض خلافته كانوا يصلون صقع البيت حتى صلى عمر خلف المقام. وروى ابن أبي حاتم في العلل عن أبي زرعة، عن أبي ثابت، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن المقام كان زمن رسول الله ﷺ وزمان أبي بكر ملتصقًا بالبيت ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فحديث عروة به على نحو هذا الوجه هو مما يدل على شهرته، فهو أقوى وأرجح من قول موسى بن عقبة لكون عروة من أوعية العلم ومن حفاظ السنة.
الوجه الثاني: ما روى عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج: حدثني عطاء وغيره من أصحابنا قال: أول من نقل المقام عمر بن الخطاب.
الوجه الثالث: ما روى عبد الرزاق، عن معمر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد قال: أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب. فهذا سند قوي، كلهم من رجال البخاري، وهو أصح ما ورد في هذا الباب عن مجاهد.
الوجه الرابع: ما روى ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سفيان بن عيينة، وكان إمام المكيين في زمانه قال: كان المقام في صقع البيت في عهد رسول الله ﷺ فحوله عمر بعد النبي ﷺ وبعد قوله تعالى: ﴿وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِۧمَ مُصَلّٗى﴾ قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه فرده عمر إليه. قال سفيان: لا أدري أكان لاصقًا بالبيت أم لا.
الوجه الخامس: ما روى مالك في المدونة قال: بلغني أن عمر بن الخطاب لما ولي وحج ودخل مكة أخر المقام إلى موضعه الذي هو فيه اليوم، وقد كان ملصقًا بالبيت في عهد النبي ﷺ وعهد أبي بكر وقبل ذلك.
الوجه السادس: ما روى ابن سعد في الطبقات الكبرى قال: اعتمر عمر ثلاث مرات، عمرة في رجب سنة سبع عشرة، وعمرة في رجب سنة إحدى وعشرين، وعمرة في رجب سنة اثنتين وعشرين، وهو الذي أخر المقام إلى موضعه اليوم وكان ملصقًا بالبيت. وتقدم قوله في قصة الفتح: إن النبي ﷺ طاف بالبيت على راحلته ثم جاء إلى المقام وهو لاصق بالكعبة فصلى خلفه ركعتين.
الوجه السابع: ما روى الأزرقي عن محمد بن يحيى قال: حدثنا سليم بن مسلم، عن ابن جريج، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن عبد الله بن صفوان قال: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عبد الله بن السائب العابدي، وعمر نازل بمكة في دار ابن سباع، بتحويل المقام إلى موضعه الذي هو فيه اليوم. قال: فحوله ثم صلى المغرب، وكان عمر قد اشتكى رأسه، قال عبد الله بن السائب: فلما صليت ركعة جاء عمر فصلى ورائي، قال فلما قضى صلاته قال عمر أحسنت، فكنت أول من صلى خلف المقام حين حول إلى موضعه.
وفي هذا الخبر دليل على صحة تحويل عمر للمقام ابتداء من غير سبق، لوجوه منها قوله: أمر عمر بتحويل المقام إلى موضعه الذي هو به اليوم، فلو كان مسبوقًا بتحويل من النبي ﷺ لما نسي ذكره في هذه القضية، ولقال أمر برده إلى المكان الذي وضعه فيه رسول الله ﷺ، أو على الأقل لقال أمر برده إلى مكانه إذ يبعد أن ينسى ذكر رسول الله ﷺ في هذا التحويل لو وقع منه، فعدم ذكر رسول الله ﷺ في هذه القضية يدل على عدم تحويله له، وأن هذا التحويل الواقع من عمر لم يسبق إليه أحد قبله، ومنها قوله: فحوله، ولو كان هذا التحويل مجرد رده إلى المكان الذي ذهب به السيل منه لقيده به حيث لا يتم الكلام بدون ذكره ومنها قوله: فكنت أول من صلى خلف المقام حين حوله إلى موضعه هذا، فهذه الصلاة تدل على أنها أول صلاة وقعت من إمام عند المقام بعد ما حول إلى ذلك المكان؛ لأن هذا هو حقيقة ما يتبادر إلى الأذهان وما يسبق إليه فهم كل إنسان ولو كان القصد من هذه الصلاة أنها بعد رده إلى المكان الذي ذهب به السيل منه لقيده به، حيث لا يتم الكلام بدونه ولا يفيد فائدة يحسن السكوت عليها إلا بذكره.
الوجه الثامن: ما روى ابن جرير الطبري في تاريخه قال: في حوادث سنة ثماني عشرة وزعم الواقدي أن عمر رضي الله عنه حول المقام في هذه السنة في ذي الحجة إلى موضعه اليوم وكان ملصقًا بالبيت قبل ذلك.
الوجه التاسع: قال ابن كثير في التفسير: كان هذا المقام ملصقًا بجدار الكعبة قديمًا ومكانه معروف اليوم، جانب الباب مما يلي الحجر، وكان الخليل عليه السلام لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة أو انه انتهى عند البناء فتركه هناك، وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحد الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين، وهو الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلاة عنده، ولهذا لم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
الوجه العاشر: قال ابن حجر في الفتح: كان المقام من عهد إبراهيم عليه السلام لزق البيت إلى أن أخره عمر رضي الله عنه إلى المكان الذي هو فيه الآن، ولم تنكر الصحابة فعل عمر ولا من جاء بعدهم فصار إجماعًا، وكأنه رأى أن إبقاءه لزق البيت يلزم منه التضييق على الطائفين وعلى المصلين فرفعه في مكان يرتفع به الحرج وتهيأ له ذلك؛ لأنه الذي أشار باتخاذه مصلى. انتهى. فهذا ابن حجر الذي هو قريع أقرانه وحافظ السنة في زمانه، وقد عد له مائة وخمسون مؤلفًا في الحديث والفقه واللغة وتراجم الصحابة والتابعين ورواة الحديث والتاريخ والسير، وأعجبها فتح الباري الذي بلغ فيه من التحقيق والإتقان ما لا يخطر بالأذهان حتى صار مثالاً رائعًا لدى العلماء في سائر الأزمان والأوطان ينسب كل قول إلى راويه مع بيان علله ومنافيه وما عسى أن يقال فيه، ورجح كون عمر بن الخطاب هو الذي حول المقام من لصق الكعبة إلى موضعه الآن، ومع هذا يقول صاحب النقض إنه قاله تقليدًا لابن كثير ومعلوم أن المقلد لا يعد من أهل العلم:
كم سيد متفضل قد ذمه
من لا يساوي طعنة في نعله
إن صاحب النقض قد سار على سنة سيئة من أمره، وهي أن يرمي كل قول يخالف رأيه بالتضعيف والتصحيف كما يقول في خبر مالك حيث قال: بلغني أن عمر لما حج واعتمر نقل المقام إلى موضعه الآن. فتراه يقول: إن مالكًا لم يبلغه تحويل رسول الله ﷺ له وصدق، لأنه لو وقع التحويل من رسول الله ﷺ لبلغه، ومع عدم تحويله لم يبلغه لكون الناس إنما يتحدثون بالأمور الوجودية، أما الأمور العدمية فلا يتحدث بها الناس إلا على سبيل إبطالها والتكذيب بها، ويقول في خبر عائشة الذي رواه البيهقي بسند صحيح عنها قالت: إن المقام كان على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر ملصقًا بالبيت إلى أن نقله عمر بن الخطاب. فتراه يقول: إنما روي هذا الخبر عن عروة، فهو الذي حدث به. ولا شك أن عروة من أوعية العلم ومن حفاظ السنة، وقد حدث به عن عائشة مسندًا إليها، وأحيانًا يحدث به بدون أن يسنده إليها ولا تنافي بينهما لكون المحدث له حالات أحيانًا يستقصي الحديث بسنده، وأحيانًا يقتصر فيذكر معناه وموجبه، والمثبت عند أهل الأصول مقدم على المنافي، وحديثه به بدون أن ينكر عليه فيه أحد يدل على شهرته وصحة ما يدل عليه، مع العلم أن العهد منه قريب بزمن عمر، كيف وقد اعتضد بقول مجاهد وعطاء وسفيان بن عيينة ومالك بن أنس ومحمد بن سعد والواقدي وابن كثير وابن حجر وابن الجوزي وغيرهم؟ فكل هؤلاء الثقات الأثبات قد اتفقوا على تحويل عمر للمقام من لصق الكعبة بلا سبب يوجبه سوى توسعة المطاف للناس.
فمن أراد أن يدفع هذه الأخبار الصحيحة الصريحة بشبه مزيفة وأباطيل محرفة وتشكيكات وذبذبة، فقد سلك سبيل السفسطة وجنف إلى الجور وجانب العدل.
وهذا الكاتب قد سار في نقضه على سنة سيئة من أمره، وهي أن يأخذ من أقوال المؤرخين غير المعتبرين وغير المعروفين بالعلم والحديث كالأزرقي وابن فهد وابن سراق العامري وابن فضل الله العمري وابن جبير ومن الدر المنثور للسيوطي، فيأخذ من أقوال هؤلاء ما يوافق غرضه وهواه ويزيد عليها من نفسه ثم يجعلها قضايا مسلمة وأصولاً معتمدة، ويلتمس الدلائل الضعيفة لإثباتها وإبطال ما خالفها ولو بالتأويل والاحتمال والكذب والاحتيال.
وها هنا أمر خفي ينبغي التفطن له، وهو أن المتصدين للتأليف في السير والتاريخ والتفسير والحديث وتراجم الصحابة والرواة كابن إسحاق وابن سعد والواقدي وابن جرير وابن حجر ونحوهم، إنهم بسبب مزاولتهم في سبيل التأليف للبحث والتفتيش والفحص والتمحيص ووقوفهم على الأقوال المختلفة والكتب المؤلفة إنهم يظهر لهم من حقائق العلوم والمعرفة والحكم الخفية ما لا يخطر ببال أحدهم قبل البحث والمراجعة، وما قد يخفى على غيرهم ممن ليس له عناية بالتأليف، كما أننا قبل هذا البحث لم نكن نعرف حقيقة المقام وما جرى له من تطورات الانتقال من مكان إلى مكان لولا الحاجة التي أوجبت علينا المراجعة في خصوصه، والحاجة هي أم التدقيقات والغوص في التحقيقات، كما أنها أم الاختراعات لأمور الحياة، والعلم ذو شجون يثيره البحث والتفتيش ويزيده المناظرة والتأليف ويدل بعضه على بعض ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وإنما لقب ابن حجر بالحافظ من أجل طول باعه وسعة اطلاعه في شتى العلوم والفنون أفيكون مثله مقلدًا لابن كثير في قول قيل قبله بدون علم ولا بصيرة من أمره؟! هذا بهتان عظيم ﴿يَعِظُكُمُ ٱللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثۡلِهِۦٓ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ١٧﴾ [النور: 17].
* * *